على دروب النضال من أجل الحرية ،الاستقلال والسيادة بذلت شعوب عديدة تضحيات متباينة . ذلك البذل اشتمل على معايشة أشكال من التعذيب و التهجير . لكنما لا سيرة شعب تشابه ملحمة البذل ، الصمود والبقاء كما كما الفلسطينية .فعلى مدى عشرات العقود تتوارث أجيال أعباء كتابة حكايات يومية يتماوج في نسيجها إلى جانب الدم ،الفداء ، العطاء ممارسة الحياة العائلية على سفافيت التعذيب والإضطهاد تحت وطأة الاحتلال .
*****
عديد من الشعوب ذاقت ويلات التهجير ، قساوة حياة معسكرات اللجوء، مرارات تجارب المنافي مع نوبات الحنين إلى دفء العشيرة المبعثرة ورائحة الوطن .ربما التفرد الفلسطيني الصارخ في هذه السيرة يتجسد في مخطط الاقتلاع الممنهج وعمليات التهجير الجماعي بحلقاته المنجزة على حيز زماني قياسي دون مثيلاتها ،والمستهدفة لا تزال . هو تفرد يزداد توهجاً بالاستماتة الفلسطينية في القبض على ذرات الأرض و جذور الشجر وجزع التاريخ مقاومة صنوف الضغوطات والإغراءات.غزة هي الحلقة الراهنة لكنها ليست ليست الأخيرة في ملحمة الصمود والبقاء.
*****
فطوال هذه العقود من السنين ظل الفلسطينيون يتأرجحون وسط تيارات من المحن القاسية تنشط دونما تهوي بهم في درك الحرب أو تنأى بهم إلى مرافئ السلام. فقط هم محمّلون بأثقال من دفاتر الخسارات الفادحة في البشر ، الشجر والحجر ومثلها كراسات من التذكارات الفاتنة والأحلام الخائبة المنقوشة (غرانيكا) بلا حدود على امتداد الوطن العربي، بل جهات المعمورة الأربع. استثمارا لوعد ميتافيزيقي استنفرت عواصم وشخصيات غربية قواها من أجل زرع اسرائيل في قلب العالم العربي .في ذلك الجهد صبت باريس،لندن وبرلين ثم واشنطن جهودا متباينة بغية تسديد فواتير أو تحقيق مكاسب أو إنجاز المهمتين معاً.الذاكرة العربية الجمعية تجتر فقط وعد بلفور.
*****
مقابل ذلك الاستنفار من أجل اليهود طرحت الجهات ذاتها عروضا تتراوح بين الإغراء والتحريض بغية اقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم .التاريخ يشير بأصبع الإتهام إلى الجنرال الفرنسي نابليون بإثارة المسألة اليهودية ثم رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون بتقديم وعود اقتصادية للسلطان العثماني في العام ١٨٤١ مقابل السماح لليهود بالهجرة ألى فلسطين كما حض السلطان على تهجير الفلسطينيين إلى شمال العراق. لكن بنيامين دزرائيلي ذهب أبعد من بالمرستون في دعم اليهود ربما كونه الوحيد بين رؤساء الحكومة البريطانية يهودي الإنتماء. شمال العراق نفسه استهدفته الإدارة الاميركية في العام ١٩٩٤ وجهة لتهجير الفلسطينيين ، إذ أغرت واشنطن بغداد برفع الحصار مقابل قبول استقبال ساكني مخيمات لبنان في الشمال .تلك خطوة استهدفت تفكيك الضغوط المتكاثفة على اسرائيل في شأن حق العودة.
*****
الذاكرة الشعبية القومية محشوة بالعديد من الأسماء العربية والغربية على نحو مرتبك ومربك.فالجميع يذكر الشريف حسين ،الملك حسين ، الملك عبد الله وخادم الحرمين عبدالله،عبد الناصر والسادات،عرفات ورابين،كامب ديفيد وأوسلو، شاوسسكو والشاه القضية العربية المركزية والوطن البديل،شارون والجميل، الحرب والتطبيع ،الأرض مقابل السلام، اختراق الحاجز النفسي وبناء الجدار العازل. الكفاح المسلح والعمل الإرهابي ، .نظام عالمي جديد وفوضى خلاقة.لكن تباين الرؤى يغلب التوافق ازاء كل هذه الأسماء و المصطلحات .لذلك كله ليس مستغربا سقوط العقل السياسي العربي ملتبسا تجاه أحدث موجة التهجير الدامية الراهنة في غزة. هي العقلية ذاتهاالمرتبكة في سوريا ، اليمن ، العراق كما السودان.
*****
هذا الارتباك المكين غيّب عمداً إضاءات عربية بناءة، منها تحريض عبد الناصر الملك حسين قبيل مغادرة الخرطوم على كسر اللاءات الثلاثة بالسعي لمفاوضة الإسرائيليين حتى إذا اقتضى ذلك (تقبيل أيدي الاميركيين )من أجل استرداد الضفة وغزة استباقا لما سيفعله اليهود فيهما.هذه الرواية لا تعكس فقط نفاذ رؤية ناصر بل تبلور انموذجا لتحرير العمل السياسي من القوالب الجامدة.هو السقوط الملتبس غير القادر على التقاط تحذير وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر لاحقا من خطورة تداعيات المستوطنات أمام كل جهود للسلام .هو الالتباس مغمض العينين عن تدافع الميليشيات عابرة الحدود لجهة الرافدين أو النيلين.فجميعهم عقبات أمام السلام.
