لقد انتهى الاحتلال الأجنبي من كل دول العالم، لم تبق إلا فلسطين، التي راحت ضحية الحكام العرب منذ عام ١٩٤٨، وما أعقبها من فرص ضائعة، إلى أن انتهى الأمر بالقضية إلى المصير الذي نتابعه لحظة بلحظة، وقد اختُزل في الحرب على غزة، التي راحت تدفع الثمن من استشهاد أبنائها وهدم منازلها ومرافقها وتشريد سكانها، تحت نظر العالم المتحضر، الذي رأى المقتول قاتلًا، والمظلوم ظالمًا، وهو أمر لا نظير له في تاريخ البشرية، ورغم ما آلت إليه القضية، بعد أن اكتفينا بالخطب العصماء والغناء (أمجاد يا عرب أمجاد)، ورغم المظاهرات الأخيرة التي ملأت شوارع مدننا العربية، والكثير من ميادين العالم – إلا أن القضية لا تزال معلقة، وأهل غزة يموتون تحت وابل من النيران الإسرائيلية، ولم نشهد حتى كتابة هذا المقال موقفًا ينبئ بانفراجة في المشهد المأساوي.
إذا كان ثمة ما يستحق الكتابة بشأن المشاهد التي أرهقت كل أصحاب الضمائر الحية في العالم، إلا أن أمورًا كثيرة تستحق التنويه، وجميعها تبدأ من البيت الفلسطيني، الذي لم يكن موحدًا في أي وقت، لكن الجديد هذه المرة، والخطير أيضا، هو انقسام الفلسطينيين داخل الأرض الفلسطينية، بعد أن كانوا منقسمين في دول الشتات، وقد اكتفى زعماؤهم بالغنائم التي حصدوها. حكومتان إحداهما في رام الله، والثانية في قطاع غزة، وقد بُذلت محاولات لجمعهما في جبهة واحدة إلا أنه من المُلاحظ أن القضية في القطاع قد اختطفها فريق بذاته، وأحالوها إلى دين بدلًا من كونها قضية سياسية، وبدلًا من أن يفكروا بمنطق الساسة، راحوا يسترجعون من التاريخ حلولًا من أزمان غير أزمانهم، بعد أن راحوا يتعاملون على أنهم حكام وليسوا فصيلًا سياسيًا، لهم حكوماتهم، وميزانياتهم، وعلاقاتهم الخارجية، وهي سياسة باعدت بينهم وبين الحكومة الأخرى في الضفة، التي يترأسها محمود عباس (أبو مازن).
الخطير في الحالة الفلسطينية، تلك العلاقات المعقدة بين السلطة الفلسطينية في رام الله، والسلطة الأخرى في غزة، التي تسيطر عليها جماعة حماس. ومن المؤكد أن الرؤيتين لا تتفقان مع بعضهما أبدا، فبينما حماس ترى حل القضية على أساس ديني، ولا تعترف بأية حلول سياسية من جانب السلطة في رام الله، رغم أن أية حلول منطقية بالضرورة هي حلول دينية (يكمن شرع الله حيث تكمن مصالح الناس)، وبما أننا لسنا بمفردنا في العالم، ومن غير المنطقي أن نقدم خطابًا أيدلوجيا ذا طابع ديني، وهو أمر لم يعد مقبولًا من العالم الذي يملك مقاليد أمورنا، رضينا أم لم نرض، لذا فان الخلاف الفلسطيني الفلسطيني أمر معقد للغاية، والرؤى متباعدة جدا بين الطرفين، وعلينا أن نعترف بصراحة بأن كثيرًا من سياسات الطرفين قد اختُطفت من بعض الدول العربية، وهو ما يزيد المشهد تعقيدًا وبؤسًا.
إذا كان الإخوة أصحاب القضية لم يستفيدوا من الفرص التي بددوها، إلا أن ما يحدث الآن في قطاع غزة قد أعاد القضية الفلسطينية على رأس المشهد السياسي في العالم، لدرجة أنها طغت على الصراع الروسي الأوكراني، لذا فهل نستفيد من التجارب الفاشلة التي آلت بالقضية الفلسطينية إلى هذا المشهد البائس؟ وهل ما يحدث للفلسطينيين سواء في قطاع غزة أو الضفة من عمليات غير آدمية لا مثيل لها إلا ما حدث للأرمن والغجر واليابان (هيروشيما وناجازاكي) في الحرب العالمية الثانية.
