لماذا يشعر الناس فى عمومهم بالغربة رغم زحمة الحياة؟ وهل هى غربة أم اغتراب عن الواقع وفقدان تدريجى للغة التواصل بين الإنسان ومجتمعه؟ أتصور أن هناك مسئولية مشتركة عن الحال الذى وصل إليه غالبية المصريين من شعورهم بالغربة والاغتراب معا.
الغربة فى تعريفات علم الاجتماع غربة مكانية ونفسية، أما الاغتراب، فيمكن أن يشعر به الواحد منا ويغترب عن نفسه، وعن مجتمعه وزمنه، وكل هذا وهو يعيش وسط ركام من الأحياء.
أما مسئولية الناس عن ذلك الشعور الكبير بالغربة والاغتراب فيكمن فى تلك النوستالجيا (الحنين إلى الماضى) الغريبة التى تجعل المعذبين اليوم يحلمون بالأمس القريب والبعيد، ويعتبرون ما مضى من عصور هى عصور الحب والحلم والأمان.. الحقيقة أن التاريخ الطويل للمصريين يبدو أنه أفقد المعاصرين تحديدًا القدرة على التأمل الصحيح للماضى سواء القريب أو البعيد.. التأمل الصحيح هذا من المفترض أن نرى من خلف نظارته المكبرة أن هذا البلد لم يهنأ يوما بنماء متصل، ولم ينعم فيه الناس بحرية حقيقية ترفع من أقدارهم وتعينهم على إبداع حياة جديدة.. حتى الفترة التى نسميها بالليبرالية فى تاريخ مصر (نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) هى نفسها فترة الفقر المدقع الذى يضرب جموع المصريين، وهى نفسها فترة الأوبئة الفتاكة ومشروع الحفاة. الحكاية أن طواحين الغربة والاغتراب قديمة ولكن قسوتها فى عصرنا الحديث وأيامنا الجارية الآن أنها تعصف بنا وتقطف رؤوسنا، سواء كانت رؤوس حكمة أو جهالة.. لقد أصبحنا جميعا كما قال يوما الأديب "أحمد خالد توفيق" كصناع الطرابيش المهرة الذين لا مثيل لهم، ورغم ذلك لا أحد يعرفهم ولا أحد سيلبس ما يصنعون.. أنهم قد ماتوا على الشاطئ الآخر للزمن، وسيلحق بهم كل من يتصور أن النعيم فقط فيما مضى وليس فيما يمكن أن نصنعه اليوم وغدا.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: كامل عبدالفتاح علم الاجتماع
إقرأ أيضاً:
كان.. يا ما كان
فى واحدة من أهم الظواهر التى تستحق الدراسة مؤخرًا في مجتمعنا المصرى يبدو أن ظاهرة الحنين إلى الماضى المعروفة علميًا (بالنوستالجيا) قد بلغت مداها بين قطاعات عريضة من أبناء هذا الوطن بكل أطيافه بل وأجياله حتى يكاد الأمر أن يصل إلى درجة رفض الواقع بل وإنكاره من فرط الحنين إلى ما كان. لماذا نحن فى هذه الحالة؟ وإن كان ذلك مقبولًا لدى أجيال الوسط والشيوخ التى عاصرت هذا الماضى فكيف نفسر حنين أبناء جيل الشباب أيضًا لما كان قائمًا قبل أن يولدوا؟
فى حكاوى ومناقشات أهل مصر على المقاهى وفي مواقع التواصل ستجد تلك الحالة منتشرة، بل ربما لن يخلو حديث فى مجلس للأهل أو للأصدقاء دون أن يترحموا على أيام قد مضت وكيف كان حال الفن والفكر والثقافة بل والرياضة وحتى السياسة، وعن تلك الأوزان النسبية التى تغيرت لتهبط عدة درجات فى سلم الإبداع، حين تجلس مع أبناء جيل الشيوخ والوسط سيحدثونك عن شبابهم وكيف تربى وجدانهم على فكر وثقافه وذوق مختلف ومتنوع، سيحكون لك أنهم قد كان لديهم كل المدارس الفكرية والفنية وكان متاحًا لهم أن ينهلوا من هؤلاء العمالقة الذين عاشوا وأبدعوا معًا فى توقيت واحد فأحدثوا زخمًا فى شتى مجالات الفكر والفن والسياسة وحتى فى لغة الحديث بل وفى شكل وأناقة ملابس الرجال والنساء وزى أطفال المدارس وطلاب الجامعة.
هل هى الحداثة قد أفقدتنا كثيرًا مما اعتدنا عليه سابقًا قبل أن تُغرقنا موجات التكنولوجيا العاتية وهذه الأنماط السلوكية والفكرية الهشة التى تنتشر بسرعة البرق بين رواد السوشيال ميديا؟ هل هجر الناس الأصالة عن قناعة أم مجبرين حين خلت الساحة من إبداع رصين يحفظ لهذا الشعب هويته السمعية والفكرية؟
ليس الأمر بسيطًا حتى وإن بدا كذلك. فهذا ذوق يتغير وفكر يندثر وعمق يختفى تحت ضربات ولعنات التريند والتيك توك والمهرجانات ودراما العنف والقيم الأسرية المنحلة ومسارح اللهو دون قيمة أو رسالة، ورياضة كلها تعصب وشحن وسباب وفُرقة بين الجميع.. ليس الأمر هينًا فهذا وطن يسرق من ماضيه وقيمته وريادته بين الأمم.. هل نجد إجابة لكل تلك التساؤلات أم يظل الحال كما هو لنهوى أكثر وأكثر فى دوامة الحنين إلي الماضي ونظل نردد بكل حسرة: كان ياما كان.. ؟؟