الخارجية الروسية: موسكو مستعدة للحوار حول تبادل الأصول المجمدة
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
قال دميتري بيريشيفسكي مدير إدارة التعاون الاقتصادي بالخارجية الروسية، لوكالة "نوفوستي"، إن روسيا منفتحة للحوار حول تبادل للأصول المجمدة إذا كان الغرب مستعدا لذلك.
وأضاف: "نحن مستعدون لأي تطور في الوضع فيما يتعلق بالأصول المجمدة. يبدو أن خطة التبادل المتبادل التي اقترحها الجانب الروسي قد تكون ذات فائدة للأطراف المقابلة الغربية التي توجد أموالها في نطاق ولايتنا القضائية".
وتابع الدبلوماسي القول: "كما يعلم الجميع، العمل يتطلب وجود رغبة من الطرفين، ولكن من الصعب وصف الإشارات الواردة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص، بأنها تثير التفاؤل. تستمر المحاولات في بروكسل لإنشاء أساس قانوني لسحب أرباح الاستثمار من أصولنا المجمدة، أما في واشنطن ووفقا للمعلومات الواردة فيجري الترويج لصيغة جديدة يمكن من خلالها اعتبار الذات كضحية للعملية الروسية الخاصة ومصادرة الاحتياطيات السيادية لبلادنا. على هذه الخلفية، لا يهم إلى أين سيتم توجيه هذه الأموال بعد ذلك - للدعم العسكري لأوكرانيا أو لسد الثغرات في الميزانيات الغربية ذات العجز المزمن. الحديث يجري عن سرقة الممتلكات الروسية".
وفي أوائل نوفمبر، وقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مرسوما يمكن بموجبه "استبدال" جزء من أموال المستثمرين الأجانب المجمدة في روسيا بأصول مواطنين روس مجمدة لدى الغرب. وينص المرسوم، على إجراءات بيع الأوراق المالية المجمدة الأجنبية المملوكة للمواطنين الروس، للأجانب بما في ذلك الأجانب من الدول غير الصديقة، ودفع أموال الأجانب المجمدة في حسابات من النوع "C" في روسيا مقابلها.
ويجري الحديث الآن عن تبادل الأصول التي تصل قيمتها إلى 100 ألف روبل لكل مستثمر.
المصدر: نوفوستي
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبي الاستثمار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عقوبات ضد روسيا فلاديمير بوتين
إقرأ أيضاً:
صيد الخيول في العصور القديمة يتحدى تصوراتنا عن السلوك البشري «الحديث»
قدرات عقلية واجتماعية متقدمة تعود إلى ما لا يقل عن 300 ألف عام.
في يوم مشمس من أواخر الصيف، قبل نحو 300 ألف عام في شمال وسط أوروبا، تمركز فريق مكوّن من نحو عشرين صيّادًا في مواقعهم المخصصة استعدادًا لصيد ضخم.
لم يكن يخطر ببالهم حينها أن بقايا هذه العملية الدامية ستسهم يومًا ما في إعادة النظر علميًّا في مدى تعقيد الحياة الاجتماعية والفكرية في العصر الحجري.
صعد بعض هؤلاء الصيادين إلى قمة تلّ، وألقوا نظرة من عَلٍ على السهل المُعْشَوْشَبِ الرطب الممتد أمامهم. الأشجار كانت متناثرة في الأفق، تحيط بجداول مائية متعرجة تصبّ في بحيرة قريبة.
من موقعهم المرتفع، راقب هؤلاء الصيادون، وهم من أسلافنا التطوريين، قطيعًا من الخيول البرية يعبر السهل متجهًا نحو البحيرة. ومع اقترابهم، بدأ الصيادون في النزول بهدوء من التلّ، محيطين بالفريسة من الخلف. كان القطيع يتألف من فحل وعدد من الإناث ومهريهما الصغيرين.
استشعرت الإناث خطرًا من بعيد، فزادت من سرعتها وواصلت السير نحو الأمام، وتبعها باقي القطيع في صف واحد، وهو سلوك اعتاد الصيادون رؤيته مرارًا في السابق. كان هناك أفراد من الفريق يتوزعون بعناية في أماكن استراتيجية، يوجّهون القطيع نحو نقطة كمين محددة مسبقًا.
