عن الحلم الخائب الذي فتن الناس وفتت الشعوب
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
كان الرجل ناعسًا، وأزعجه أن يوقظه حارسه دون تخطيط. عبس واشتاط عندما رأى وجه رفيقه الوحيد الذي تركوه لحراسته ممتعضًا ومشوبًا بُحمرة حُزن لم يعهدها فيه. صرخ متوعدًا عما دفعه أن يوقظه من نومه دون تخطيط مسبق، فرد بأن رجال الشرطة وصلوا لإبلاغه قرارًا مهمًا. فرك المستيقظ عينيه ونظر في ورقة بأيديهم، فوجدها قرارًا من البرلمان التركي بإلغاء الخلافة العثمانية تمامًا، وأسفل القرار توقيع مصطفى كمال أتاتورك الضابط الذي حقق انتصارات مدوية.
كان ذلك في الثالث من مارس سنة 1924، وقبلها بشهور كان "أتاتورك" الضابط الشجاع ذو الأربعين عامًا قد خالف أوامر خليفته بتسليم البلاد إلى الأوروبيين بعد توقيع اتفاق مُذل، وانسحب ببعض قواته بعيدًا عن العاصمة ليقاوم ويقاتل في شجاعة الغزاة الأوروبيين محققًا انتصارًا خلف آخر. أثبت الضابط الطموح عمليًا أن الخلافة العثمانية كيان هش، لم يتطور مع الزمن، ولم يتفاعل مع طموحات وآمال الناس، فخذلهم وقرر حماية عرشه حتى لو كان الثمن تسليم البلاد للأعداء.
وهكذا سقطت الخلافة فعليًا قبل أن تسقط رسميًا، فالسلطان عبدالحميد، ساس بلاده بقهر واستبداد وانقلب على تعهدات ودساتير، وخلف وعودًا متصورًا أن حكمه فرض ديني، فوجد نفسه فجأة مُرحلًا في قطار هو وحريمه وخدمه إلى سويسرا، مخلوعًا مطرودًا.
شطبت تركيا وقتها كلمة "الخلافة"، واستبدلتها بالدولة الحديثة، فبدلت وغيرت وقلبت وجربت وصاغت نظمًا مدنية، وشطبت فكرة روجت وسوقت قرونًا ليحكم بها مغامرون طامحون، غيرهم من البشر تحت زعم أنه أمر إلهي.
في العام ذاته، التقط ملك مستبد في الشرق، هو الملك أحمد فؤاد، ملك مصر والسودان الفكرة، وحاول استغلال غروب الخلافة على ضفاف البوسفور، ليُعلنها في وادي النيل. وعمل رجاله السريون والعلنيون على استنكار إلغاء الخلافة، فكتب أحمد شوقي، أمير الشعراء قصيدة زعم فيها بكاء الناس على زوال الخلافة فقال "ضجت عليك مآذن ومنابر/ وبكت عليك ممالك ونواحِ/ الهندُ والهة ومصر حزينة/ تبكي عليك بمدمعٍ سحاحِ/ أقول من أحيا الجماعة مُلحد/ وأقول مَن رد الحقوق إباحي".
ودعا الشيخ الظواهري شيخ الأزهر لمؤتمر إسلامي في القاهرة لبحث موضوع الخلافة بعد سقوطها في إسطنبول. وكتبت بعض الصحف تُرشح خليفة بديلًا للمخلوع في تركيا، مُرجحة كفة الملك فؤاد، الذي يحكم أكبر بلد في الشرق، وأكثرها تأثيرًا ونفوذًا.
وبدا واضحًا أن الملك فؤاد الذي انهارت شعبيته تمامًا بسبب وقوفه مع الإنجليز المحتلين ضد شعبه، وعدائه السافر لسعد زغلول زعيم الشعب، يرغب في ارتداء أي رداء يزيده مهابة وتقديرًا ويُحصنه ضد أفكار بعض المصريين لإعلان قيام الجمهورية، واختيار سعد زغلول رئيسًا لها.
ولأن الجرائم لا تكتمل ما دامت العقول الراشدة يقظى، فإن شيخًا طموحًا يعمل قاضيًا شرعيًا بمحكمة المنصورة، هو علي عبدالرازق كتب كتابًا لوأد المخطط في مهده أسماه "الإسلام وأصول الحكم".
