شاهد المقال التالي من صحافة الإمارات عن مغرّدون رحم الله سعيد بن زايد كان برؤيته يسعد الجميع، ثمّن مغرّدون المسيرة الحافلة للراحل الشيخ سعيد بن زايد، والصفات والأخلاق الحميدة التي تمتع بها طوال حياته مؤكدين أنه صانع سعادة ورجل مواقف ومبادرات .،بحسب ما نشر صحيفة الخليج، تستمر تغطيتنا حيث نتابع معكم تفاصيل ومعلومات مغرّدون: رحم الله سعيد بن زايد.

. كان برؤيته يسعد الجميع، حيث يهتم الكثير بهذا الموضوع والان إلى التفاصيل فتابعونا.

مغرّدون: رحم الله سعيد بن زايد.. كان برؤيته يسعد الجميع
ثمّن مغرّدون المسيرة الحافلة للراحل الشيخ سعيد بن زايد، والصفات والأخلاق الحميدة التي تمتع بها طوال حياته مؤكدين أنه صانع سعادة ورجل مواقف ومبادرات...

45.195.74.220



اقرأ على الموقع الرسمي


وفي نهاية المقال نود ان نشير الى ان هذه هي تفاصيل مغرّدون: رحم الله سعيد بن زايد.. كان برؤيته يسعد الجميع وتم نقلها من صحيفة الخليج نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكامله .

علما ان فريق التحرير في صحافة العرب بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

المصدر: صحافة العرب

كلمات دلالية: ايجي بست موعد عاجل الدولار الامريكي اليوم اسعار الذهب اسعار النفط مباريات اليوم جدول ترتيب حالة الطقس

إقرأ أيضاً:

قيس سعيد .. الملك الرئيس الذي لم ينتخب يومًا غير نفسه

في سبتمبر/أيلول 2019، وقبل شهر من فوز قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية التونسية، كتب مراسل صحيفة لوبوان الفرنسية، بنوا دلماس، مقالًا عن سعيّد، الصاعد إلى السلطة بسرعة الصاروخ، وضع له عنوانًا: "روبسبيار في حملته الانتخابية". المؤكد أن دلماس لم يكن يعلم أن الوقت سيثبت أن المقارنة التي عقدها بين الرجلين ستغدو أكثر دقة من مجرد عنوان عابر لوصف مرشح رئاسي طموح.

ففي عام 1758 وُلد القانوني الفرنسي ماكسيميليان دو روبسبيار، الذي يُعد أحد أكثر الأشخاص تأثيرًا في تاريخ الثورة الفرنسية. صعد دو روبسبيار بسرعة بالغة إلى رأس السلطة في فرنسا بعد الثورة عام 1789، بعدما اجتذب دعمًا شعبيا هائلًا بسبب شخصيته القانونية، وفصاحته وقدرته على الإقناع والمحاججة، وعدائه الشديد للنخب السياسية، ودفاعه عن الفئات الأكثر ضعفًا من شعبه. لكن دو روبسبيار المؤمن بقيم الثورة ومثالياتها لم يلبث طويلًا قبل أن يتحول عهده الذي أراده تطهيرًا لفرنسا من أعداء الثورة؛ إلى "عصر الإرهاب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحافة عالمية: أطفال دارفور يعبرون الصحراء هرباً من المجازر الجماعيةlist 2 of 2القاتل الآلي الجديد.. إليك سر دبابة المستقبل الأميركيةend of list

تأثر دو روبسبيار كثيرًا بفيلسوف عصر الأنوار مونتسكيو، وهو ما جعله يعتبر معركته فوق السياسة، ترتكز على المبادئ الأخلاقية. لذلك ركّز السلطات في يديه، وقمع معارضيه، واعتبر كل مخالف لنهجه عدوًا للثورة، وتحوّل من معارض للإعدام إلى أكبر مشرف على عمليات إعدام جماعية في تاريخ فرنسا، حيث أُعدم أكثر من 16 ألف فرنسي تحت المقصلة في عام واحد، وسُجن نصف مليون آخرون.

يتشابه صعود دو روبسبيار وإيمانه بالقانون، ثم انقلابه عليه وبدؤه عصر الإرهاب بعد الثورة الفرنسية، إلى حد كبير، مع صعود الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي وُلد في عام 1958 بعد 200 سنة بالضبط من مولد دو روبسبيار. فكلاهما صعد إلى السلطة من خارج النخب السياسية المعروفة، وكلاهما من خلفية قانونية ويتمتعان بلغة فصحى، وكلاهما جاء إلى السلطة عقب الثورة بعدما وعد بالإصلاح والحرية، قبل أن يركز كل السلطات في يده، وكلاهما تأثر بمونتسكيو إلى حد بعيد. غير أن عهد دو روبسبيار انتهى سريعًا بعد عام واحد في السلطة، حين توحدت المعارضة التي هددها، لتعلن أنه ومؤيديه خارجون على القانون، ليُعدَم بالمقصلة في اليوم التالي للقبض عليه في يوليو/تموز 1794.

في كتاب التاريخ، بدأ دو روبسبيار ثوريًا جذريًا، وانتهى به المطاف تحت المقصلة بيد الثوار (شترستوك)

لكن، على خلاف دو روبسبيار، لم تنته قصة قيس سعيّد بعد، ويبدو أن فصولها لا تزال حبلى بالأحداث!

بصوته الآلي، ومن خلف قناع طبي يخفي أسنانه التي ينبئ لونها عن مدخن شَره، بدأ الرئيس التونسي قيس سعيد لقاء ضيفه قائلًا: "أثناء قدومي إلى هنا، تذكرت قصة قديمة حين ادعى شخص النبوة، وسار في الناس قائلًا إني رسول الله إليكم، فسمع به الملك، فغضب وقال: وعزتي وجلالي، ما بعثت إليكم من أحد". فسّر سعيد طرفته -بنفس النبرة الرتيبة- من غير أن يضحك، بالقول إن كان ذلك قد ادعى النبوة، فقد ادعى هذا الألوهية، ثم شرع في انتقاد النظام التونسي قبل الثورة باعتباره نظامًا يمثل مدّعي الألوهية.

إعلان

انتقد سعيد نظام تونس وقتها لأنه نظام رئيس واحد، وحزب واحد، وصوت واحد، بلا تعددية وبلا رادّ لقضاء الرئيس. كان اللقاء مثيرًا لأسباب عديدة، فالمكان كان قصر قرطاج، والضيف لطفي زيتون، القيادي السابق في حركة النهضة ومستشار زعيمها الشيخ راشد الغنوشي، أما الزمان فهو 21 يونيو/حزيران 2021، أي قبل شهر واحد من إعلان سعيد الأحكام العرفية وحل البرلمان، في الخطوة التي بدأت تحوّله إلى ملك أو ما يشبه الملك!

لم يكن سعيد قد أتم عامين في منصبه كرئيس للجمهورية، لكن لعله كان قد أدرك أن مشروعه لتونس لا يمكن له أن يتمّه اعتمادًا على صلاحياته كرئيس للجمهورية، ولا مع إضافة صلاحيات رئاسة الوزراء، ولا حتى رئاسة البرلمان فقط، فقرر سعيد على مدار الأعوام الثلاثة التالية أن يجمع السلطات كلها بين يديه، وأن يحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وأن يجعل لقراراته سلطة القانون، وأن يصوغ دستورًا جديدًا، وألا يسمح لأحد بالاعتراض أو حتى التساؤل، سياسيا كان أو صحفيا، وأن يسجن كل من يستريب لأمره، بمن فيهم ضيفه في قصر قرطاج لطفي زيتون الذي حُكم عليه مؤخرًا بالسجن 35 عامًا!

تخلص قيس سعيد من كل أعدائه، وقضى على الطبقة السياسية فلم يعد فيها غيره. لكن في 25 يوليو/تموز 2024، وفي الذكرى 67 للإعلان عن نهاية الملكية في تونس وقيام الجمهورية، وهي الذكرى الثالثة لقراره حل البرلمان وتنصيب نفسه بديلًا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقف سعيد مخاطبًا الشعب التونسي مخوفًا إياه من "لصوص الأمس ولصوص اليوم"، الذين يتحالفون مع أعداء تونس كأسراب الجراد في مؤامرة مستمرة مع أطراف خارجية قال عنها "تبًا لها كما تبت يدا أبي لهب". نأى سعيد بنفسه عن منظومة الحكم والقضاء والسياسة ومن فيها، قائلًا إنه لا ينتمي إليها وإنه "غريب بين من ائتمنوا وخانوا"، مقتبسًا شعر المتنبي بالقول إنه "غريب كصالح في ثمود"، والذي يقول في نفس القصيدة إن مقامه في قومه مثل "مقام المسيح بين اليهود"، وأن إعجابه بنفسه إعجاب من "لم يجد فوق نفسه من مزيد".

لكن خطاب الرجل الذي صعد إلى قمة الجبل السياسي لم يكن دومًا كذلك، فقبل الثورة التونسية لم يُسمع لقيس سعيد صوت في نقد نظام بن علي، وبعد الثورة كانت انتقاداته للساسة محل إجماع بين قطاعات واسعة من التونسيين، لكنه ما إن أصبح رئيسًا حتى تغيّر كل شيء. غير أن قصة صعود قيس سعيد من أستاذ قانون يدّعي الخجل من الظهور الإعلامي أولًا، لأنه لا يحب المحاورة، ويميل إلى الخطابة والحديث المباشر، وهذا لن يتيحه الإعلام إلا لرئيس عاشق للكاميرا. تحكي قصته عن تونس، والشعب التونسي، وأزمات البلاد أكثر مما تحكي عن شخص الرئيس، فكيف وصل قيس سعيد إلى هنا؟

في يوم خريفي بارد من عام 2019، انتخب التونسيون رئيسًا لم يكن الأوفر حظًا للصعود إلى سدة الرئاسة، بل وحتى وقت قريب لم يكن يعدّ نفسه من بين السياسيين أصلًَا. فاز قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري المستقل، بأغلبية ساحقة في الانتخابات، مستغلًا ضيق الشعب بالنخبة السياسية وحالة الاشمئزاز العام التي سادت البلاد، وعززها هو بخطابه.

إعلان

فاز أستاذ الجامعة الذي لم يحصل على درجة الدكتوراه أبدًا، والذي يظهر التقشف على قسمات وجهه، وتبرز الصرامة في وقفته ونبرته التي لا تعرف التموجات. في سن 61، لم يكن سعيد قد شغل منصبًا رسميًا قط، ولم ينتمِ إلى أي حزب سياسي، بل إننا لن نبالغ إن قلنا إنه لم يقم بحملة انتخابية حقيقية حتى قبل وصوله إلى الرئاسة. كان سعيد باحثًا في القانون الدستوري، وكان معروفًا بنزاهته وأسلوبه الآلي في الحديث، الذي أكسبه لقب "روبوكوب"، في تشبيه ساخر بشخصية سينمائية نصف آلية ونصف بشرية بتعبيرات وجه جامدة وحركة ميكانيكية. لكن ما افتقر إليه سعيد من الخبرة السياسية، عوّض عنه بصورته كزاهد في السلطة، وصادق في مخاطبة الشعب.