وعندما اقتربت الخيول من ضفاف البحيرة، خرج الصيادون من بين الحشائش الطويلة والقصب، وكانوا مدججين برماح خشبية. الأرض الطرية الموحلة عند الشاطئ جعلت الخيول تتباطأ وتفقد توازنها، فيما تولّى آخرون سدّ طرق الهروب. وفي لحظات معدودة، انهمرت الرماح طعنًا ورميًا حتى سقطت جميع الخيول صريعة.
بعدما ضمن الصيادون السيطرة على الفريسة، قاموا بأكل أو نقل ما يحتاجونه فقط. وبعد عدة أشهر، عادوا إلى المكان نفسه لصيد عائلة أخرى من الخيول.
هذا الوصف الدقيق على نحو غير معتاد لصيد جماعي قديم وما تلاه، يستند إلى تحليل حديث لموقع أثري في ألمانيا يُعرف باسم «شونينغن». وقد أدى هذا الاكتشاف، إلى جانب أبحاث استمرت لثلاثة عقود في الموقع، إلى تعزيز قناعة متزايدة بأن قدرة الإنسان على التخطيط والتعاون،
بما يشبه ما نراه اليوم ظهرت في مراحل أقدم بكثير من المعتقدات التقليدية.
يقول جارود هاتسون عالم آثار الحيوان في مركز مونريبوس للأبحاث الأثرية ومتحف تطوّر السلوك البشري في مدينة نويفيد بألمانيا: «نواصل العثور على دلائل لسلوك «الإنسان الحديث» لدى أنواع من جنس الإنسان غير الهومو سابينس، لا سيما النياندرتال».
نسفٌ للتصورات التقليدية عن «السلوك البشري الحديث»
لطالما تمسّك علماء الآثار بالنظرية القائلة إن القدرة على التخطيط وتنظيم الصيد الجماعي، إلى جانب مظاهر أخرى من «السلوك البشري الحديث» لم تظهر إلا قبل نحو 50 ألف عام فقط. ويُرجّح بعض الباحثين أن تغيّرات جينية لم يُحدَّد نوعها بعد طرأت على الدماغ في تلك الفترة، أدّت إلى تحوّل سريع في قدرات التفكير لدى الإنسان العاقل.
لكنّ فكرة حدوث «ثورة ذهنية وسلوكية» مفاجئة ومتأخرة في تاريخ تطوّر الإنسان قد تكون مجرّد وهم لم يحدث فعلاً.
فعدد متزايد من الدراسات يشير إلى أن كثيرًا من سمات السلوك البشري الحديث، مثل: الفنون، والأفعال الرمزية نشأت في وقت أبكر من ذلك بكثير، وتحديدًا في العصر الحجري الأوسط الذي بدأ منذ ما لا يقل عن 300 ألف عام، واستمر إلى ما بعد 50 ألف عام. فعلى سبيل المثال؛ كُشف في أحد كهوف جنوب أفريقيا عن رسمة هندسية متقاطعة عُمرها 73 ألف عام محفورة على صخرة، إلى جانب خرزات مصنوعة من الأصداف تعود إلى 75,600 عام، وآثار لأصباغ لونية تعود إلى 100 ألف عام. أما في كهف فرنسي عميق؛ فقد بنى النياندرتال هياكل دائرية من الصواعد قبل نحو 176,500 عام. ويُعتقد أنهم رسموا أيضًا جداريات في الكهوف قبل ما لا يقل عن 66,700 عام.
وتضيف الأدلة على الصيد الجماعي القديم سواء في موقع شونينغن أو غيره دلائل إضافية على تطوّر السلوك المعقد لدى الإنسان القديم، وأقربائه في السلسلة التطورية.
في الدراسة الجديدة المنشورة العام الماضي في (Journal of Human Evolution) (مجلة التطور البشري)؛ حلل هاتسون وزملاؤه عظام الحيوانات، والبيانات البيئية، وأسلحة الصيد، وأدوات الذبح المكتشفة في شونينغن. ورغم أن بعض تفاصيل عملية الصيد وخططها لا تزال مجهولة فإن ذلك متوقع؛ إذ إن هؤلاء الصيادين عاشوا قبل نحو 12 ألف جيل، في ثقافة لا تزال ضبابية المعالم بالنسبة للعلم الحديث.
