عصام الدين جاد يكتب: "قناع" الكيان الصهيوني
تاريخ النشر: 10th, December 2023 GMT
يشهد التاريخ على مدى انحياز الغرب الأعمى للكيان الصهيوني المحتل، وليس الأمر بقريب بأعمال القتل والذبح والتشريد الحالية، بل هو أبعد من ذلك بتزييف التاريخ والأساطير الدينية، الذي بدأ بكذبة أسطورة "حائط المبكى" المزعومة، التي أطلقوها على "حائط البراق"، ذلك الأثر الإسلامي العتيق.
وكان هذا الحائط أول ثمار تزييف التاريخ بمساعدة الغرب، فلم تبدأ تلك الأكذوبة إلا بعد وعد بلفور عام 1917، كما أوهموا العالم بأنهم يُقتلون وأن هذه أرضهم الموعودة، وأنها أرض السلام شريطة أن يكون هذا السلام بوجودهم، وهكذا فليس بغريب أن يسمعهم العالم الآن وهم يدّعون حق الدفاع عن النفس.
وهكذا فإن وحشية الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، أحد أسبابه الرئيسية هو صمت المجتمع الدولي المخدوع "بإرادته" الذي يعمي عيونه عن حقيقة سياسة التهجير التي تتبعها الآن دولة الاحتلال المسماة إسرائيل.
ولم يعط الغرب المتمثل في حكومات الدول الأوروبية وأمريكا، بعضًا من طاقته الإعلامية أو الحقوقية لوقف هذه المأساة، على الرغم من تدخله في بعض شئون الدول التي تُفرض عليها الحصارات أو المقاطعات الاقتصادية لأسباب أقل وأوهى.
ولم ير هذا الغرب الأعمى أن ما يحدث مع الفلسطينيين عقاب جماعي دموي، وجرائم حرب مكتملة الأركان.
ورسالة أوجهها إلى من يشككون في موقف مصر من سياسة التهجير الصهيونية، فإن مصر بقيادتها السياسية الحكيمة ومؤسساتها ونقاباتها وشعبها، تقف موقفًا مشرفًا فعلًا وقولًا، يدل على مدى إيماننا بأن التهجير خطر على أمتنا العربية.
فلقد أعادت مصر حكومة وشعبًا، معنى التمسك بالقومية والهوية العربية، وخاصة الفلسطينية، وستظل مؤمنة بأن القضية الفلسطينية هي قضية الشرف والكرامة، وأن الشعب الفلسطيني هو صاحب الأرض مهما فعلت الدولة الصهيونية وساندها الغرب الأعمى.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
هزيمة الغرب من داخله
كتب د. بدر الشيدي قبل أسبوعين مقالا في جريدة عمان بعنوان «في هزيمة المنتصر» ناقش فيه التمزق والانحدار الأخلاقي الذي يتوارى خلف أقنعة القوة الغربية مؤكدا أن الغرب الذي يعتقد أنه منتصر هو في حقيقته مهزوم، وقد هزمته معاييره المزدوجة وانتهاكه للقوانين الإنسانية، وهو مهزوم كذلك بسبب صعود الأحزاب الشعبوية التي تقوض كل قيمه ومبادئه التي أكسبته شرعيته خلال القرن الماضي.
طرح الدكتور بدر مهم لأنه يقرأ ما يحدث في الغرب بدقة، وفيه تشخيص لا ينطلق من موقف ثقافي أو وجداني نتيجة موقف الغرب مما يحدث في غزة ولكنه تحليل يمكن أن نرصد صداه اليوم في الغرب نفسه، وهو صدى يتجاوز حتى حراك طلاب الجامعات، رغم أهميته، لنجده فيما يطرحه بعض المفكرين الغرب أمثال نعوم تشومسكي ومؤخرا المفكر الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الجديد «هزيمة الغرب».
لا يطرح إيمانويل تود رؤية نقدية للسياسات الغربية ونتائجها ولكن يروي تاريخا من الانهيار الداخلي الطويل الذي يتمثل في فقدان الغرب لرسالته الحضارية، وتحوّله من مشروع فلسفي وإنساني إلى مشروع مادي صرف، فقد البوصلة الأخلاقية التي جعلت من «الحداثة الغربية» مرجعية كونية في فترات طويلة سابقة. من وجهة نظر تود، لم تعد الهزيمة حدثا عسكريا أو أزمة سياسية، بل أصبحت عملية تراكمية من التفسخ القيمي والانحدار المعنوي، تخاض دون معارك، وتُحسم من الداخل.
لم يهزم الغرب لأن أحدا هزمه بل لأنه انهار من تلقاء نفسه. لم ينتصر عليه خصم بقدر ما هزم ذاته حين اعتبر أن انتصاره هو قدر نهائي مغلق. وهذه هي المفارقة الفلسفية الكبرى: أن تُهزم لا حين تخسر معركة، بل حين تفقد قدرتك على طرح معنى جديد للعالم.
يتتبع تود في كتابه خيوط هذا الانحدار انطلاقا من الولايات المتحدة، التي تحولت إلى قوة عسكرية واقتصادية عاجزة عن إدارة العالم، ثم إلى أوروبا التي تحولت من مشروع تكامل إنساني إلى مكان للقلق والانغلاق والتفكك الديموغرافي والثقافي. وفي الحالتين، لم تكن الهزيمة في العتاد أو في الفعل، بل في الفكرة، في تآكل النماذج التي جعلت من الغرب ذات يوم قوة ملهمة.