لا تسعفنا دراسة سيرة قيس سعيد بالكثير من الأدلة التي تشير إلى أنه كان مؤهلًا لتولي مناصب سياسية رفيعة، لكن سيكون من الإجحاف أيضًا وصفه برئيس الصدفة. فالرجل الذي وُلد بمدينة تونس في فبراير/شباط 1958، لأب يعمل موظفًا حكوميًا وأمّ ربة منزل، نشأ في بيئة فكرية جادة، وتفوق أكاديميًا، وتخصص في القانون الدستوري. غير أن الأستاذ الذي اكتسب سمعة طيبة لإخلاصه لسيادة القانون، لم ينخرط في السياسة قبل الثورة التونسية على الإطلاق تقريبًا.

حصل قيس سعيّد على الدكتوراة الفخرية من جامعة إيطالية عام 2021 (الرئاسة التونسية)

درّس سعيد القانون للطلاب في جامعة تونس وجامعة سوسة لسنوات طويلة، وعمل خبيرًا في بعض الأحيان لكيانات مثل جامعة الدول العربية، لكنه مع ذلك لم يُصوّت في أي انتخابات في حياته، ولم يُعرف عنه نقدٌ للحكومات التونسية أو لنظام رئيسها زين العابدين بن علي الذي أطاحت به أولى ثورات الربيع العربي.

أستاذ الحياكة الدستورية

أمام طلابه، كان قيس سعيد يظهر بعضًا من أفكاره التي لم يكن يبوح بها كثيرا، لقد كان رجل قانون، يهتم بكل ما هو تقني، ومنحته سنوات التدريس إمكانية إتقان الحرفة القانونية، حينها بدأت أفكاره تتضح. بدا سعيد وقتها ناصريا أكثر من كونه بورقيبيا، حيث لم يكن يرى في تونس سوى دولة تسيطر عليها سلطة مركزية، بعيدا عن الأحزاب والديمقراطية والخصام الأيديولوجي.

حضر قيس سعيد في ظل النظام السابق في العديد من المناسبات التي كانت تستدعي خبراء الدستور، خصوصا في استفتاء 2002 الذي كان الهدف منه إعداد دستور على مقاس زين العابدين بن علي حتى يتمكن من تمديد مدة حكمه الذي أراده خالدا لا يزول. خلال تلك الفترة حضر الأستاذ قيس سعيد بعض الندوات، وفي الإعلام الرسمي ظهر لتفسير مشروع الاستفتاء، ورغم ذلك لم يكن منخرطا في التبرير السياسي لهذه التعديلات.

بعد الثورة، أبدى سعيد اهتمامًا أعمق بالسياسة، فقد كان يلغي محاضراته ليسمح لطلابه بمناقشة الأحداث السياسية في البلاد، وعندما تعثرت الديمقراطية التونسية وواجهت العديد من التحديات مثل الانفلات الأمني والاغتيالات السياسية وسوء الأوضاع الاقتصادية، حرص سعيد على أن يستمع لمخاوف طلابه بشأن الثورة التونسية. كما شارك في الاعتصام الذي انعقد في فبراير/شباط 2011 وبدأ بمظاهرة من شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تونس، للمطالبة بإنهاء الماضي القديم تماما والقطع مع سنواته الطويلة.

ومع صعود اسمه كخبير ذي مصداقية يقتبس فقرات دستورية كاملة في نَفَس واحد ويحفظها عن ظهر قلب، ساهم سعيد في بعض المشاورات أثناء صياغة دستور تونس عام 2014، لكنه ظل محافظًا على موقعه في ظلال التكنوقراطية لا تحت أضواء السياسة.

أبقى سعيد نفسه بعيدًا عن الساسة والسياسيين، وهذا ما جعل انتقاداته ذات معنى بالنسبة للعديد من الشباب التونسيين. فقد نظر إلى الأحزاب الناشئة في تونس بريبة شديدة، ولم ينضم إلى أي حزب سياسي، بل ورفض التصويت في الانتخابات البرلمانية بعد ثورة الياسمين، محاججًا أن نظام القائمة المغلقة يعطي اليد العليا للأحزاب المستقرة لا للشعب ومطالب الناس. لذلك كسر سعيد عزوفه عن الظهور الإعلامي، وظهر ضيفًا على قنوات التلفزة والبرامج الحوارية باعتباره خبيرًا خارجيًا، يفسر القانون والدستور للتونسيين بمهارة ودون تعقيد. تحوّل سعيد، بشكل غير متوقع، مع الاستضافات التلفزيونية المتعددة إلى شخصية عامة جذبت العديد من التونسيين الذين سئموا من الساسة وخطاباتهم.

إعلان

بدا سعيد أمام التونسيين بصفته أكاديميًا وازنًا، لم تفسده السلطة ولم تلوثه السياسة. وبحلول عام 2019، ومع غرق الأحزاب التقليدية في الفضائح السياسية والفساد، وفشل الحكومات المتتابعة في حل أزمات الاقتصاد، وفشل تجارب التغيير في دول عربية أخرى جراء صعود الثورات المضادة، وهو ما أثر على الحالة الإسلامية التونسية، بدأت حركة شبابية على وسائل التواصل الاجتماعي تهتف لقيس سعيد وتطالبه بالترشح للرئاسة.

تعني هذه الخلفية أن قيس سعيد يندرج بشكل واضح ضمن ما يمكن أن نطلق عليه "الحاكم العادي"، الذي لم يكن معدًا أو مهيأً تقليديًا للحكم أو القيادة السياسية. ويمكن القول إن شخصية قيس سعيد كرئيس للجمهورية التونسية تقدم مثالًا عمليًا لفهم تأثيرات السلطة المفاجئة على الأفراد العاديين. يمكن النظر إلى صعوده السياسي، ثم تحركاته وقراراته من خلال عدسة سيكولوجية تركز على كيفية تأثير السلطة على نفسية الشخص، من الإحساس بالقدرة المطلقة، إلى العزلة السياسية، وصولًا إلى التوجه نحو فرض رؤية أخلاقية دون مراعاة التوازنات السياسية التقليدية.

بخطوات مترددة دلف سعيد إلى السياسة، غريبًا "كصالح في ثمود" كما وصف نفسه. ترشح سعيد بلا حزب، وبلا داعمين كبار، وبحملة بسيطة تحدت اللعبة الانتخابية التونسية. لم يقدم سعيد شعارات رنانة، ولا وعودا براقة، ولا حتى حشودًا يخاطبها بخطط واضحة، فقد اعتمد على الغموض في كل مراحله. فكلما سُلط الضوء عليه استطاع التونسيون رؤية مثالب خطابه، وكلما وجد نفسه تحت الضوء أمسك بمرآته التي يعكس فيها غضب التونسيين من الساسة والاقتصاد والوضع الأمني، فوجد عنده كثير من التونسيين ما أرادوا أن يروه، لا حقيقة قيس سعيد نفسه. لم يعِد سعيد شعبه بأي شيء ملموس على الإطلاق، ولم يقدم خطة اقتصادية كبرى، ولا بيانات مفصلة عن البلاد، بل سار بين المقاهي وتجمعات الشباب يستمع إلى شكاواهم، ولم يعِد إلا بأنه قادر على الإتيان بآليات قانونية تحقق ما يريده الشعب.

قيس سعيّد يقبل العلم التونسي بعد ورود أخبار غير رسمية عن فوزه في المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة في منتصف سبتمبر/أيلول 2019 (وكالة الأناضول)

وهذا تعريف الشعبوية، الذي استخدمه قيس سعيد ببساطة كشعار لحملته البسيطة: "الشعب يريد". لا نعرف ما الذي يريده الشعب، ولا يعرف أحد ما الشعب أصلًا! لكن سعيد كعادته قدم نفسه كأداة لتحقيق ما يريده الشعب على الحقيقة.

صدى الشعبوية

لاقت رسالته صدى في البلاد بالطبع! فلم يكن أي من الساسة -صالحهم وفاسدهم- قادرًا على التعامل بهذه الخفة مع أزمات البلاد، ومطالب التونسيين. لذلك فقد صدم التونسيون المؤسسة الرسمية والأحزاب بالتصويت لقيس سعيد ووضعه على قمة قائمة مزدحمة من المرشحين. ساعد سعيد في ذلك وضعُ منافسيه البائس، خاصة نبيل القروي، منافسه الأبرز الذي وصل معه إلى جولة الإعادة، والقطب الإعلامي الصاخب الذي كان يواجه اتهامات بالفساد وقضى الشطر الأكبر من حملته الانتخابية في السجن بتهم غسيل الأموال، وهو ما جعله يصف نفسه بأنه ضحية القضاء المسيس.

وفي خطوة شديدة الدهاء، تحمل حسًا أخلاقيًا أكسبه المزيد من الدعم، قرر سعيد ألا يقوم بحملة انتخابية على الإطلاق في جولة الإعادة بينه وبين نبيل القروي، مبررًا موقفه بأنه ليس من العدل أن يقوم بجولات انتخابية وتنظيم تجمعات شعبية من غير أن يكون لمنافسه الفرصة في الحشد نفسه بينما يقبع خلف الأسوار. قدم هذا الموقف "الدون كيشوتي" صورة لقيس سعيد كرجل صادق يترفّع عن ألاعيب السياسة القذرة.

خدم هذا الموقف سعيد من ناحية أخرى، فقد أعفاه من مؤنة شرح أفكاره وبرامجه للناخبين، ووضع نفسه تحت مجهر الأسئلة الشعبية، ولكنه نجح في تصوير هذا الموقف كموقف أخلاقي، ما جعل رئيس جمعية "البوصلة" التونسية، سليم خراط، يرى في مقابلةٍ حينها أن الناخبين التونسيين من الشباب "رأوا في سعيد فرصة لاستعادة مستقبلهم" لأنهم ارتبطوا بهذا الحس من الصدق والعدالة. وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قدم التونسيون لسعيد نصرًا حاسمًا بقرابة ثلاثة أرباع الأصوات، وهو ما رآه الكثيرون حينها باعتباره رفضًا شعبيًا للنخبة السياسية التونسية بعد 2011.