ولم يُعثر في الموقع الألماني على أي بقايا أحفورية من جنس الإنسان، ما دفع هاتسون إلى التحفّظ حول الهوية التطورية للصيادين. فقد يكونون أسلافًا مباشرين للنياندرتال، أو أسلافًا مشتركين لكل من النياندرتال، والإنسان العاقل. ويفترض بعض العلماء أن الهياكل العظمية التي تعود للفترة ما بين 700 ألف و200 ألف عام تُنسب إلى نوع يُعرف باسم (Homo heidelbergensis) (الإنسان الهايدلبيرغي). ومهما كانت هويتهم فإن صيادي الخيول في شونينغن يقوّضون النظرة الشائعة التي تفترض أن سكان العصر الحجري عاشوا على جمع الثمار والنباتات، أو على التهام بقايا الحيوانات التي تركها خلفها المفترسون الكبار. ووفقًا لتلك النظرة؛ فإن صائدًا واحدًا أو اثنين من مجموعة بدائية متنقلة كانا يحصلان أحيانًا على «جائزة لحوم» نادرة. لكن في شونينغن يبدو أن الأمر مختلف تمامًا. فالصيد الجماعي هناك - كما يرجّح هاتسون - كان يشمل جميع أفراد المجتمع القادرين بدنيًا: رجالًا ونساءً وأطفالًا. وهذا ما رُصد بالفعل بين مجتمعات الصيد في الأزمنة القريبة والتاريخية. فالجميع يمكن أن يشارك في تتبّع الخيول وتوجيهها نحو أماكن الكمين، حتى وإن اقتصر قتل الفريسة على أقوى الأفراد بدنيًا.
تقول آشلي ليمكي عالمة الآثار في جامعة ويسكونسن في ميلووكي، والمتخصصة في دراسة الهياكل التي بناها البشر القدماء لمساعدة عمليات الصيد: «يكشف موقع شونينغن أن أسلافنا في العصر الحجري الأوسط امتلكوا بالفعل معرفة واسعة ببيئتهم، واستغلوا التضاريس لصالحهم، وفهموا سلوك الحيوانات بشكل معقّد، ما مكّنهم من النجاح مرارًا في عمليات الصيد الجماعي».
كمائن مُحكمة لعائلات الخيول
استقطبت الرماح الخشبية المحفوظة التي عُثر عليها في موقع شونينغن، والتي بلغ عددها حتى الآن عشرة اهتمامًا عالميًّا واسعًا. فقد أدى نشاط التعدين في المنطقة خلال تسعينيات القرن الماضي إلى اكتشاف ثلاثة رماح، إلى جانب أدوات حجرية وعظام حيوانات.
وتُعدّ هذه الرماح من أقدم الأسلحة المعروفة في تاريخ البشر. إذ يُشار غالبًا إلى رمح «كلاتون» الذي عُثر عليه في إنجلترا عام 1911، وهو قطعة خشبية طويلة حُدّد أحد طرفيها بشكل مدبب، بوصفه أقدم رمح مكتشف، ويعود إلى نحو 400 ألف عام، أي أقدم بحوالي 100 ألف سنة من مكتشفات شونينغن.
وبالإضافة إلى الرماح الخشبية؛ كشفت الحفريات في الموقع الألماني عن ستّ عصيّ مدببة من كلا الطرفين يُرجّح أن الصيادين استخدموها كرماح صغيرة أو خناجر. كما عُثر على أدوات خشبية جزئية الحفظ تظهر فيها شقوق متعمّدة بالقرب من نهايات مدببة أو مستديرة، مع حواف مصقولة، وآثار استخدام تتوافق مع معالجة جلود الحيوانات.
أما الأدوات الحجرية؛ فقد بلغ عددها نحو 1,500 قطعة تتضمن شظايا حادة الحواف كانت تُستخدم على الأرجح في تقطيع جثث الحيوانات. ويشتبه فريق هاتسون في أن الصيادين استعملوا مجموعة متنوعة من الأدوات العظمية لشحذ الشظايا الحجرية، وكسر العظام لاستخراج النخاع.
ومن اللافت أن الموقع لم يظهر فيه أي بقايا لمواقد نار، أو عظام محترقة. ويُحتمل أن الصيادين كانوا يأكلون ما تيسّر لهم من لحم الخيول نيئًا عند ضفة البحيرة، ثم يحملون ما تبقّى إلى معسكراتهم. ومع ذلك يبقى من غير المعروف ما إذا كان أولئك الصيادون يمتلكون القدرة على إشعال نار مسيطَر عليها.
بحث فريق هاتسون في تفاصيل ما جرى قبل وأثناء وبعد عمليات صيد الخيول القديمة في شونينغن. وقد ركّزوا على تحليل نحو 9,000 عظمة مكتشفة من بينها فكوك سفلية تحتوي على أسنان، وكلها تعود إلى خيول برية. كما دلت آثار الذبح على عدد قليل من عظام الأيائل الحمراء، والبيسون، والأبقار البرية ما يشير إلى أن صيد تلك الحيوانات سواء بشكل فردي أو جماعي كان يحدث أحيانًا.