من هذا المنظور، فإن ما نراه اليوم في صراع «طوفان الأقصى» ـ الذي جعله الدكتور بدر الشيدي في مقاله معيارا ومحكا يقيس عليه حجم الانهيار الغربي ـ ليست مواجهة بين آلة استعمارية وشعب محاصر، بل لحظة اختبار قيمي تكشف لنا بجلاء ما هو الغرب الذي وصفه تود بشكل واضح في قوله: «لم يعد الغرب يفتن أحدا، لم يعد يُلهم. لقد صار يفرض إرادته من خلال القوة والسيطرة»، بعد أن فقد قدرته على الإقناع الأخلاقي والثقافي.
لقد سقط القناع الغربي في «طوفان الأقصى» ليس بفعل العدو ولكن من فرط الهشاشة الأخلاقية للذات الغربية نفسها. وهو ما يؤكده تود حين يرى أن الغرب بات يستهلك شرعيته الرمزية من رصيد أخلاقي لم يعد موجودا، وأنه يسير بخطى ثابتة نحو عزلة قيمية خانقة، بعدما انفصل عن العالم وبدأ ينظر إليه بوصفه تهديدا وجوديا.
لا يمكن، هنا، فصل الهزيمة الغربية عن جذرها الفلسفي؛ فالمشروع الغربي الذي تأسس منذ عصر الأنوار على مفاهيم التقدم، والعقل، والحرية، والكرامة الإنسانية، تآكل من الداخل حين تحوّل إلى منظومة نفعية، تسحق القيم باسم السوق، وتُدير العلاقات الإنسانية والسياسية بمنطق الهيمنة لا بمنطق الشراكة. ولم تهزم الرأسمالية الغربية خصومها الاقتصاديين فقط، بل هزمت الإنسان، أيضا، بوصفه غاية، وأخضعت كل شيء لمعيار الربح والسلطة. وهنا تكمن «هزيمة المنتصر»، التي تحدث عنها الدكتور بدر الشيدي.
لا يبدو تود في كتابه شامتا بهزيمة الغرب ولكن يطلق في كتابه إنذارا مسموعا للجميع لأن انهيار الغرب، من وجهة نظره، لا يعني مجرد نهاية مرحلة تاريخية بقدر ما هو بداية لفوضى معنوية كونية في ظل غياب المركز الذي كان يضبط إيقاع الخطاب الأخلاقي حسب ما يذهب في كتابه، حتى لو كان الخطاب الأخلاقي للمركز متحيزا. ولكن الخطر الأكبر يكمن في غياب البدائل، حيث أن المطروح لم يستطع بلورة خطاب عالمي مقنع حتى الآن.
حتى الحضارة العربية المبنية على الفلسفة الأخلاقية لا يبدو أن لديها البديل الذي يستطيع إقناع العالم، فهي علاوة على أنها منهكة في مواجهة آثار الهيمنة الغربية، فإنها، أيضا، مصابة بالتشظي الداخلي والبنيوي في عمقها في ظل غياب أي مشروع ثقافي أو أي اتفاق داخلي يمكن أن يُفهم منه تماسك الأمة وقوتها وقدرتها على المراجعة. وإذا كان الجابري كما طرح الدكتور بدر الشيدي قد تحدّث عن «أخلاق الهزيمة» التي تطبع العقل العربي، فإن الغرب ذاته، كما يُظهره تود في كتابه قد أُصيب بنسخة مقلوبة من هذه الأخلاق: أخلاق منتصر لا يجرؤ على الاعتراف بهزيمته؛ ولذلك هو ينغمس في الإنكار، ويزداد تطرفا وعنجهية مع كل أزمة رغم حقيقة هزيمته الداخلية!
والحقيقة التي يفقدها الجميع، بما في ذلك العرب أنفسهم، تتجلى في فقدان القدرة على الإصغاء للنقد، نقد الذات أو نقد الآخر. وتود، وهو القادم من داخل المؤسسة الغربية، ينذر بثمن الغطرسة الثقافية التي تمنع الحضارة الغربية من مراجعة نفسها. وهذا النوع من الهزائم لا يترك جراحا واضحة، لكنه يفكك الروح الجماعية، ويترك النخب السياسية والثقافية في حالة تيه في قوقعة القوة العسكرية أو خطاب التفوق الأخلاقي الزائف.
لا شيء أكثر خطورة على الغرب من نفسه. هذه الخلاصة التي يصل لها تود في كتابه، وهذه في الحقيقة خلاصة عصرنا الذي نعيشه، حين تنتصر الآلة وتنهزم القيم، وحين يصبح المنتصر أكثر هشاشة من المهزوم نفسه، لأن الهزيمة في هذا السياق ليست فشلا في الميدان بقدر ما هي خسارة في المعنى الذي ننطلق منه ونبني وفقه قيمنا.
هذه اللحظة، كما أراها، ليست لحظة سقوط الغرب فقط، ولكن لحظة سقوط الثقة في المستقبل الذي بشّر به الغرب ورسمه للعالم أجمع. لكن في هذه اللحظة ما يمكن أن يكون أملا/ فرصة من أجل أن يعيد العالم كتابة القيم الإنسانية الكبرى من جديد، ليس بهدف هزيمة الغرب ولكن لإنقاذ ما تبقى من إنسانية هذا العالم التائه.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»