استحوذ الصعود غير المتوقع لسعيد على اهتمام عالمي متوقع، فأستاذ القانون الهادئ الطباع، الموصوف بالصرامة، والمبتعد عن السياسة طوال حياته تقريبًا، تحوّل إلى وعاء للغضب الشعبي التونسي. بدت شخصية سعيد مثيرة للاهتمام ليلة الانتخابات، فقد كان الرجل النحيف مشدود الظهر يبتسم بالكاد وهو يحيي مؤيديه كما لو كان مذهولًا أو مرتبكًا نتيجة الهتافات التي تعلو من حوله تهتف باسمه.

إعلان

عندما تحدث سعيد أهدى انتصاره رسميًا "للشعب"، وتعهد -بلغته الفصحى التي يخالطها لحن يعرفه المتحدثون بها- بمحاربة الفساد واستعادة أهداف الثورة. كانت صورة سعيد الرسمية، ولهجته غير المعتادة، منعشة للتونسيين المتعطشين إلى بديل مختلف. لقد أصبح سعيد ثالث رؤساء تونس بعد الثورة، وللمفارقة، فإن غرابة سعيد أو اختلافه عن النمط السائد للساسة التونسيين تحول إلى رأس ماله السياسي الحقيقي وأهم نقاط قوته.

في قرطاج صارت لنا أيام

منذ اللحظة الأولى لتوليه الرئاسة، بدا قيس سعيد كشخصية متناقضة، فهو شعبوي لكنه يستخدم لغة أستاذ جامعي، وهو محافظ للغاية لكنه يتحدث طوال الوقت عن التغيير الثوري، وهو مبتدئ في السياسة لكنه يتمتع بشرعية الاكتساح الديمقراطي. كذلك صوّر سعيد نفسه ممثلًا منتخبًا للشعب على تنويعاته المختلفة، لكنه لم يخفِ أبداً تذمره من التعددية والتنافسية التي لا تنفك عن الحالة الديمقراطية. في الخطابات كان سعيد يكرر عادته في اقتباس فقرات كاملة من الدستور يحفظها عن ظهر قلب، وكان يعيد التأكيد أن "إرادة الشعب" -التي لا نزال نجهل محدداتها وما تعنيه- فوق كل اعتبار، ووعد الجميع بإعادة النظر في النظام السياسي التونسي ليعكس هذه الإرادة حقًا.

كانت خطة سعيد للانفراد بالمشهد السياسي دون منازع تتمحور حول التشكيك في الأحزاب والسياسيين وفي الديمقراطية التمثيلية، لذلك دعا منذ وقت مبكر إلى ما سماه النظام القاعدي، وهو نوع من الديمقراطية المباشرة التي طُرحت لأول مرة منذ 3 قرون. يقترح سعيد هيكلًا لامركزيًا غير واضح المعالم، تُنتخب فيه المجالس المحلية، ثم يُعاد تنظيم الهيكل السياسي كاملًا من القاعدة إلى القمة. ولعل أقرب مثال لما يريد سعيد تنفيذه هو نموذج الجماهيرية الشعبية الذي طرحته الجارة ليبيا في عهد معمر القذافي.

لكن هذا التصور الذي يبدو في ظاهره ديمقراطيا، ويعطي -لأول وهلة- السلطة للشعب، يحمل في باطنه الانفرادية والسلطوية ونظرة شديدة القسوة والاستعلاء على المجتمع واختياراته. أما من حيث الأيديولوجية السياسية، فظاهر خطاب سعيد يميل إلى المحافظة، لا التي يؤمن بها المحافظون التونسيون مثل القوى الإسلامية وغيرها، لكن المحافظة التي يراها هو، وينفرد بتفسيرها. في نفس الوقت، قدم سعيد نفسه كممثل "للشعب" وتطلعاته الثورية التي خانتها النخبة السياسية المستأثرة بالجاه والسلطان والمال، وأنه جاء ليعيد الثورة إلى مسارها الصحيح.

إن انتقال شخص من حياة هادئة وأكاديمية إلى مركز قوة سياسية عليا يفتح الباب أمام تحولات نفسية جوهرية. وفقًا للتحليل النفسي المتعلق بسيكولوجية السلطة، فإن الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في موقع الحكم يتعرضون لتغييرات عميقة في الإدراك والهوية الذاتية.

قيس سعيد يقسم أمام مجلس نواب الشعب التونسي المنتخب وخلفه رئيس البرلمان عبدالفتاح مورو في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019 (رويترز)

وقيس سعيد، الذي اشتهر بحياته الأكاديمية الهادئة، وجد نفسه فجأة في قلب القرارات الوطنية الحساسة، وأمام مسؤوليات سياسية لم يكن مهيَّأً لها من خلال التجربة السياسية أو الإعداد المسبق. هذه التغييرات المفاجئة قد تدفع الشخص إلى تطوير "وهم السيطرة"، حيث يصبح مقتنعًا بقدرته على تغيير الأوضاع والقرارات على نطاق واسع، حتى لو كانت تلك القدرة تتجاوز حدوده الفعلية.

يمكن للسلطة أن تُشعر الشخص بالقوة المفرطة، لكنها في نفس الوقت قد تؤدي به إلى عزلة تدريجية. تجلت هذه الصورة التي رسمها سعيد لنفسه، باعتباره مناضلًا أمينًا وحيدًا في مواجهة نظام فاسد -أو عالم فاسد بمعنى أصح- في تصريحاته أمام الناس والإعلام. ففي مقابلة كاشفة مع صحيفة لوموند الفرنسية في يونيو/حزيران 2020، بعد 8 أشهر فحسب من ولايته، تحدث سعيد، لا كرئيس دولة يحاول أن يبني إجماعًا مع القوى السياسية المختلفة في بلده، وإنما كشخص خارجي لا يزال في حرب مع المؤسسة التي يمثلها! وهي الصورة التي سيحافظ عليها حتى النهاية.

قال سعيد، الذي كان يزور باريس حينها، إنه لا ينتمي إلى نفس المجرة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم "سياسيين". كانت صياغته لافتة للغاية! إن سعيد يرى نفسه قادمًا من عالم مختلف، ككائن فضائي غريب عن الجميع، يحاربه الجميع وعليه أن يحارب الجميع. لكن سعيد المليء بالتناقضات أرجع الفضل في صعوده السياسي إلى "اختيار الشباب". وفي المقابلة أيضًا وصف الرئاسة بأنها عبء تاريخي، لكنه تابع بنبرته المميزة "حلمي ألا أكون رئيسًا، بل أن أكون على موعد مع التاريخ".

تكشف هذه المقابلة، وكثير من تصريحات سعيد قبلها وبعدها، عن قناعة دفينة لديه بأنه وحده من يفهم مطالب الشعب، وأن الساسة والأحزاب والمتآمرين من داخل البلاد وخارجها وأولئك الذين يملكون المال سيحاولون إيقافه وتعطيل مسيرته. كان سعيد، وهو رئيس الدولة المنتخب، يستخدم خطابًا كما لو كان قائد تمرد ضد الطبقة السياسية التونسية بأكملها.

لذلك ففي أول سنتين قضاهما في الرئاسة، وهو الذي يقترب الآن من 6 سنوات في المنصب، كانت العلاقة متوترة بينه وبين بقية سلطات الدولة المنتخبة، في الحكومة والبرلمان. بعد الثورة، كان التونسيون قد اتفقوا على نظام شبه رئاسي، تُقسم فيه السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء ويتمتع فيه البرلمان المنتخب بصلاحيات واسعة. لذلك وجد سعيد -الذي لا ينتمي إلى أي حزب ولا يملك قاعدة شعبية منظمة لدعمه- نفسه وحيدًا على رأس الدولة، محاطًا بمؤسسات لا يسيطر عليها.

سعيد لا يحب الغنوشي

كانت القوى التي لا يحبها قيس سعيد تسيطر على البرلمان، وعلى رأسها حزب حركة النهضة، لزعيمه راشد الغنوشي الذي انتُخب رئيسًا للبرلمان. كان الغنوشي وحزبه قد دعما قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، لكن ذلك لم يشفع لهما لدى سعيد الذي انقلب على منافسيه وحلفائه الذين رآهم يمثلون تهديدًا لسلطته، أو ادعى أنهم ملوثون بالفساد، أو شبكات النظام القديم.

في فبراير/شباط 2020، أي بعد 5 أشهر من الانتخابات، شكل إلياس الفخفاخ -اليساري المنتمي إلى حزب التكتل- حكومة جديدة لم تصمد طويلًا بعد أن سُحبت منها ثقة "النهضة" بعد 5 أشهر أخرى في يوليو/تموز. حينها كلف قيس سعيد وزير الداخلية والأكاديمي المستقل هشام المشيشي، بتشكيل حكومة جديدة وُصفت بأنها حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب، وحصلت على ثقة أغلبية مطلقة من أعضاء البرلمان.

لعل الرئيس أراد أن يقترب من رئيس وزرائه الجديد، لكن المشيشي الذي -خلافًا لسعيد- كان قد استكمل الدكتوراه في القانون، وجد نقاط اتفاق مع الأغلبية البرلمانية أكثر مما وجد مع الرئيس غريب الأطوار. تسبب ذلك في شقاق محرج بين رؤوس السلطات الثلاث في تونس، تحوّل إلى أخدود من الصراع مع بداية عام 2021. أعلن المشيشي حينها عن إجراء تعديل وزاري موسع، بعدما أطاح ببعض الوزراء، بمن فيهم وزير الداخلية توفيق شرف الدين الذي كان صديقًا مقربًا لسعيد.

عمّق التعديل الوزاري الأزمة السياسية، وهو ما أثار غضب سعيد الذي أطلق اتهامات غامضة -كالمعتاد- ضد مرشحين وزاريين لم يسمهم، واتخذ خطوة استثنائية برفضه أداء اليمين الدستورية للوزراء الجدد، ما عرقل التعديل الحكومي بالفعل. اعتمد سعيد في ذلك على مساحة رمادية في الدستور، حيث لا يعطي دستور 2014 للرئيس -صراحة- حق النقض على التعديلات الوزارية التي يقرها البرلمان، لكنه من الناحية الأخرى يشترط موافقته الرسمية. وجدت تونس نفسها في مأزق دستوري مع إصرار سعيد على أنه "لن يسمح" للشخصيات الفاسدة بالالتحاق بالحكومة. أما البرلمان، فقد افتقر إلى الأدوات اللازمة لتجاوز رفض سعيد، خاصة أن المحكمة الدستورية المخصصة للفصل في مثل هذه النزاعات لم تنشأ بعد الثورة أبدًا!

لم تتوقف الأزمة عن التفاقم، وفي أبريل/نيسان 2021، ألقى سعيد خطابًا استفزازيًا أمام قادة الجيش والشرطة، ليفسر الدستور بما يعني تنصيب نفسه لا قائدًا أعلى للجيش فحسب، بل لقوات الشرطة المدنية أيضًا. اعتُبر هذا التفسير تحديًا مباشرًا للحكومة ورئيسها المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي. ففي الخطاب، وبينما كان ينظر إلى المشيشي والغنوشي من بين الحضور، قال سعيد: "رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، فليكن هذا الأمر واضحاً بالنسبة إلى كل التونسيين في أي موقع كانوا".