ومن بين عيّنات الخيول، التي تعود إلى ما لا يقل عن 54 حيوانًا، تعرّف الباحثون على عدد من العائلات. ووفقًا لتحليل حجم الأسنان ومدى تآكلها، تبيّن أن 22 من الخيول كانت صغيرة لا يتجاوز عمرها عامين، و29 كانت بالغة تراوح أعمارها بين 5 و6 أعوام، وثلاث كانت من كبار السن تجاوزت 15 عامًا.
ومن اللافت قلة بقايا الخيول المراهقة، أي التي تتراوح أعمارها بين 3 و5 أعوام، في الموقع. إذ من المعروف أن الذكور في هذا العمر تنفصل عن عائلاتها لتشكّل مجموعات «عزّاب» أو تتنقّل منفردة حتى تنضج تمامًا. وعلى عكس العائلات، لا تستجيب هذه المجموعات للتهديدات بشكل جماعي، بل تتفرّق بشكل عشوائي. ومن ثمّ، فإن عمليات الصيد الجماعي التي تستهدف عائلات الخيول تترك بطبيعتها أدلة محدودة على قتل المراهقين، وهو ما لاحظه هاتسون وزملاؤه.
نظرًا للطابع العائلي الذي أظهرته أعمار خيول شونينجن، يرى الباحثون أنه من المنطقي الاستنتاج بأن فرق الصيد استغلّت سلوك هذه الحيوانات المتوقع داخل المجموعات العائلية، فدفعتها إلى كمائن محكمة عند ضفاف البحيرة.
وتُظهر بقايا الخيول المكتشفة علامات ذبح وكشط متجمعة في نقاط محددة، بالإضافة إلى كسور متعمدة في العظام لاستخراج النخاع، وكلها تتركز أساسًا في بقايا الخيول البالغة في أوج قوتها. ويُرجّح الباحثون أن الصيادين كانوا يتجنبون تناول كميات كبيرة من لحم العضلات الخالية من الدهون عند موقع القتل، إدراكًا منهم أن الإفراط في تناول البروتين قد يؤدي إلى فقدان الوزن وتدهور الحالة الصحية وحتى الوفاة.
كما تُشير آثار الأدوات على أضلاع الخيول إلى أن الصيادين شقّوا منطقة الصدر لانتزاع الأعضاء الداخلية وتناولها، مثل الكبد الغني بفيتامين «سي». ويُعتقد أن الدهون، الضرورية لنظام غذائي متوازن، كانت تُستخرج من أجزاء لا تترك عادة آثارًا واضحة للذبح، كالعنق والبطن.
ورغم أن صغار الخيول لم تكن هدفًا أساسيًّا للصيادين الجائعين في مواقع القتل، فإنها قدّمت أدلة مهمة ساعدت الباحثين على تتبع تكرار عمليات الصيد. فمن خلال مقارنة توقيت ولادات الخيول الحديثة التي تحدث عادة في أواخر الربيع، تبيّن أن موت المهور في العيّنات القديمة وقع في جميع الفصول، لكنه بلغ ذروته في أواخر الصيف وبداية الخريف.
ويقول هاتسون: «تشير هذه الأدلة إلى أن البشر في شونينجن كانوا موجودين عند ضفاف البحيرة طوال العام أو معظم فصوله». كما يضيف أن مجموعات الصيد كانت على الأرجح تصطاد عائلات الخيول جيلا بعد جيل، بشكل متواصل ومنتظم.
روح الفريق بين الصيادين الأوائل
تُظهر مواقع أثرية أخرى في أوراسيا دلائل على الصيد الجماعي تتماشى مع الصورة المعقّدة لصيد الخيول المنظم بدقة في شونينجن.
فعند شاطئ بحيرة قديمة في فلسطين، كشفت عظام كثيرة لغزلان مذبوحة وغيرها من الفرائس الكبيرة نسبيًّا عن احتمال ممارسة الصيد الجماعي حتى قبل العصر الحجري الأوسط. إذ تشير الأدلة إلى أن البشر الأوائل في موقع «جشر بني يعقوب» كانوا، قبل نحو 780 ألف عام، يصطادون بانتظام الحيوانات التي تعيش في قطعان، ويركزون في ذبحهم على البالغات في أوج أعمارها.