كان أهم ما ذكره الكتاب أن الخلافة (سواء سميت إسلامية أو لم تُسم) ليست حكمًا من أحكام الدين الإسلامي. فالحكم وشكله ومضمونه وأسلوبه هو عمل دنيوي بحت يختلف من عصر لعصر ومن شخص لشخص.
وقال رحمه الله "إن ذلك الذي يُسمى عرشًا لا يرتفع إلا على رءوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم. وإن ذلك الذي يُسمى تاجًا لا حياة له إلا بما يغتال من قوتهم".
وقامت الدنيا ولم تقعد. أقامها المستبدون الحالمون بسقوط كعكة الخلافة بين أيديهم، الملك فؤاد وزمرة طباليه وزماريه وهتيفة كُل عهد، وما أكثرهم. هوجم الرجل، ولُعن، ثم حوكم، وعقدت لجنة في الأزهر لمراجعته، وأبى أن يرجع عما قال، فتم إخراجه من زمرة العلماء بورقة مسجلة بجلسة 12 أغسطس 1925.
وظل الرجل منبوذًا، ممقوتًا، مُبعدًا لأنه قال الحقيقة الناصعة، ولم يقبل ذهب المُعز ولم يرهب سيفه.
***
في عام 1927 رحل سعد زغلول، زعيم الشعب، ورئيس الحكومة الوحيدة التي استحقت يقينًا لقب حكومة الشعب في تاريخ مصر.
في العام ذاته، تخرج شاب ذكي طموح من كلية المعلمين، هو حسن البنا الساعاتي، ليتم تعيينه مدرسًا في الإسماعيلية، بعيدًا عن ضجيج العاصمة. كانت الفكرة مُعلقة في الهواء، تبحث عن كيان يحتضنها، فقبل سنوات قليلة تلاشى كيان عمره أربعة عشر قرنًا اسمه الخلافة، تنوعت مواطنه، وتلونت شعاراته لكنه حقق السلطة لكل مَن ارتبطوا باسمه.
فكر حسن البنا بهدوء وبمكر بأن الخلافة تصلح كشعار لجذب ملايين المسلمين شرقًا وغربًا سعيًا لاستعادتها مرة أخرى. لذا فقد أسس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1929(وهناك خلاف على التاريخ لم يحسم بعد) وركّز خطابه على استعادة الخلافة الإسلامية والتأكيد على كونها أصلًا من أصول الدين، بل اعتبارها غاية الغايات. وكأن الإسلام يعني الخلافة، ولا انتصار للإسلام بدون خلافة.
ولا شك أن الشعار السهل وجد تربة خصبة للنمو والترعرع، في ظل محن وأوجاع للناس يسعون دومًا للخلاص منها.
وهكذا تكونت خلية، وخلايا، وجماعات، تسير جميعًا نحو هدف وحيد هو الخلافة، واستعادتها بشتى الطرق حتى أننا عشنا حتى رأينا قبل سنوات مجرمين متوحشين مثل زعماء تنظيم داعش، يرفعون شعار الخلافة خفاقًا وكأنه هو الإسلام.
***
يروى لنا الدكتور إمام عبدالفتاح فى كتابه المهم "الطاغية" كيف حصل معاوية بن أبى سفيان على البيعة لابنه يزيد، حيث أرسل يطلب رأي عماله، فقام أحدهم ويدعى يزيد بن المقفع وقال: هذا "فى إشارة إلى معاوية"، فإن هلك فهذا "فى إشارة إلى يزيد" فمن أبى فهذا "مشيرًا إلى سيفه"، فقال له معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء.
ويضيف قائلًا "وصارت البيعة مجرد إجراء شكلي أقرب الى الاستفتاء، ولا أدل على ذلك من واقعة الحرة الشهيرة التى قتل فيها خلق من الصحابة، وافتضت ألف عذراء".
ويحكى لنا "السيوطى" فى كتاب "تاريخ الخلفاء" أن عبدالملك بن مروان كان عابدًا متنسكًا يقيم الليل ويصلى فى المسجد، ويومًا كان جالسًا يقرأ القرآن فأخبروه بنبأ اختياره خليفة، فأغلق المصحف وقال "هذا آخر العهد بك" واستخدم "مروان" السفاح الحجاج الثقفى للقضاء على المعارضة السياسية فأهدر الدماء بلا حساب.