رد المشيشي في أول تعليق رسمي على ما أثاره سعيد في خطابه؛ بالقول إنه " كلام خارج السياق"، وإنه "لا حاجة للدخول في القراءات الفردانية والشاذة للنص الدستوري". حينها رفض سعيد إصدار قانون يتعلق بإنشاء المحكمة الدستورية، ورفض أي تعديل دستوري يتعلق بهذا الموضوع بحجة أنه لا يمكن تعديل القانون الأساسي دون موافقة المحكمة الدستورية!

احتفى من تبقى من مؤيدي سعيد بقراراته، ربما لأنهم رأوا الرئيس يقدم نفسه كمحارب ضد نظام وصفه دومًا بالاختلال. أما منتقدوه، ومعظم المعلقين السياسيين حول العالم، رأوا فيما يفعله الرئيس تحولًا نحو الاستبداد ورفضًا لأي قيود دستورية أو قانونية أو شعبية على سلطته. كان التونسيون يراقبون صعود سعيد نحو حكم الفرد تواكبًا مع صعود أزمة جائحة كورونا والاقتصاد المتدهور.

خلال صيف 2021، كان الغضب الشعبي من الطبقة السياسية قد وصل إلى ذروته. اندلعت احتجاجات في يوم الجمهورية التونسية في 25 يوليو/تموز، وهاجم المتظاهرون الحكومة التي فشلت في التعامل مع الوباء، وكذلك حزب النهضة. وفي بعض المدن التونسية اندلع هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهنا كانت اللحظة مواتية لسعيد، وهي اللحظة التي استعد لها منذ فترة طويلة، فأخذ خطوته الأهم.

قيس سعيد وراشد الغنوشي (الجزيرة)

ففي خطاب متلفز أعقب اجتماعًا طارئًا مع قادة الجيش والأمن، استشهد سعيد بالمادة 80 من الدستور التونسي، والتي شذ في تفسيرها عن خبراء الدستور في تونس وخارجها، ليمنح نفسه صلاحيات الطوارئ، ويقيل رئيس الوزراء، ويجمّد عمل البرلمان، ويتولى السلطة التنفيذية! كانت لحظة عجيبة، استولى فيها سعيد على كل السلطات، وهو الذي لا يزال يعتبر نفسه غريبًا من خارج المنظومة السياسية، بل أشبه بفضائي من خارج المجرة كلها!

لم يُبد أستاذ القانون الدستوري اهتمامًا بالتفاصيل القانونية، فهو في عينيه المخلّص للشعب التونسي كله، وفي سبيل الخلاص فالقانون ليس إلا مطية لا غاية! جرّد الرجل أعضاء البرلمان من حصانتهم، وأشار إلى أن المحاكمات ستطال السياسيين بتهم الفساد. كانت نبرة سعيد آلية كعادته، لكنها كانت شديدة الخطورة هذه المرة، ففي نهاية خطابه كشف عن مخالبه بالتحذير من أن القوات المسلحة ستضرب بالرصاص من يفكر في اللجوء إلى السلاح!

لقد نجح الرئيس التونسي في تنفيذ ما تعارف علماء السياسة على تسميته: الانقلاب الذاتي.

انقلاب لتصحيح الثورة و"لطيفة" تغني يحيا الشعب!

تدفق التونسيون إلى الشوارع، احتفل البعض في شارع الحبيب بورقيبة وسط تونس، وعاد بعض الإعلاميين والفنانين إلى زمن الغناء السياسي كما كان يحدث في عهد بن علي. لم يُخفِ معظم المحتفلين سعادتهم بالسقوط المفترض لحزب النهضة، وخروج الشيخ راشد الغنوشي من السلطة. لكن في نفس الوقت، فزع المعارضون إلى التنديد بالانقلاب الذي نفذه سعيد ضد الديمقراطية الناشئة في تونس.

لن ينسى التونسيون مشهد الغنوشي أمام مبنى البرلمان في ساعات الصباح الأولى يطالب بفتح أبواب هذه المؤسسة التشريعية التي يرأسها ليتمكن من ممارسة مهامه، لكن قيس سعيد حينها كان قد وضع الجيش أمام البرلمان ومنع خصومه من ردة فعل سريعة، ومنع تونس من الحفاظ على ثورتها، مجبرا التونسيين على الهروب، لكن إلى عهد ما قبل الثورة.

عكس ما بدا عليه الأمر، لم يتفاجأ الغنوشي ولا حركة النهضة من هذا التحرك، فالريبة كانت سيدة الموقف في كل المشهد، خصوصا بعد تسريب وثيقة من مكتب مديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة، يعود تاريخها إلى 13 مايو/أيار 2021، وهي تدعو الرئيس التونسي إلى تفعيل المادة 80 من الدستور، وحل البرلمان وإعفاء الحكومة ثم جمع السلطات في يده، كون ذلك سيكون الأمل الوحيد لإنقاذ البلاد من جميع الأزمات التي تتخبط فيها.

في اليوم التالي، مشى سعيد بوجهه العابس بين الحشود المبتهجة في شارع الحبيب بورقيبة، وحاضرهم عن إجراءات الوقاية من وباء كورونا، وضرورة تطهير البلاد من الفساد. كان المحتفلون يحاولون السلام على الرئيس الذي أكد أن خطوته ليست انقلابًا، بل تصحيحًا دستوريًا لتحقيق إرادة الشعب. وقد رأى سعيد أنه جسّد هذه الإرادة بالقضاء على البرلمان الذي انتخبه الشعب لتمثيله!

لكن في الحقيقة، كان التونسيون منقسمين فيما بينهم، امتزج الأمل بالخوف في تلك الأيام، وأعرب الناس في المقاهي والشوارع عن موقف مرتبك، لم يختلف كثيرًا عن الموقف الحذر الذي تبنته جماعات المجتمع المدني والاتحاد العام للشغل. أمل البعض في إعطاء فرصة لسعيد كي يصلح الأمور، بل إن بعض المعارضين أبدوا تفهمًا لانقلابه بسبب الجمود السياسي والأزمة المتفاقمة والصراعات الداخلية في البرلمان، كذلك فرح بعض الفنانين ومنتجي الأغنيات بخطوة سعيد، فأطلقت الفنانة التونسية "لطيفة" سريعًا أغنية عنوانها "يحيا الشعب" دعمت فيها قيس سعيد على نفس شاكلة الأغنيات التي أُطلقت في مصر عام 2013 . في هذه الأثناء، كانت بعض وسائل الإعلام العربية قد بدأت بالاحتفال بسعيد، بالقول إن الشعب نال ما أراد، خصوصًا أن الخصم المُزاح كان الإسلاميين، في تكرار لما جرى في بلدان أخرى.

ادعى سعيد في البداية أن إجراءاته الطارئة ستستمر 30 يومًا فقط، وحين اقترب الموعد النهائي، مدد تجميد عمل البرلمان "حتى إشعار آخر"، وبحلول سبتمبر/أيلول 2021، أصدر مرسومًا ليستولي بموجبه على جميع السلطات التنفيذية والتشريعية. تحولت تونس في تلك اللحظة إلى دكتاتورية فردانية بشكل فعلي.

استغل قيس سعيد الاستياء الشعبي من المؤشرات الاقتصادية والسياسية لتبرير قراراته السلطوية (وكالة الأناضول)

استهدف سعيد كذلك كل المؤسسات المستقلة التي أُنشئت بعد عام 2011، فقد حل المجلس الأعلى للقضاء، وهو الهيئة الأهم في ضمان استقلال القضاة في تونس. أما القضاة الذين تجرؤوا على انتقاد سعيد وقراراته، فقد فُصلوا أو اعتُقلوا، ثم أُضيفوا إلى قضايا سياسية حُكم فيها على بعضهم بالسجن لعشرات السنين. حيّد سعيد البرلمان والقضاء، ولأنه كان قد قرر ألا ينشئ المحكمة الدستورية التي كانت لتوقف تغوّل قراراته أو بعضها، لم يعد أمامه أي عائق لبسط سلطته المطلقة.

هذا النوع من السلوك يتماشى مع ما أظهرته دراسات علم النفس حول "التعالي السلطوي"، حيث إن السلطة تعزز شعور الشخص بأنه قادر على اتخاذ القرارات بدون الرجوع إلى الآخرين أو مراعاة التوازنات السياسية.

برر سعيد خطواته تارة بلغة قانونية تبدو لغير المتخصصين بليغة، وتارة أخرى بلغة شعبوية عمومية غامضة لا تليق أن تُقال في محكمة أمام قاض، فضلًا عن أن تكون لغة أستاذ قانون ودستور، أو رئيس جمهورية! كان سعيد يظهر في مقاطع فيديو منشورة في أوقات متأخرة من الليل من قصره الرئاسي، يسخر ضمنًا من مواد دستورية ويعطّلها بحجة الظروف الاستثنائية التي تتطلب صلاحيات استثنائية.

كان سعيد يدرك دومًا أن القانون لن يكون في صفه، ولا الدستور، ولا مؤسسات الدولة المنتخبة، لذلك لم يتوقف أبدًا عن استدعاء شعاره "الشعب يريد"، كما لو كانت الحشود المبتهجة في شارع الحبيب بورقيبة قد منحته تفويضًا مطلقًا لإعادة كتابة كل القواعد التي تحكم العلاقة بين الشعب والسلطة. أجرى سعيد تحولًا على شعار "الشعب يريد"، فبدلًا من أن تكون المطالب شعبية، أصبح الشعار مبررًا لإصدار الأوامر التي يريدها سعيد.

لم يكن سعيد مستعدًا للاستماع لأي رأي مخالف ولا حتى للحوار، ففي أحد الاجتماعات المبكرة وبّخ أولئك الذين شككوا في إجراءاته ووصفهم بأنهم "خلايا سرطانية" يجب استئصالها من تونس، وقال حينها إن الحوار معهم لا طائل منه، وإنه "لا عودة" عن المسار الذي اتخذه. كان مؤيدو سعيد يقلّون مع الوقت، وظهر ذلك في تعليقات التونسيين على وسائل التواصل وفي الساحات وفي التقارير الإخبارية والحقوقية.