وفي جبال أتابويركا شمالي إسبانيا، أفادت دراسة نُشرت عام 2017 في (Journal of Human Evolution) (مجلة التطور البشري)، بأن أسلاف النياندرتال كانوا يمارسون صيدًا جماعيًّا للبيسون قبل نحو 400 ألف عام. ووفقًا لعالم الآثار أنطونيو رودريجيز-هيدالجو من معهد كتالونيا لعلم البيئة البشرية والتطور الاجتماعي في تاراجونا بإسبانيا، فقد كانت فرق الصيد تطارد قطعان البيسون إلى حافة كهف تحت الأرض يُعرف بـ«غران دولينا»، حيث كانت الحيوانات تسقط من الأعلى أو يُجهز عليها الصيادون بالأسلحة عند أرضية الكهف.
وقد كشفت دراسة أجراها الفريق على بقايا ما لا يقل عن 60 بيسون، من بين أكثر من 22 ألف حفرية في غران دولينا، عن وجود أفراد من جميع الأعمار: صغارا وبالغين ومسنين، وهو ما يتوافق مع صيد قطعان كاملة. كما أظهرت أن صغار البيسون ماتوا في فترات مختلفة، لا سيما أواخر الربيع ومطلع الصيف، ثم مجددًا في أوائل الخريف، ما يشير إلى وقوع صيد جماعي في مناسبتين على الأقل.
ويرجّح رودريجيز-هيدالجو أن ما بين 50 إلى 100 شخص شاركوا في بعض مراحل هذا الصيد الجماعي، سواء في دفع القطعان نحو الهاوية، أو في تقطيع الجثث، أو نقل الغنائم الضخمة إلى المعسكرات القريبة. ويضيف أن الصيد الجماعي يتطلب مجموعات كبيرة ومستوى أعلى من التخطيط المسبق، والتنبؤ، والتنسيق بين أفراد يؤدون أدوارًا مختلفة، وهو ما يفوق في تعقيده الصيد التعاوني لدى الحيوانات مثل الذئاب أو الحيتان القاتلة أو الشمبانزي.
ويؤكد رودريجيز-هيدالجو أن القدرة على التحدث بلغة وفهم الرموز اللفظية التي تُشير إلى أشياء وأفعال كانت شرطًا أساسًا لنجاح هذا النوع من الصيد. ومتى نشأت اللغة المنطوقة لا يزال موضع جدل محتدم، لكن العديد من العلماء يفترضون أنها ظهرت فقط عند (الإنسان العاقل) (Homo sapiens).
ومع ذلك، يرى أن القدرة على التفكير الرمزي هي الأساس الذي تُبنى عليه المعتقدات الدينية والميتافيزيقية. ويتساءل: «هل كان البشر الأوائل في غران دولينا أو شونينجن يؤمنون بالله أو بـ«الروح العظمى»؟ لا أعتقد ذلك، ولكنهم بالتأكيد لم يعودوا مجرد ذئاب تصطاد بالغريزة». وتشير الأدلة المتزايدة، بما فيها الهياكل الدائرية والرسوم الجداريّة داخل الكهوف الأوروبية، إلى أن النياندرتال كانوا يمتلكون نوعًا من المعتقدات الرمزية. وتتماشى هذه الإشارات مع مكتشفات من مواقع تعود إلى العصر الحجري الأوسط، يتراوح تاريخها ما بين 130 ألفًا و50 ألف عام، وتُظهر أن النياندرتال شكّلوا فرقًا لصيد حيوانات القطيع بفعالية.
وفي خمسة مواقع أوروبية، تمكّن النياندرتال من تنفيذ كمائن لصيد مجموعات من البيسون، والماشية البرية، ووحيد القرن، والخيول، والرنة، وفقًا لأبحاث عالم الآثار مارك وايت من جامعة دورهام في بريطانيا وزملائه. وكما فعل صيادو شونينجن، قام النياندرتال بذبح فرائسهم دون تمييز، لكنهم فضّلوا استهلاك البالغين في سنّ الذروة.
وقد وصف فريق وايت النياندرتال بأنهم «استراتيجيون بارعون، وجلّادون غير مبالين، ومتذوقون نخبويون».