*****
خيال مصممي ومنفذي ( طواف الأقصى ) لم يبلغ حتما العودة الآمنة دعك من اقتياد عشرات الأسرى. ربما هي مهمة انتحارية جماعية. ذلك ليس هو النجاح . قطفة الحصاد في العملية هوهز شجرة الكيان الإسرائيلي ، حتى فقدان الثقة بتفوقه العسكري و أمنه الجاذب ليهود الشتات . الإخفاق ليس فقط فيما تتعرض له غزة من التوحش في التقتيل والتدمير -ذلك وبال تقاصرت دونه توقعات المصممين - بل في انكشاف ضياع (القضية المركزية) العربية.فكل شعب عربي منشغل حاليا ب محنة قطرية بدلا عن القضية القومية المركزية .لذلك يغلب العجز على الفعل تجاه المذبحة وعمليات التهجير القسرية تحت فوهات القصف الجوي والأرضي .ربما أمسى العيش في الملاذات الطارئة ظاهرة عربية قومية معاصرة وسط المحن القطرية!
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: من أجل
إقرأ أيضاً:
شماعة جثامين الأسرى..!
فى تطور ربما لا يمثل أى مفاجأة للمتابعين لتطورات اتفاق وقف الحرب على غزة، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى مساء أمس الأول عن أن نتنياهو وجه القيادة العسكرية بتنفيذ ضربات قوية فى قطاع غزة على الفور. وبغض النظر عن الأسباب المعلنة لهذه الخطوة من الواضح أن تل أبيب تبحث عن حجج أيًا كانت وجاهتها لاستئناف حربها على غزة بعد اتفاق شرم الشيخ والذى ثارت شكوك مختلفة بشأن التزامها به.
الغريب هنا أن إسرائيل ترفع شماعة جثامين الأسرى للتحلل من التزامها رغم يقينها باستحالة عودة الجثامين كاملة لأسباب عملياتية ليس لموقف حماس أى دور فيها، حيث توجد صعوبات بالغة فى التوصل الى إخراج الجثث فى ضوء الدمار الشامل الذى لحق بقطاع غزة والذى تعد العمليات العسكرية الإسرائيلية السبب الرئيسى فيه. وإذا كانت إسرائيل على مدار عامين لم تستطع أن تصل الى الأسرى الأحياء فى غزة، فكيف يمكن للمقاومة أن تصل إلى الجثامين والتى ينطبق عليها ما ينطبق على الفلسطينيين فى غزة من إمكانية التعرض للوجود بين الأنقاض التى يصعب الوصول اليها وهو ما أشار اليه بيان حركة حماس بشأن تغيّر طبيعة أرض غزة، واستشهاد من كانوا يعرفون مواقع الدفن. ولعله مما يقوض الحجة الإسرائيلية إقدام مصر على المشاركة فى عملية البحث عن الجثامين من خلال ارسال فرق مزودة بمعدات ثقيلة للمساعدة فى تسريع الوصول الى رفات الأسرى وهو ما يشير إلى أن الأمر يتعلق بصعوبات على الأرض وليس تعنتًا من حماس.
وتثير هذه الحجة نقطة بالغة الأهمية تتعلق بأنه إذا كانت إسرائيل تبكى على هذا النحو على جثامين مواطنيها فماذا عن الأكثر من سبعين ألف شهيد الذين راحوا ضحية عملية الإبادة فى غزة فضلًا عن مئات الالاف من المصابين الفلسطينيين. من المتصور أن الأمور لو سارت بمقتضى منطقى وعقلى فإنه يجب على إسرائيل ان تدفع تعويضات وتتم محاكمة قادتها الذين يتبجحون بشماعة جثامين الأسرى.
من النقاط المهمة على هامش النظر لتلك القضية موقف عائلات الأسرى والذى يكشف عن جانب من طبيعة المجتمع الإسرائيلى وموقفه الهش من السلام، فتلك العائلات التى كانت تتظاهر ضد نتانياهو بالأمس مطالبة بالمرونة مع حماس تدعو اليوم الى تعليق المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار لحين تسليم بقية رفات الجثامين.
السؤال فى ظل لغة الاستقواء التى تبدو فى لهجة نتانياهو هو: هل أخطات حماس بإقدامها على قبول وقف النار رغم توقعها بالوصول إلى تلك الحالة من عدم التزام إسرائيل به؟ الواقع يقرر أن حماس لم يكن لديها سوى القبول بتلك الخطوة والتى تنزع عن إسرائيل حجة الحرب التى كانت ترفعها وهى تحرير الرهائن. كما أن الرؤية الدقيقة لتطورات الأمر تشير إلى أن القبول بوقف الحرب جاء تحت ضغط من ترامب على نتانياهو ليس حبًا من الرئيس الأمريكى فى السلام وإنما طمعًا فى الحصول على جائزة نوبل للسلام.. ما يطرح شكوكًا بأن عدم حصوله عليها ربما أعاده ويعيد الأمور إلى سيرتها الأولى.
بعيدًا عن أى أوهام ربما تمضى إسرائيل قدمًا فى عملياتها العسكرية فى غزة لمزيد من التعقيد للأوضاع على الأرض لعرقلة مهمة حماس فى الوصول إلى رفات الجثامين، وبالتالى تعزيز ذرائع مواصلة الحرب واذا وضعنا فى الاعتبار أن نتنياهو لم يكن يهمه الأسرى الأحياء فما بالنا بالجثامين.. ربما يؤكد ذلك النية الإسرائيلية المبيتة لمواصلة الحرب ما لم تجد من الوسطاء وخاصة الولايات المتحدة ما يوقفها ويلزمها باستكمال اتفاق وقفها.
[email protected]