إذا كان ثمة حلول متاحة ناجمة عن الأحداث التي تجري في غزة، التي زادت التصريحات بشأنها في الآونة الأخيرة من بعض زعماء العالم، والدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧، فهل يمكن للإخوة في غزة ورام الله أن يجلسوا فيما بينهم لحسم الصراع، وتوحيد الصفوف، والإعداد لتقديم رؤية موحدة تمثل كل الفلسطينيين؟ وهل يمكن للعقلاء من حكامنا العرب، وخصوصًا من الدول ذات الاقتصاد الكبير أن تدفع بثقلها بحكم أن العالم الجديد يحكمه الاقتصاد لمساعدة الفلسطينيين لكي يصلوا إلى اتفاق فيما بينهم؟
انكشفت المؤامرة التي كانت تحاك لمصير الفلسطينيين، التي كادت أن تدفع بالقضية إلى نهايتها، بعد أن تبين طبيعة ما كانوا يسمونه بـ(الشرق الأوسط الجديد)، وهو الدفع بالفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، ليقيموا وطنًا بديلًا لهم، وقد تبين أن السيناريو كان معدًا منذ حكم الرئيس باراك أوباما، وأوشك إلى أن يتحقق على أرض الواقع ويتحول إلى حقيقة ابتداء من فترة حكم جماعة الإخوان في مصر، وصولًا إلى ما يحدث الآن في غزة من الدفع بالفلسطينيين، بعد أن تهدمت منازلهم واستهدفت مستشفياتهم، والدفع بهم إلى جنوب قطاع غزة في اتجاه رفح، للضغط على الحكومة المصرية لتنفيذ السيناريو المطلوب. ولم يسأل هؤلاء المتآمرون الذين ينادون بالديموقراطية وحقوق الانسان، أن من حق المظلوم أن يدافع عن ظلمه، ألم يكن من حقوق الإنسان في أدبيات مجلس الأمن هو حق الناس في التمسك بأرضهم ومنازلهم وبذكرياتهم، حتى ولو كانت ذكريات «بائسة»؟
لقد تبين من سياسات أمريكا ومن ورائها بعض الدول الأوروبية، إنهم وراء كل مآسي العالم، وأنهم وراء الدول المستقوية بصرف النظر عن حقوق المستضعفين في أي بقعة من العالم. الفكرة التي أشار إليها رئيس وزراء إسرائيل (نتانياهو) في تصريحاته الأخيرة أكثر من مرة، تستهدف الدفع بالمنطقة إلى سياسات جديدة، قوامها إسرائيل وبعض أصدقائها من العرب، لكي تكون إسرائيل هي المهيمن على الشرق الأوسط، لسبب لا يتجرأ البعض على البوح به، وهو الخوف والهلع من قوى إقليمية بذاتها، معروف عنها العداء لإسرائيل، بعد أن امتلكت لها أذرعًا في عدة عواصم عربية.
إذا كان العرب يبحثون عن طريق للتخلص من القضية الفلسطينية، التي أصبحت عبئا عليهم، فعليهم أن يعودوا إلى أصحابها الحقيقيين للوقوف على رأيهم.
الفلسطينيون، بما فيهم المقيمون في بلاد المنافي والبلاد العربية ما يزالون يحملون في سترات ملابسهم مفاتيح منازلهم التي طردوا منها عام ١٩٤٨، على أمل العودة إلى فلسطين، ولعل ما حدث في السابع من أكتوبر قد ضاعف من حلمهم بالعودة، التي قد تكون قريبة جدًا.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قطاع غزة إذا کان بعد أن إلا أن فی غزة
إقرأ أيضاً:
الصاروخ والمُسيرة من بين المعاناة: اليمن يصنع قراره من نور القرآن لا من فتات العالم
يمانيون ـ حزام الأسد*
في زمن تتصدّر فيه عناوين الرفاهية، والشكوى من ضيق المعيشة، وانقطاع المرتبات، يخرج البعض ممن يجهلون طبيعة الصراع أو يتجاهلون أسبابه ليتساءلوا: لماذا تصنع اليمن الصواريخ والمسيّرات في وقت الجوع؟ ولماذا لا تُنفق تلك الموارد على تحسين الوضع المعيشي؟.
سؤال يبدو للوهلة الأولى مشروعاً، لكنه في الحقيقة امتداد لدعاية العدو، وترديد لخطاب الخضوع، وتبرئة لمن حاصر ونهب ودمّر، وتحميل المظلوم وزر ما جناه الظالم. هذا المقال يُقارب المسألة من جذورها الإيمانية، ويُسقطها على الواقع السياسي والعسكري، مستعرضًا تجارب دولية راهنت على السلاح من قلب المعاناة، لكنه يُبيّن في الوقت نفسه أن اليمن، بقيادته القرآنية، يختلف جوهريًا في المنطلق، والمنهج، والغاية.
بين بوتو وماو… والسيد القائد
“سوف نأكل العشب وأوراق الشجر وسنجوع، لكننا سنحصل على قنبلة تكون ملكنا.”
بهذه العبارة الشهيرة أعلن ذو الفقار علي بوتو، رئيس وزراء باكستان الأسبق، في ستينات القرن الماضي، بداية مشوار بناء السلاح النووي لبلاده. كانت باكستان حينها دولة فقيرة، محاصرة بالتهديد الهندي، وبحرب الاستنزاف، لكنها اختارت أن تجوع بكرامة، لا أن تعيش في ظل الخوف.
أما في الصين، فقد كانت المجاعة في أشدها، وعشرات الملايين يموتون جوعًا، والعالم يتعامل مع الصين كـ”دولة مارقة” غير معترف بها دوليًا، لا صوت لها في الأمم المتحدة، ولا مقعد في مجلس الأمن، لأن أمريكا وحلفاءها أبقوا تايوان بديلاً عنها في تمثيل “الصين” دوليًا.