الإستراتيجيات التكتيكية للصيد الجماعي
رغم توفر العظام المذبوحة، وأدوات القطع، والصور المعاد بناؤها للمستنقعات والبحيرة في موقع شونينجن، فإن علماء الآثار لا يزالون قادرين فقط على فك جزء من لغز كيفية تنفيذ عمليات الصيد الجماعي قبل مئات الآلاف من السنين. ومع أن المجتمعات البشرية الحديثة ليست بقايا من العصر الحجري، فإن جماعات الصيد والجمع المعاصرة والشعوب الأصلية يمكن أن تسد بعض الثغرات في هذا السرد التاريخي.
ففي تقرير نُشر العام الماضي في مجلة (Current Anthropology) (الأنثروبولوجيا الحالية) أشار عالم الآثار يوجين موران من جامعة ترينت في بيتربورو، كندا، وزملاؤه إلى أن المجتمعات غير الصناعية حول العالم قد مارست تقنيات الصيد الجماعي بنجاح كبير عبر العصور.
وقد شملت هذه العمليات، خلال القرون الأخيرة، أعدادًا تراوحت ما بين شخصين إلى عدة مئات، حيث دأب بعض الصيادين على دفع الفرائس نحو أماكن تحاصرها البحيرات أو المنحدرات، في حين كان آخرون يضعون كمائن هناك للانقضاض عليها، تمامًا كما فعل النياندرتال وصيادو الخيول القدماء في شونينجن.
ويمكن تنفيذ هذه المطاردات سيرًا على الأقدام، أو باستخدام الخيول، أو حتى السيارات، كما استُخدمت النيران أحيانًا لإجبار الفرائس على التوجه نحو نقاط الكمين.
وفي بعض الحالات، كانت عمليات الصيد الجماعي تستهدف فرائس صغيرة كالأرانب، تصطاد باستخدام الشباك، وفي حالات أخرى كانت المجتمعات تبني جدرانًا حجرية أو سياجات تُشكّل ممرات تُدفع من خلالها الحيوانات الكبيرة إلى حظائر محكمة، ويُعتقد أن هذه الهياكل المصممة للإيقاع بالحيوانات تعود إلى ما قبل 10,000 عام أو أكثر.
وقد قام فريق موران بتحليل 139 وصفًا مكتوبًا تفصيليًا من مستكشِفين وإثنوجرافيين تناولت الصيد الجماعي والفردي، تعود إلى الفترة بين القرن السابع عشر وبدايات القرن الحادي والعشرين، وقد ركزت معظم هذه الروايات على مجتمعات الصيد والجمع في أمريكا الشمالية وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا وجزر المحيط الهادي.
وبحسب الباحثين، كان الصيد الجماعي شائعًا حتى أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت تظهر أساليب جديدة تعتمد على بنادق التكرار والكلاب، ما قلّص الحاجة إلى التكتيكات الجماعية، ويُقدّر الفريق أن تقنيات الصيد الجماعي كانت تحقق عوائد أكبر وأكثر انتظامًا مقارنة بالصيد الفردي، كما أن ركوب الخيل في البيئات المفتوحة وسّع نطاق هذه العمليات وساعد في تغيير مسار القطعان.
وكان الرجال والنساء والأطفال وكبار السن من مجتمعات محلية يجتمعون للمشاركة في الصيد الجماعي، بحسب ما لاحظه فريق موران. ولم تكن هذه التجمعات محصورة بالهدف الغذائي فقط، بل أدّت أيضًا دورًا اجتماعيًا، حيث وفّرت فرصًا للزواج، وتبادل السلع، وبناء العلاقات بين المجموعات.
ومع ذلك، لا يزال من غير الممكن حاليًا تحديد حجم وتركيبة مجموعات الصيد الجماعي في العصور السحيقة، كما لا يمكن تتبع الكيفية التي تفاعل بها الصيادون مع بعضهم البعض، كما يقول عالم الآثار لوتس كيندلر من مركز أبحاث مونريبوس. وكان كيندلر، الذي لم يشارك في دراسة شونينغن الأخيرة، قد شارك في إعداد تقرير نُشر عام 2023 يصف أدلة على صيد جماعي لأفيال مستقيمة الأنياب وذبحها على يد مجموعات كبيرة من النياندرتال في موقع نيومارك - نورد بألمانيا.
ويتساءل كيندلر: «بعد صيد الخيول، هل كان أهل شونينغن يجلسون ببساطة لقطع اللحم وكسر العظام واستعادة طاقتهم؟ أم أنهم كانوا يهنئون بعضهم البعض، ويضحكون، ويحتفلون»؟
من المؤكد أن الصيادين القدامى عملوا بجد. وربما، على طريقتهم، كانوا يعرفون طريق المرح أيضا.
عن موقع: ساينس نيوز