أما المفارقة الحقيقية حينها فهي أن سعيد ظل يصور نفسه على أنه ممثل التونسيين الوحيد، الممثل الصادق والمطلق "للشعب" ورغباته، كان يؤكد على ذلك في الوقت الذي يفكك فيه مؤسسات الدولة الديمقراطية واحدة تلو الأخرى. لعل الاستبداد أغرى سعيد، واتضح ذلك حين لم يعد الرئيس يظهر أي اهتمام باستعادة النظام الدستوري الطبيعي. وعندما كان يُسأل عن استعادة البرلمان أو إجراء الانتخابات، كان الرجل يجيب بغموض، كما نعرف، مؤكدًا أنه لا عودة إلى الطرق القديمة ولا النظم السابقة. وحين أراد أن يصوغ دستورًا جديدًا بدلًا من ذلك الذي أقسم على الحفاظ عليه، استبعد أحزاب المعارضة والمجتمع المدني وعيّن لجنة اختارها بعناية من أصدقائه ومؤيديه.

قبل ذلك، كان سعيد قد عيّن حكومة وصفها بالتكنوقراط، وفي محاولة لإيجاد رئيس حكومة طيّع، وربما في مغازلة لأطراف خارجية، اختار سعيد أستاذة الجيولوجيا المتخصصة في المناجم، نجلاء بودن، لتقود الحكومة كأول سيدة في تونس والعالم العربي تصل إلى هذا المنصب. احتفلت بعض الجهات النسوية بالقرار، لكنّ دور بودن كان واضحًا. إنها أكاديمية لا تعرف السياسة ولا تمتلك قاعدة مؤيدين ولا تنتمي إلى حزب سياسي، وهو ما يناسب سعيد تمامًا. أراد سعيد أيضًا في بودن وجهًا لطيفًا للمشاركة في الاجتماعات الدولية، بينما يجلس هو في أرض الوطن يكمل ما بدأه، وليتأكد من أن جميع الخيوط لا تزال في يده.

استشارة وطنية أونلاين

مع بداية عام 2022 كانت شعبية سعيد تتضاءل بين التونسيين الذين أرهقتهم سنوات الاضطراب، فقد استمر الاقتصاد في التدهور، ولم يفعل سعيد شيئًا سوى الحديث والجدل وإطلاق التهم وترويج نظريات المؤامرة، فهاجم المتلاعبين بالاقتصاد، والمضاربين، والخونة المجهولين المسؤولين عن ارتفاع الأسعار، ولم يقدم أي خطة إصلاح اقتصادي.

رأى سعيد شرعيته تتآكل، فحاول إضفاء قدر منها على نظامه السياسي الجديد، فنظم ما أسماه "استشارة وطنية"، وهو استبيان إلكتروني قدمه للتونسيين تحت شعار "رأيكم قرارنا". وُصف الاستبيان بأنه تمثيل للديمقراطية المباشرة كما يقول الكتاب! فقد سُمح للتونسيين بتسجيل الدخول واختيار إجابات بعينها حول نوع النظام السياسي، أو الإصلاحات الاقتصادية التي يأملون تحقيقها.

من اللافت للنظر أن قيس سعيد قرر التواصل المباشر مع الشعب دون وساطة المؤسسات السياسية أو الأحزاب. ولعل هذا يعكس محاولة من جانبه للتغلب على العزلة السياسية التي قد تصاحب الشخص العادي الذي يصعد فجأة إلى السلطة والتي تجعله كشخص وحيد وصل إلى أعلى الجبل.

كان الاستبيان غريبًا وغامضًا كعادة اختيارات قيس سعيد، ولم يجتذب اهتمام التونسيين في غالبهم. تدّعي السلطات التونسية أن عدد المشاركين تجاوز نصف مليون تونسي، وهو رقم -لو صحّ- فيعني أن أقل من 5% من المواطنين شاركوا في استشارة سعيد. لكن تلك النسبة الضئيلة لم تمنعه من ادعاء النصر واعتبار هذه المشاركة تكليفًا من "الشعب" وتذكيرًا له بما "يريد".

ومن المفارقات اللافتة أن قيس سعيّد لم يصف نفسه يومًا بأنه "ديمقراطي". هذه الكلمة غائبة تمامًا عن قاموسه السياسي، فهو لا يرى نفسه جزءًا من منظومة تعددية، بل يرى نفسه "الممثل الوحيد للشعب"، المتحدث الأوحد باسم "الإرادة العامة" الغامضة. لكن صعود هذا "الممثل" نفسه تحوم حوله الشبهات، فمعلومات متواترة تشير إلى أن انتخابات 2019 في تونس شهدت سيناريو شبيهًا بفضيحة "كامبريدج أناليتيكا"، عبر حملات رقمية معقدة استهدفت الناخبين.

هذه الحملات، التي ظهرت في سياق جيوسياسي أوسع شمل دولا أفريقية مثل مالي والنيجر، جعلت الحركة الشبابية العفوية التي دعمت سعيّد تبدو -بعد التدقيق- منظمة بدقة متناهية. غير أن "الشعب" الذي ادعى تمثيله، هو نفسه من يوجه له اليوم أقوى رسائل الرفض، فالشعب التونسي الذي لم يعد قادرًا على النزول إلى الشارع للتعبير عن غضبه، عبّر عنه بالمقاطعة. إن نسبة المشاركة الهزيلة في الاستشارة الوطنية، وكذلك نسبة 8% (التي يُرجح أنها مزورة) في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ليست مجرد عزوف، بل هي استفتاء شعبي صامت يعلن نهاية شرعية سعيّد باعتباره "الممثل الوحيد".

جانب من احتجاجات نظمها معارضو الرئيس قيس سعيد للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين في مارس/آذار 2025 (الجزيرة)

سريعًا عيّن الرئيس عددًا من أصدقائه خبراء القانون في لجنة لصياغة دستور جديد على مقاسه لينفذ أفكاره الرئاسية، ويعطي سلطة مخففة للبرلمان، ومساحة للمجالس القاعدية المباشرة. ومع ذلك، لم يرتح سعيد لمسودة الدستور التي اقترحها الخبراء، فنشر في يونيو/حزيران 2022 نسخته الخاصة، التي تتمثل في نظام رئاسي يقترب من الألوهية، تلك التي كان يمزح بشأنها مع لطفي زيتون قبل ذلك بسنة واحدة بالضبط في قصر قرطاج.

طرح سعيد دستوره للاستفتاء بعد شهر واحد في يوليو/تموز، وسط مقاطعة من المعارضة ولا مبالاة واسعة النطاق بين المواطنين. كانت النتائج محسومة سلفًا بعدما عرقل الرئيس أي حملات لرفض مسودة الدستور، وعادت تونس لترى نسب الموافقة التسعينية بنحو 94% من الأصوات الموافقة، والتي تجاوزت النسبة التي حصل عليها زين العابدين بن علي في آخر انتخابات أجراها عام 2009 قبل الثورة، والتي ادّعى حصوله فيها على 89% من الأصوات.

لكن التونسيين لم يكونوا على استعداد لخسارة مكتسبات الثورة بلا مقاومة، فمع تصاعد الإجراءات القمعية التي اتخذها سعيد، ازداد معارضوه جرأة وعلت أصواتهم بالرفض، ودفعوا ثمن ذلك غاليًا. ففي الأشهر التي تلت يوليو/تموز 2021، حظر سعيد سفر السياسيين، وفرض الإقامة الجبرية على عدد غير قليل منهم، وبدأ باعتقال بعض أعضاء البرلمان وحتى القضاة. تمت هذه الاعتقالات بغموض وتعسف، فقد وجهت أجهزة الأمن التهم إلى المعارضين بلا أدلة وبدون التزام بالإجراءات المتبعة.

خلال هذه الفترة، ظهر أحد أبرز رموز الثورة التونسية ورئيس البلاد السابق، المنصف المرزوقي، ليعارض سعيد بكل قوة. ففور قرار سعيد الانقلابَ على الديمقراطية، دعا المرزوقي خلال إطلالاته التلفزيونية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإطاحة بسعيّد من الرئاسة، واصفا إياه بأنه "انقلابي" و"دكتاتور".

لم يعارض المرزوقي قرارات سعيد بناء على كونه مفكرًا سياسيا بارزًا ورئيسًا سابقًا وديمقراطيًا عتيدًا فحسب، بل بصفته طبيبًا أيضًا. ففي تصريح متلفز، قال المرزوقي إن قيس سعيد "رجل غير سويّ"، وإن كل نقاش معه غير مُجدٍ، مشددا على أن هذا الرأي "رأي طبيّ محض"، ولا دخل للخصومة السياسية فيه. فبالنسبة للمرزوقي الطبيب، يعاني سعيد من جنون العظمة، ويرى في نفسه النبي الذي جاء يخلص البشرية من الفساد والفاسدين.

كذلك دعا المرزوقي دول العالم إلى عدم مساندة الدكتاتورية في تونس، فردّ سعيد بسرعة وأعلن أنه سحب جواز السفر الدبلوماسي من الرئيس السابق. وقبل أن يتصاعد الموقف بسرعة شديدة، وقبل نهاية عام 2021، كان سعيد قد حث القضاء على استهداف المرزوقي، ففي نوفمبر/تشرين الثاني أصدرت المحكمة الابتدائية مذكرة اعتقال دولية بحق المرزوقي، وبعد شهر آخر أصدر القضاء الذي يسيطر عليه سعيد حكما غيابيا على المرزوقي بالسجن 4 سنوات مع النفاذ العاجل، بتهمة "الاعتداء على أمن الدولة الخارجي".

وبمجرد أن استشعر سعيد الاستواء فوق عرشه، بدأ في تطويع القانون لاستهداف المعارضين. وكانت حركة النهضة أول المستهدفين، وكان زعيمها الشيخ راشد الغنوشي أحد أبرز الضحايا. لم يُعتقل الغنوشي -رئيس البرلمان المنتخب- مبكرًا، لكن الرجل الثمانيني كان شجاعًا بالقدر الذي جعله يعمل على تشكيل جبهة للإنقاذ لمعارضة انقلاب سعيد. رأى الغنوشي فيما يفعله سعيد تفكيكًا للديمقراطية، وشبّه مشروعه لاستبعاد الإسلاميين بزرع بذور الحرب الأهلية في تونس. حينها لم يكن قيس سعيد ليستطيع تبرير اعتقال الغنوشي، أو ربما اعتقد ضعف شعبيته فلم يستخدم أدوات القهر التي امتلكها لإسكاتهم في البداية.

لكن مع مرور الوقت، بدأت قوات الأمن باعتقال شخصيات من المعارضة، واتسعت دائرة الاستهداف سريعًا لتشمل إسلاميين ويساريين ورجال أعمال وصحفيين ومسؤولين سابقين وقضاة، حيث اتهمهم سعيد بالتآمر على الدولة، أو بالفساد، وحتى بالإرهاب.