ومع ذلك، قال ماو تسي تونغ عبارته المفصلية: “من لا يملك القنبلة الذرية سيُجبر على الركوع.”
وبعد أعوام قليلة من تفجير أول قنبلة نووية عام 1964، تغيّر كل شيء: استعادت الصين مقعدها الدائم في مجلس الأمن عام 1971، واعترف بها العالم كقوة لا يمكن تجاوزها، وبدأت رحلة نهوضها العظيم.
لكن اليمن… شيء آخر
نعم، باكستان صنعت القنبلة من العشب، والصين من الرماد، لكن اليمن ليس نسخة منهما. نحن لم نبنِ مشروعنا العسكري من منطلق قومي أو مادي، بل من صميم التوجيه القرآني: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…” هذه الآية ليست تكتيكًا حربياً، بل منهجاً حضارياً، وقاعدة ربانية تؤسس لردع الطغيان وصون السيادة.
اليمن يصنع سلاحه لأن الله أمره. نصنعه لأن القوة شرط من شروط الإيمان، ولأن الذل لا يليق بالمؤمنين. نصنعه من قلب المعاناة، وتكالب الأعداء، لا برغد الوفرة. ونبنيه بقيادة مؤمنة، لا بزعامات قومية أو عسكرية.
السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، حفظه الله، لم يقل “سوف نأكل العشب لنصنع سلاحنا”، بل قال: “سنتوكل على الله، وسنواجه، ولن نركع إلا له، وسنعدّ ما استطعنا من قوة.” وهنا يكمن الفارق الجوهري: قيادتنا لا تقايض قوت يومنا بكرامة أمتنا، بل تربط الجهاد العسكري بالجهاد الاقتصادي، وتعتبر الصبر على الضيق جزءا من تعبيد الطريق إلى النصر.
وهم الرواتب ودجل المرتزقة
يرفع المنافقون اليوم شعار “المعاناة مقابل الصاروخ”، محاولين زرع التذمر في نفوس أبناء شعبنا. لكن الحقيقة الساطعة هي أن هؤلاء أنفسهم هم من تسببوا بالمعاناة الاقتصادية:
• هم من استجلبوا العدوان على شعبهم خدمةً لمشاريع أسيادهم في الخارج.
• وهم من نقلوا البنك المركزي من صنعاء إلى عدن.
• وهم من التزموا أمام المجتمع الدولي بدفع المرتبات ثم تنصلوا.
• هم من شاركوا في الحصار، ونهب الثروات، وحوّلوا موارد الدولة إلى بنوك السعودية.
• وهم من اعترفوا بأن أموال المرتبات مودعة في البنك الأهلي السعودي، تُستخدم للابتزاز والمقايضة السياسية.
ورغم ذلك، لم يتوقف التصنيع العسكري، ولم تُشل الإرادة، لأن معركتنا لا تُدار بالحسابات البنكية، بل بالإيمان، والصبر، والتوكل على الله.
ختاماً… معادلة الحق والنصر
نعم، عانينا كما عانى غيرنا، لكننا لم ننهَر، ولم نركع، بل اخترنا أن نستمر في معركتنا المقدسة: أن نصنع قوتنا، ونبني سلاحنا، ونحرّر قرارنا، وندفع ثمن ذلك من ضيقنا لا من كرامتنا.
في اليمن، لا توجد مجاعة كما يزعم المهرجون في إعلام العدو، بل معاناة اقتصادية وضيق معيشي صنعه العدوان ومن استجلبه، ويستثمر فيه المنافقون من الفنادق والمنتجعات السياحية لنفخ اسطواناتهم المشروخة، بينما الشعب صامد وواعٍ ومدرك أن العدو هو من يحاصره، وأن السلاح الذي يُصنع اليوم هو طريق الخلاص ووسيلة الردع وراية الكرامة.
في اليمن، بفضل الله وتوفيقه لم نعد نُدافع عن أنفسنا فقط، بل نساند إخواننا المستضعفين في غزة، نحاصر العدو الصهيوني في البحر، نستهدف عمقه الوجودي، ونتصدّى للأمريكي ونكبّده الخسائر ونهزمه…
لأننا وثقنا بالله، وتسلّحنا بالإيمان، وصنعنا سلاح الردع.
وهذا هو الفارق بين تجارب اختارت أن تُضحّي لتحيا بكرامة، وتجربتنا الإيمانية التي تجعل من التوكل على الله منطلقًا، ومن القرآن مصدرًا للقرار، ومن التصنيع والتطوير العسكري عبادةً وجهادًا.
وإن سألونا: من أين لكم هذه القدرة؟
نقول: من الله تعالى، من المشروع القرآني، من القيادة الربانية المؤمنة والشجاعة، من ماء الشهداء وآلآم الجرحى، من المعاناة، من الوعي الجمعي لشعب الإيمان والحكمة ومن يقين لا يتزعزع بأن العاقبة للمتقين.
* عضو المكتب السياسي لأنصار الله
* موقع انصار الله