وكان الخليفة الوليد بن عبدالملك جبارًا ظلومًا، وأضفى على نفسه هالة من القداسة حتى كان يستفسر في عجب: أيمكن للخليفة أن يحاسب؟ إلى أن جاء أخوه بأربعين شيخًا يشهدون أن ما على الخليفة من حساب!
ويحكى السيوطى عن السفاح أول خلفاء الدولة العباسية أنه بدأ حكمه بإخراج جثث خلفاء بنى أمية وصلبها فى العراء ثم أحرقها، ودخل دمشق فأباح فيها القتل وجعل مسجدها اسطبلًا لدوابه واقتاد نساء بنى أمية للسبى والذبح.
وحتى هارون الرشيد الذي يراه بعض الإسلاميين نموذجًا للخليفة الحق طلب من سيافه أن يمر على وزيره جعفر البرمكي، ويحضر له رأسه، وتريث السياف، متصورًا أن الرجل في نوبة سكر، لكن الخليفة عاود أمره، واشتاط غضبًا عليه، حتى ألزمه إلزامًا، فذهب للوزير في بيته ثم حز رأسه ليقدمها للخليفة.
وهكذا تسلط على الناس شرار البشر، يسومونهم ظلمًا وظلامًا، ولم تكن الخلافة حلًا لمشكلات البشر.
صحيح فإن كل حاكم يمكن أن يقتل، ويسجن، ويظلم دون حساب، لكن القهر الشديد أن يحدث ذلك باسم الإسلام، لذا لم يعد حلم تنظيمات الإسلام السياسي بإقامة الخلافة جاذبًا، فالغاية المرجوة الآن هي العدل لا الخلافة.
والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
قيمة السماحة في الإسلام .. على جمعة يعدد فوائدها
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن الدين الإسلامي دينُ سَمَاحٍ وسهولةٍ ويُسر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: قيل لرسول الله: أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» [رواه أحمد].
وأضاف علي جمعة، في تصريح له، أن الإمام الشافعي استنبط من هذا الحديث قاعدةً أصولية مفادها: أن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
وقد أمر رسولنا الكريم المسلمَ أن يكون سمحًا متسامحًا، حتى يُسْمَح له من الله تعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «اسمح يُسمح لك».[رواه أحمد] قال الحافظ المناوي في شرحه لهذا الحديث (اسمح يُسْمَحْ لك): (أسمح) أمر من السماح. (يسمح لك) بالبناء للمفعول. والفاعل الله : أي عامل الخلق الذين هم عيال الله وعبيده بالمسامحة والمساهلة يعاملك سيدهم بمثله في الدنيا والآخرة.
وفي الإنجيل : "إن غفرتم للناس خطاياهم، غفر لكم أبوكم السماوي خطاياكم، وإن لم تغفروا للناس خطاياهم، لم يغفر لكم، وفيه: لا تحبوا الحكم على أحد لئلا يحكم عليكم ، اغفروا يغفر لكم ، أعطوا تعطوا".
السماحة في المعاملةوقال بعض الحكماء : "أحسِنْ إن أحببت أن يُحسَن إليك، ومن قلَّ وفاؤه كثر أعداؤه"، وهذا من الإحسان المأمور به في القرآن، المتعلق بالمعاملات، وهو حث على المساهلة في المعاملة، وحسن ، وهو من سخاوة الطبع وحقارة الدنيا في القلب ، فمن لم يجده من طبعه فليتخلق به؛ فعسى أن يسمح له الحق بما قصر فيه من طاعته، وعسر عليه في الانقياد إليه في معاملته إذا أوقفه بين يديه لمحاسبته.[فيض القدير].
وتابع علي جمعة: وقد أخبرنا رسولنا المصطفى أنه الأمة كلها مبعوثة من ربها، وأن الله ابتعث هذه الأمة للتيسير على عباده، وليس للتعسير عليهم، فعن أبي هريرة قال قام أعرابى فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي «..... فإنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثُوا مُعَسِّرِينَ».