إلى أن جاء أبريل/نيسان 2023، حينها أدرك سعيد أن غريمه اللدود لن يردعه -إن فعل- إلا أن يخفيه عن العالم ومؤيديه بالسجن! وفي ليلة 27 رمضان، داهم أكثر من 100 عنصر من الشرطة منزل الشيخ الذي ناهز سن 82 وألقوا القبض عليه. رأى سعيد في الغنوشي تهديدًا متعدد الأوجه، فهو شخصية مقبولة دوليًا، يُدعى إلى حضور اللقاءات الدولية من غير أن يُدعى سعيد، ويشارك في مؤتمر دافوس مع قادة العالم، ليخرج سعيد ليقول إن تونس ليست مشاركة في المؤتمر، ويزوره الرؤساء فيغضب قيس سعيد.

في الكثير من الجوانب، مثّل الغنوشي المقابل الموضوعي لسعيد، فهو ديمقراطي حقيقي، له دعم شعبي ملموس، قعّد للديمقراطية في كتبه منذ عقود، ودفع ثمن نضاله من أمانه الشخصي وحياته، في الوقت الذي كان فيه سعيد يتمتع بالعمل في ظل دكتاتورية بن علي. كما أن الغنوشي يقود حزبًا يمثل رقمًا صعبًا في معادلة السياسة التونسية، ويلهم عشرات الكيانات الوسيطة التي يمقتها سعيد لأنها تنقل نبض الشارع الذي يدّعي أن لا أحد غيره يستطيع التقاطه.

اتهم سعيد الغنوشي بالتآمر على أمن الدولة، والذريعة كانت تسجيلًا قال فيه الغنوشي إن استبعاد تيارات سياسية معينة (مثل اليسار أو حركة النهضة) سيؤدي حتمًا إلى اضطرابات في تونس، وهو التصريح الذي حوّله سعيد والقضاء الذي يسيطر عليه إلى "تحريض على الحرب الأهلية". شجع سعيد قضاته ووصفهم بالشرفاء على التلفزيون الرسمي. وفي افتئات جديد من أستاذ الدستور، وتجاهلًا لإجراءات التحقيق والتقاضي واستقلالية القضاء، وصف سعيد المتهمين بأنهم "خونة وإرهابيون"، وقال إن القضاة الذين قد يبرؤونهم هم شركاؤهم في الجريمة!

الغنوشي أعلن رفضه القاطع لإجراءات سعيّد وحذر من اضطرابات قد تنتج عنها (الجزيرة)

هاجمت حركة النهضة سجن الغنوشي، ووصفته بأنه قرار سياسي يهدف إلى التغطية على الفشل في حل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وهو قول يحمل قوة تفسيرية حقيقية، فقد جاء اعتقال الغنوشي وسط موجة أوسع شملت شخصيات علمانية معارضة، ووزراء سابقين، وقادة أحزاب، وصحفيين بارزين. استلهم سعيد في هذه اللحظة نماذج سلطوية عربية أخرى، وبحلول منتصف 2023، كان قد ضم عشرات الشخصيات البارزة في تونس إلى قضية التآمر على الدولة. جاء المعتقلون من خلفيات متعددة، فكان منهم اليساريون والإسلاميون والديمقراطيون ورجال الأعمال والنقابيون، ولم يتشاركوا مع بعضهم البعض إلا في معارضتهم الصريحة لقيس سعيد.

رأى العالم ما يحدث باعتباره ردة على الديمقراطية والثورة، فقد أصدرت منظمات حقوقية كبرى -مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية- تقارير تشرح بالتفصيل كيف أن ما يفعله سعيد يعيد تونس إلى دكتاتورية بن علي، مفصّلة الاعتقالات التعسفية والإجراءات التي اتخذها لسحق المعارضة السلمية. أما سعيد، الذي لا يجد فوق نفسه من مزيد، فلم يلتفت إلى الانتقادات الدولية، واستمر في تشويه معارضيه كما قد يفعل ناشط سياسي متحمس لا رئيس دولة منتخب.

الأفارقة يحاصرون تونس!

عندما احتاج سعيّد إلى فزاعة جديدة ليخيف بها "الشعب"، لم يجد أضعف من المهاجرين الأفارقة. فقد جاء خطابه عن "جحافل" المهاجرين القادمين ضمن "ترتيب عالمي" لتغيير التركيبة الديمغرافية في تونس، لم يكن وليد لحظته، بل كان استدعاءً مباشرًا لنظرية "الاستبدال العظيم" (The Great Replacement) العنصرية، التي روّج لها الكاتب الفرنسي اليميني المتطرف، رينو كامو. إن استخدام رئيس دولة لمثل هذه النظريات، يظهر مدى استعداده لاستخدام خطاب الكراهية لصرف الأنظار عن الفشل الاقتصادي الحقيقي.

وفي الوقت الذي كان يحارب فيه "الخلايا السرطانية" الوهمية، كانت شبكات المصالح الجديدة المحيطة به تمتد في مفاصل الدولة، مدمرةً كل الأجسام الوسيطة التي بنتها تونس بعد الثورة. فالرجل الذي صعد على وعد "التطهير" ومحاربة الفساد، شهدت تونس في عهده تدهورًا مرعبًا في الترتيب العالمي للفساد، في إثبات جديد على أن خطابه الأخلاقي لم يكن سوى قناع تكمن خلفه إرادة مطلقة للسيطرة، بعيدًا عن أي محاسبة.

فبعد 4 سنوات من توليه الرئاسة، استمر سعيد خلال عام 2023 في إلقاء اللائمة على فشل سياساته على المؤامرات التي لا يستطيع ردها. ففي فبراير/شباط، وفي اجتماع لمجلس الأمن القومي، وجه سعيد اللوم في أزمات تونس ومحنتها إلى المهاجرين الأفارقة السود.

كانت لتصريحات سعيد التي ألقاها بنفس النبرة الجامدة وذات الوجه الخالي من المشاعر عواقب فورية، فقد أثارت موجة من الهجمات المعادية للأفارقة السود، بل إن الهجمات لم تفرّق بين الأجانب والتونسيين من ذوي البشرة السمراء الذين انتخب كثيرون منهم سعيد نفسه.

أثارت تصريحات سعيد استياء وطنيًا ودوليًا، واستحثت توبيخًا قوي اللهجة من الاتحاد الأفريقي لما وصفه "بخطاب الكراهية العنصري". بالطبع، نفى سعيد عنصريته، وردّ بالقول إنه يطبق القانون، غير أنه لم يتخذ أي خطوات لتهدئة الغضب أو معالجة الضرر الذي أثارته تعليقاته المسيئة. كانت هذه الحادثة دليلًا جديدًا على جرأة سعيد واستعداده لإلقاء التهم على الآخرين، ربما لتخويف الناس والسيطرة على "الشعب".

بات أسلوب سعيد نفسه أداة للهيمنة. لقد تحولت صورة سعيد إلى صورة المعلم الصارم الذي يوبخ فصله من التلاميذ الأشقياء. ففي اجتماعات مجلس الوزراء، كان الرئيس يوبخ الوزراء أمام الكاميرات، يشير بإصبعه في تهديد، ولا يزال يقتبس القوانين وفصول الدستور لإحراج محدثيه. ولم يكن الوزراء أفضل حالًا من الطلاب المشاغبين، فغالبًا ما كانوا يجلسون أمامه منتصبي القامة كما لو كانوا أمام استجواب أو تحقيق.

ومثل غيره من القادة السلطويين، يعتقد سعيد أنه شخص استثنائي، فقد قال في بعض اجتماعاته إنه لن يسمع إلا الله وصوتَ الشعب. وهذه الصياغة نموذجية في تعريفنا بشخصية سعيد، فهو يبدو تقيًا وشعبويًا في نفس اللحظة. يعتقد سعيد أنه يسير بهدي إلهي وموافقة سماوية على سياساته، ويرفض نصائح الخبراء والساسة والاقتصاديين والشركاء الدوليين. فبالنسبة له، ومع استحضاره الله، والشعب، كمصادر إلهامه، لا يدع الرجل للتونسيين مجالًا للنقاش، فضلًا عن الاختلاف معه.

الغرافيتي في مواجهة الرئيس

في قلب تونس العاصمة، بدأت تظهر رسوم الغرافيتي المعارضة لسعيد غير بعيد عن الأماكن التي مشى فيها بين الحشود المحتفلة بنجاحه في الانتخابات أو بعد انقلابه في صيف 2021. طالما اعتُبرت هذه الرسوم تجسيدًا لنبض الشارع التونسي وتعبيرًا عما يريده الشعب، فقد تحوّل سعيد خلال أقل من عامين من وصوله إلى السلطة؛ إلى تجسيد لخيبة الأمل التي طالت التونسيين على اختلافهم. فقد ارتفعت معدلات البطالة والتضخم، وشحّت المواد التموينية الأساسية، وأثارت أزمات الديون والاقتصاد شبح الإفلاس على مستوى البلاد.

وفي أبريل/نيسان 2023، وقف الرئيس عند قبر الحبيب بورقيبة وأعلن رفضه شروط صندوق النقد الدولي لقرض 1.9 مليار دولار كانت تونس قد أمضت عامين في التفاوض عليه. وصف سعيد شروط صندوق النقد بالإملاءات الاستعمارية وأن من شأنها إفقار الشعب، وأكد بنبرته الرتيبة الكئيبة أن أي إملاءات خارجية ستكون مرفوضة.

كان سعيد يمارس سياسته المعهودة: يستحضر الكرامة الوطنية، ومعاناة الناس، للتراجع عن الاتفاقات التي صاغتها حكومته. لقد كان من المحيّر للكثير من المتابعين رؤية سعيد ينتقد حزمة مساعدات تفاوض عليها وتوصلت إليها حكومته بعد جهد جهيد، وهو ما يعزز صورة سعيد لدى نفسه بأنه غريب، وحيد، منفصل حتى عن حكومته التي عينها. لكنه في محاولته تلك، طرح مفهوم "الصلح الجزائي" الذي هو في جوهره عفو عن رجال الأعمال الفاسدين مقابل تمويلهم لمشاريع سعيد بمليارات الدولارات. لم يسفر هذا المخطط عن نتائج إيجابية بعدُ فيما نعلم، لكنه يشير إلى أن سعيد يريد تصعيد طبقة من رجال الأعمال ذوي نقاط الضعف الذين لن يمكنهم معارضته. إثبات آخر بأن مشكلة سعيد لم تكن أبدًا مع الفساد أو الفاسدين.

غرافيتي في العاصمة يصور محمد البوعزيزي يتحول إلى طائر يرمز لحرية تونس (الفرنسية)

أما قاعدة معجبيه التي تتضاءل بسرعة، فقد دعمت قراره واعتبرت رفضه لشروط صندوق النقد الدولي دليلًا على التزامه بالقيم التي يؤمن بها ويدافع عنها، وأنه على استعداد للانهيار الاقتصادي كي لا يرضخ للإملاءات الخارجية. يريد سعيد أن يرتدي عباءة قائد مناهض للإمبريالية، ولذلك يشبّه نضاله كثيرًا بنضال بورقيبة الذي يستشهد به كثيرًا.

لا يمتلك سعيد أي برنامج، فهو ليس إسلاميًا، ولا علمانيًا، ولا ليبراليا، ولا اشتراكيا، إنه قيس سعيد! ولهذا يمكن رؤية تحركاته السياسية الارتجالية باعتبارها مدفوعة بقناعاته الشخصية ومزاجه والأحقاد التي يحملها تجاه مخالفيه، أكثر من ارتباطها ببرنامج ثابت أو رؤية سياسية واضحة.

لكن مع ذلك، لا يمكن القول إن سعيد لا يؤمن إيمانًا حقيقيًا بما يفعله، فالرجل يرى نفسه ملكًا فيلسوفًا، جاد به الزمان علينا نحن معاصريه. والرجل لا يلوثه التحزب، وهو أستاذ يقود شعبًا بحاجة إلى إعادة تعليم وتثقيف، ولا يستطيع التوقف عن إلقاء المحاضرات على مواطنيه كما لو كانوا طلابًا في مدرسة.

أقحم قيس سعيد لغة الأخلاق والقيم بشكل كبير في خطابه السياسي، حيث يركز على نزاهة الحكم ورفض الفساد. قد تكون هذه الرمزية جزءًا من محاولته لفرض نموذج أخلاقي للحكم، لكنها في الوقت نفسه تعكس نوعًا من السلطة "الأبوية"، حيث يرى القائد نفسه حاميا للشعب وأخلاقه. هذا التوجه يتناسب مع تحليل سيكولوجي للحاكم الذي يرى في نفسه أنه يمثل الفضيلة ويملك الحق في فرض رؤيته الشخصية على الدولة.

بل إن هذا الحس الأبوي الذي يمتلكه سعيد ظهر في أوضح صورة عندما رفض الدعوات إلى إجراء انتخابات مبكرة، أو العودة إلى المسار الديمقراطي، ولسان حاله يقول إن الانتخابات ستمكن "الفاسدين" من العودة، ولذلك كان عليه أولًا أن يغير قوانين الانتخابات ودستور البلاد كي يسمح لنفسه بالبقاء.

لكن لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر/كانون الأول 2022 حاجز 11% ممن لهم حق التصويت. فهمَ التونسيون ألا معنى من هذه الممارسة لأن البرلمان لم يعد ذا قيمة أمام صلاحيات سعيد.

وعندما انعقد البرلمان في 2023، أدرك التونسيون أنهم كانوا على حق في عزوفهم عن المشاركة. فقد كان البرلمان مليئًا بالمستقلين، ولم يكن أغلبيتهم من مؤيدي سعيد المخلصين، لكنهم لم يمتلكوا أي صلاحيات تمكنهم من التأثير في سياسات البلاد، أو حتى الرقابة على السلطات الأخرى. فعندما حاول نواب الشعب استجواب وزير الداخلية بشأن اعتقالات قام بها، تم تذكيرهم بأنه ليس لديهم أي سلطة رقابية من دون إذن الرئيس. لقد نجح سعيد في خلق قشرة جوفاء من الديمقراطية، بينما احتفظ بكل الخيوط في يديه.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، أجرى سعيد انتخابات رئاسية له لوحده. فقبلها كان قد سجن أبرز مرشحي المعارضة، أو منعهم من الترشح، أو أجبرهم على الخروج إلى المنافي. فاز سعيد بشكل ساحق حاصلًا على أكثر من 90% من الأصوات، وهي النسبة التي يحصل عليها دومًا الزعماء الذين هم على شاكلته. قوبل فوز سعيد هذه المرة بلا مبالاة عامة، سواء من مؤيديه الذين لم يتصوروا إمكانية نجاح غيره، أو من معارضيه الذين أدركوا أن نتيجة الانتخابات محسومة مسبقًا، لذا لا تستحق الانشغال بها.

القوى الدولية.. أصدقاء خارج الحدود، أعداء أمام الشعب

استمر سعيد في مسيرته الثابتة نحو حكم الفرد، لكن مواقف المجتمع الدولي والقوى الإقليمية ظلت حاضرة في المشهد. كانت الديمقراطية التونسية محط أنظار القوى الغربية وقوى الإقليم المناهضة للتغيير على حد سواء. لذلك، ربما توقع البعض أن تحظى تحولات سعيد ناحية السلطوية المطلقة بنقد غربي صاخب. لكن عقب انفراده بالسلطة، تراوحت ردود الفعل الغربية بين الصمت والدعم الهادئ، في تذكير جديد بما يعنيه الالتزام الغربي بمبادئ الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير.

أما الحكومات الإقليمية فقد باركت سعيد وخطواته وسياساته، إذ سارع بعض الرؤساء إلى تقديم الدعم الكامل لسعيد، ربما لما رأوه فيه من عداء شديد للإسلاميين، أو للمسلمين الديمقراطيين، وهو الوصف الذي يستخدمه راشد الغنوشي للإشارة إلى توجه حزب النهضة. كثف المسؤولون التونسيون تعاونهم الأمني مع مسؤولين من دول عربية مختلفة، وشجع المسؤولون من دول عديدة تحركات قيس سعيد.

كما احتفت العديد من وسائل الإعلام العربية بخطوات سعيد باعتبارها ضربة قاتلة للإسلاميين في إحدى آخر الدول المتسامحة معهم في المنطقة. لقد رأى الكثيرون في حظر حزب النهضة الفصل الأخير من صعود الإسلاميين في دول الربيع العربي. كان سعيد الشعبوي المناهض للإسلاميين أفضل بكثير للعديد من الأطراف الإقليمية من الديمقراطية التعددية التي ينشط فيها حزب ذو جذور إسلامية.

قيس سعيد يلتقي الرئيس الإماراتي محمد بن زايد في أبو ظبي في مايو/أيار 2022 (الأناضول)

وفي الجزائر، استقبل الرئيس عبد المجيد تبون نظيره التونسي في ديسمبر/كانون الأول 2021  ووعد بتقديم مساعدات مالية للبلاد.

أما الدول الديمقراطية الغربية فكانت مواقفها أكثر تناقضًا مع ما تدعيه من مبادئ، ففي البداية أعرب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن القلق، وحثتا تونس على العودة السريعة إلى النظام الدستوري، لكن الأوروبيين والأميركيين أقصروا عن وصف انقلاب سعيد بالانقلاب، وقرروا عدم فرض أي عقوبات.

كانت هناك أسباب موضوعية لهذا الموقف تتعلق بأوروبا التي كانت منشغلة بأزماتها الخاصة، ورأت في سعيد -مثلما رأت في غيره من بعض قادة المنطقة- ضمانة بأن تونس لن تصدر موجات جديدة من الهجرة أو فراغًا أمنيًا. أظهرت فرنسا، خصوصًا، تسامحًا مبالغًا فيه مع استيلاء سعيد على السلطة وقمع معارضيه. كان سعيد قد زار فرنسا لأول مرة في يونيو/حزيران 2020، وحافظ الفرنسيون معه على نبرة ودية لم تتغير مع انقلابه.

هذا الموقف الفرنسي الذي بدا متناقضًا مع قيم الجمهورية التي تدافع عنها، لا يمكن مداراته أو تفسيره إلا في سياق واحد، لقد رأت فرنسا في مشروع قيس سعيّد فرصة تاريخية لإنهاء "الاستثناء" التونسي، والقضاء بشكل كامل على منظومة الإسلام السياسي. كان الانقلاب السلطوي، بنظر باريس، ثمنًا مقبولًا لضمان إغلاق آخر فصول الربيع العربي، حتى لو أدى ذلك إلى عودة الدكتاتورية التي ثار عليها التونسيون أنفسهم.

كان سعيد يفكك مؤسسات الديمقراطية التونسية ورأت فرنسا فيه مفتاحًا للاستقرار. تكهن بعض محسني الظن بأن باريس رأت أسلوب سعيد الدكتاتوري أكثر فعالية لإنقاذ الاقتصاد التونسي وتنفيذ تعديلات صارمة، لكن ذلك لم يحدث، ولم تر تونس من سعيد إلا استقرارًا في موقع الرئيس، واضطرابات في كل ما عدا ذلك.

وفي الولايات المتحدة، عقد الكونغرس بعض جلسات الاستماع بشأن تراجع الديمقراطية في تونس، لكن إدارة الرئيس بايدن حافظت على تدفق المساعدات للرئيس التونسي وتجنبت اتخاذ أي مواقف لرفض انزلاق البلاد نحو الدكتاتورية. حاول بعض الدبلوماسيين الأميركيين التوفيق بين سعيد وبعض الكيانات الوسيطة، الليبرالية واليسارية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، لكن سعيد رفض هذه المبادرات. ولأن تونس لم تكن أبدًا أولوية قصوى لواشنطن، ومع خوف البيت الأبيض من تزايد النفوذ الروسي أو الصيني في أفريقيا والذي قد يستفيد من التوتر في تونس، وخاصة بسبب الدعم العربي لانقلاب سعيد عبر جماعات الضغط في دوائر السياسة الأميركية، فقد دعمت الولايات المتحدة بقاء سعيد في موقعه.

أما من جانبه، فقد شكر سعيد الدول الشقيقة والصديقة التي دعمته، وحذر الأطراف الخارجية -من غير أن يسميها- من التدخل في الشأن التونسي، ورفض انتقادات المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام للانتهاكات التي قامت بها حكومته وقضاؤه وأجهزته الأمنية، واعتبر هذه الانتقادات "مواقف استعمارية". كما عمد إلى الغموض في تفسير الاستياء ضده، فاتهم أطرافًا أجنبية بتمويل مؤامرات معارضيه الذين يقمعهم.

لقد كان سعيد مهتمًا بتعزيز السيطرة في داخل البلاد أكثر من اتخاذ مواقف متسقة تجاه العواصم الخارجية. المفارقة أنه عبّر عن أمله في أن تساعده بعض تلك الدول التي يتهمها ضمنًا أو صراحة بالتآمر ضده، فقد كان يأمل أن تودع أموالًا في البنك المركزي التونسي. لكن سياسة سعيد الخارجية -مثلها مثل خطواته في الداخل التونسي- تبدو متقلبة، ومدفوعة بأحقاد شخصية ودوافع ذاتية وشعارات رنانة لا تمتلك تماسكًا داخليًا ولا تصمد كثيرًا أمام إكراهات الواقع.

ولعل أخطر المواقف التي ظهر فيها التناقض بين الخطاب والممارسة هو موقف سعيّد من إسرائيل، إذ لطالما بنى مشروعه السياسي على ركائز أخلاقية وشعارات سيادية، كان أبرزها وأكثرها رواجًا في الشارع التونسي هو الموقف من القضية الفلسطينية، الذي لخصه في عبارة "التطبيع خيانة".

هذا الخطاب منح الأستاذ الجامعي وزنًا نسبيًا كبيرًا وصورة "المقاوم الأمين على ثوابت الأمة. لكن هذا البناء بأكمله، الذي بدا صلبًا، انهار تمامًا حين تعرضت تونس للقصف الإسرائيلي في مناسبتين. ففي سبتمبر/أيلول 2025 استهدفت إسرائيل سفنًا تابعة لأسطول الصمود العالمي كانت تستعد للإبحار نحو غزة. هذه السفن، ومنها "فاميلي" و"ألما"، كانت راسية في ميناء سيدي بوسعيد بتونس. وصفت وزارة الداخلية التونسية ما جرى بأنه "اعتداء مدبر"، وأعلنت فتح تحقيق لكشف ملابساته.

اتُهمت السلطات التونسية بمحاولة التهوين من الحادث، ووصفه بأنه "عطل تقني" أو حريق تسببت به قداحة (ولاعة). فقد فاجأ سعيّد الجميع، ليس فقط بصمته المطبق، بل بإنكار السلطات الرسمية التونسية لوقوع القصف أصلًا. هذا الإنكار الرسمي أمام عدوان عسكري مباشر، لم يكتفِ بتدمير خطاب السيادة الذي حمله الرئيس لسنوات، بل أحدث -حسب مصادر تونسية مطلعة- هزات عميقة داخل المؤسسة العسكرية نفسها.

آلاف التونسيين يتوافدون لدعم أسطول الصمود العالمي لكسر حصار غزة في ميناء سيدي بوسعيد/ا/سبتمبر/أيلول 2025 (الجزيرة)

فالجيش التونسي الذي ربما يقبل على مضض سجن السياسيين وتفكيك مؤسسات الدولة، وجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه وهو يُجبر على نفي واقعةٍ تمس صميم عقيدته وواجباته. لقد كشف الصمت الرئاسي عن عدوان خارجي، الهوة السحيقة بين شعارات "الخيانة العظمى" وبين الممارسة السياسية الفعلية، ليصبح الرجل الذي اعتبر نفسه حامي الحمى، هو ذاته من ينكر تعرض الحمى للاعتداء.

من يصعد وحيدًا، يبقى وحيدًا

الآن يترأس سعيد البلاد وهي على مفترق طرق. تبدو تونس اليوم أقل حرية وأكثر قمعًا من أوقات عديدة سابقة، حيث يُسجن الصحفيون والسياسيون المعارضون والنشطاء ورجال الأعمال والقضاة. أما حريات التونسيين التي حصّلوها بشقّ الأنفس، فقد حرص سعيد على إنهائها تمامًا. لا تصرّح السلطات بالاحتجاجات، وتعتقل المتظاهرين، وتحجب المواقع الإلكترونية، وتعتقل محامي المتهمين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويفكر المواطنون مليّا قبل انتقاد الرئيس علنًا، في عودة إلى العادات التي تخلى عنها الناس مع الثورة.

لكن قبضة سعيد الحديدية تخفي تيارات غاضبة تتصاعد. ففي أوائل 2023، ومرة أخرى في 2024، تجمع التونسيون مرات يهتفون ضد الانقلاب وينادون بإسقاط الدكتاتور. كانت التحركات محدودة بالفعل، لكنها تُظهر أن شريحة كبيرة من التونسيين لن تقبل العودة إلى أساليب الاستبداد القديمة دون مقاومة. ولا تزال أحزاب المعارضة المختلفة -إسلامية وليبرالية ويسارية على حد سواء- تحاول تنظيم الاحتجاجات وتدعو إلى إزاحة سعيد عن السلطة.

ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس السابق المنصف المرزوقي يرى أن تونس في عهد قيس سعيد باتت تابعة للخارج رغم ادعائه باستقلال بلاده، لكنه لا يرى الخارج فرنسا أو الغرب، بل ما يطلق عليه "محور الشر" العربي، وهي تلك القوى التي أخذت على عاتقها إسقاط تجارب الديمقراطية العربية ونشر الفوضى في بلدان الربيع العربي خشية انتقال المطالبات الديمقراطية عبر الحدود.

ولا يزال رد فعل سعيد كما هو: المزيد من القمع، والكثير من الإنكار. ولكن قيس سعيّد ليس زين العابدين بن علي، لا لضعف في الرغبة السلطوية، لكن لأن بن علي كان يعتمد على جهاز حزبي مترامي الأطراف، وشبكة أمنية مؤسسية، في حين يعتمد قيس سعيد على سلطته الشخصية وولاء أصحاب المصالح الذين يعرفون أهمية بقاء سعيد لدى أطراف إقليمية لا يمكنها السماح ببقاء الإسلاميين في موقع الفعل.

لكن هذا الولاء قد يتزعزع، خاصة مع استمرار انهيار الاقتصاد وتدهور النظام العام. بعد سنة واحدة من وصول قيس سعيد إلى السلطة، رصدت وسائل الإعلام كيف يشعر التونسيون بخيبة أمل حقيقية. أما الآن، فقد تحولت خيبة الأمل إلى غضب مكتوم يوشك أن ينفجر، بل إن تونس شهدت في فبراير/شباط 2024، في نهاية ولاية سعيد الأولى، حادثة أضرم فيها شاب النار في نفسه أمام مركز أمني احتجاجًا!

فالتونسيون اليوم يقارنون الطوابير الطويلة للحصول على الوقود وغاز الطهي، وانقطاعات الكهرباء، وأرفف المتاجر الفارغة، بما كان عليه الحال إبان الأزمة الاقتصادية في أواخر الثمانينيات والتي سبقت استيلاء بن علي على السلطة من الحبيب بورقيبة، الذي كان زعيمًا وطنيًا حقيقيًا، على الأقل حتى أعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة في عام 1975 خلال ولايته الرابعة.

دوليًا، خفتت صورة تونس المشرقة في المحافل العالمية. تعبّر الدول الأفريقية بين الحين والآخر عن استيائها من تصريحات سعيد العنصرية بشأن المهاجرين الأفارقة، وينتقده الأوروبيون بعد نفاد صبرهم جراء سياساته الاقتصادية غير الناجعة أو ممارساته القمعية المتزايدة، لكن قيس سعيد لا يزال سعيدًا بموقعه مقتنعًا بمساره.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2021، وبينما كان سعيد يؤدي اليمين الدستورية لولايته الرئاسية الجديدة، وفي خطاب طويل، شكر التونسيين على ثقتهم لانتخابه مجددًا، وهو الادعاء الذي لن يصمد أمام التحقيق بالنظر إلى نسبة المشاركة في الانتخابات والانتهاكات التي شابت إجراءاتها والقيود التي وضعها سعيد على منافسيه. لكن الأهم أن سعيد وقف في قاعة البرلمان أمام النواب مهاجمًا الأشرار الكثر في حياته، السياسيين القدامى، الفاسدين والمستغلين، والتدخلات الأجنبية، ومجلس نواب الشعب، الذي انتخبه التونسيون بنسبة مشاركة تجاوزت 40%، وهو المجلس الذي وصفه سعيد بأنه سيئ الذكر! كان سعيد يتحدث كما لو كان معارضًا لا رئيسًا، يشن حملة ضد نظام يسيطر هو عليه!

يشير هذا إلى صفة جوهرية في حكم قيس سعيد: إنه يحتاج إلى أعداء كي يزدهر، وإن لم يكونوا موجودين، لكونهم في السجن أو في المنفى أو تحت سيف القمع، فسيختلقهم سعيد، لأنه بدون أيديولوجية واضحة، ولا خارطة اقتصادية، ولا حزب ببرنامج محدد، لن يستطيع سوى اللجوء إلى سياسة واحدة: المواجهة الدائمة. وستكون مشكلة سعيد ألا يبقى أحد ليواجهه، أو ألا يجد فزاعة يخيف بها التونسيين.

في خطابه ذاته أمام البرلمان، طلب سعيد من التاريخ ومن المؤرخين أن يحفظوا عنه أنه اتخذ قرار حل البرلمان المنتخب وحده، وأنه لم يستشر أحدًا، ولم يعلم بقراره أحد! وقد أخطأ سعيد، إذ ربما سينظر التاريخ إليه على أنه الزعيم الذي أثبت -عن غير قصد- أن الديمقراطية، مهما كانت فوضوية ومتقلبة، قد تكون أفضل كثيرًا من العودة إلى حكم الفرد.

يرى المنصف المرزوقي أن تونس تغرق، وأن الربان غير مهتم إلا ببقائه، متذرعًا ببعض نصوص الدستور الذي لم يحترمه منذ اليوم الأول. لا يبدو سعيد مهتمًا حتى بجوع التونسيين الذين خرجوا ذات يوم ضد الجوع وطلبًا للكرامة، فالكل متورط في قيس سعيد، من أشد مؤيديه مرورًا بالدولة العميقة وحتى أبعد معارضيه.

وبالفعل، تواجه تونس تحت حكم قيس سعيد مستقبلًا مخيفًا. وكما يقول المثل التونسي "اللي يحسب وحدو يفضلو"، وتعني -ببعض الترخص- أن من يحسب حساب نفسه فقط، فسينتهي به الأمر خاسرًا. وقد خنق قيس سعيد كل صوت غير صوته، ولم يعد يرى تونس إلا في وجوده على رأس سلطتها. لكن التونسيين الذين أطاحوا بدكتاتور ظل على رؤوسهم 23 عاما قبل أن يخاطبهم "الآن فهمتكم"، قد يوصلون رسالة إلى سعيد مفادها أنه مثل سابقه، لا يعرف الشعب، ولم يفهم بعد ماذا يريد.

مقالات مشابهة

  • الرئيس السيسي: الإنجازات التي تحققت لم تكن نتيجة جهد فردي بل تعاون الجميع
  • قيس سعيد .. الملك الرئيس الذي لم ينتخب يومًا غير نفسه
  • الإطار يجس نبض الصدر بمبعوث خاص يحظى بـثقة الجميع
  • عيار 21 يفاجئ الجميع.. سعر الذهب في مصر اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025
  • جامع الشيخ زايد الكبير يحتفي باليوم العالمي للتسامح
  • عبد الله بن زايد وروبيو يبحثان الوضع في السودان وغزة
  • عبد الله بن زايد وماركو روبيو يبحثان الأوضاع الإقليمية
  • سيف بن زايد يقدم واجب العزاء في وفاة عوشة النعيمي
  • يرزقك الجنة ويلهم الجميع الصبر.. أحمد الطيب ينعى محمد صبري
  • تعلن نيابة التعزية م/ تعز بأن على/ سعيد محمد قائد الحضور إلى المحكمة