نزع «الرداء الأيديولوجي» طريق المقاومة لجني ثمار النصر
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
تواجه فصائل الكفاح المسلح الفلسطينية امتحانها الأصعب منذ ٧ أكتوبر، بل الأصعب منذ حلولها مكان فتح في قيادة المشهد الشعبي الفلسطيني بعد تخلي الأخيرة عن خيار الكفاح المسلح بتوقيعها على اتفاق أوسلو عموما ووفاة عرفات كرمز جامع خصوصا.
وهو أصعب لأن عبوره يستلزم جهادا شاقا داخليا مع النفس لتغيير الفكر والخطاب السياسيين التاريخيين للمقاومة.
الامتحان الذي تواجهه المقاومة هو في حقيقة الأمر حقل ألغام سياسي إعلامي قام بزرعه تحالف أمريكي وإسرائيلي وعربي - فلسطيني «حلف النقب» لكي ينفجر في وجه المقاومة بحيث إذا أخطأت في التعامل مع هذه المرحلة ومرحلة ما بعد الحرب تنزلق قدمها في حقل الألغام ما يؤدي ـ لا قدر الله ـ لنسفها وشطبها من المستقبل السياسي الفلسطيني والإقليمي.
لكي يحقق حلف النقب أهدافه يقوم الآن بشن حملة مزدوجة على المقاومة من شقي رحى الأول سياسي والثاني إعلامي يقوم بتشويه المقاومة وزعمائها لكي يحشرها في زاوية الاستسلام والتنازل.
لقد كتبت وغيري كثيرا عن الضغوط السياسية ولهذا سأركز على الحملة الإعلامية المسمومة الحالية.
تتهم حماس من قبل إعلام حلف النقب بأنها حركة متصلبة ومتشددة في مواقفها تعرقل الوصول لاتفاق مؤقت - مدعوم بقرار من مجلس الأمن- لوقف إطلاق النار كان ليوقف قتل أهلهم من مدنيي غزة ويسمح بتدفق المساعدات.
مخالفة التشويه الإعلامي للوقائع فاضحة. باعتراف إسرائيليين وأوروبيين فإن حماس هي التي قبلت قرار مجلس الأمن ومقترح بايدن وهي التي قدمت ردا يوافق ولكن يستدرك كل الفخاخ في النص الإسرائيلي المكتوب.. بينما كانت إسرائيل الطرف الذي امتنع علنا عن قبول المقترح ورفض قرار مجلس الأمن.
أما زعماء المقاومة خاصة يحيى السنوار فقد ظهروا في سردية الحملة المسمومة كالتالي: قادة متعصبون دينيا غلاظ القلوب لا يبالون بدماء شعبهم يحبون الموت ويكرهون الحياة.
مخالفة الأوصاف للحقائق هنا لا تقل فجاجة إذ وافق معظم المحللين على أنه إذا كان هناك من دافع يفسر مرونة المقاومة «ولكن ليس استسلامها» خاصة مرونة قادة غزة في قبول وقف إطلاق النار في ٦ مايو الماضي ـ الذي رفضته إسرائيل - هو رغبة المقاومة في وقف معاناة شعبها.
تحاول الحملة المزعومة استغلال أساس واحد فقط هو الجذر الأيديولوجي لحركة حماس في تيار الإسلام السياسي.
المذكرة التفسيرية هنا أنه مادام هؤلاء ينتمون لحركات ذات أيديولوجية دينية متشددة فإن صفات التشدد والتصلب وعدم المبالاة بإراقة الدماء ومعاداة السامية المزعومة لدى المقاومة تفتح نافذة لغسيل مخ جديد للوعي الشعبي العالمي المتعاطف مع القضية الفلسطينية والمعادي للوحشية الإسرائيلية.
هذا التعاطف نقل المقاومة المصنفة زورا وبهتانا لدى أمريكا والاتحاد الأوروبي كمنظمات إرهابية إلى حركة تحرر وطني وعربي معترف بها من حركات التحرر والانعتاق العالمية. بعد طوفان الأقصى سعت حركات اجتماعية وطلابية عابرة للحدود للارتباط بها والدفاع عنها. تعاطف هذه الحركات كانت استفتاء شعبيا أسقط وداس بالأقدام على تصنيف أمريكا والاتحاد الأوروبي الظالم للمقاومة ونقلها لرمز إنساني ضد الاحتلال الاستيطاني ونظام التفرقة العنصري الإسرائيلي. لم تتظاهر هذه الحركات التي قادت مظاهرات واحتجاجات سلمية شبه يومية في الشوارع والجامعات من أجل حماس.
لم تتبن خطابا أيديولوجيا للإسلام السياسي وعندما رفعت أعلاما رفعت أعلام فلسطين وليست أعلام حماس. وهذا ما تبدو المقاومة مدعوة لاستيعابه بوضوح عبر الاندماج أكثر فأكثر في خطاب التحرر الوطني ومظلة الحركة العالمية الإنسانية المعادية للظلم والاحتلال وسياسات الأبارتهايد. لن يتم ذلك إلا بالابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي القديم الذي كان يصور الصراع العربي الصهيوني كصراع ديني فهذا خطاب يعطي إعادة استخدامه سلاحا للحلف المعادي في حملته الحالية لكسر التحالف العالمي غير الأيديولوجي الذي يسند ظهر فلسطين وغزة في حرب الإبادة الجماعية.
لن يتم ذلك إلا عبر تصحيح القراءة الخاطئة التي طرحها بعض مثقفي حماس وبعض منظري الإخوان المسلمين من أن طوفان الأقصى هو دليل على انتصار المشروع الإسلامي لفلسطين على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني الذي يضم كل الفصائل والحركات ويضم كل مسلمي ومسيحيي فلسطين. الدليل على ذلك هو أن الدعم الشعبي الذي تتلقاه المقاومة من أمتها يشمل كل التيارات السياسية العربية المؤمنة بالمقاومة ولا يمثل التيار الإسلامي إلا قسما محدودا منها. فالتيارات الوطنية والقومية واليسارية والليبرالية والسنة والشيعة والمسلمون والمسيحيون كلهم يقفون خلف المقاومة. لفهم هذا بوضوح -لايسمح الوقت ولا الموقف بمجاملة فيه- أن كثيرا من هذه التيارات تعتبر تيار الإسلام السياسي على الأقل في بلده خصما سياسيا خاصة بعد تجارب الحكم المريرة لهذا التيار والتهديد الذي مثله لوجود ووحدة أراضي الدولة الوطنية كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا والسودان. لكن الجماهير وتياراتها السياسية لم تأبه بهذا الخلاف ولم تنظر للمقاومة و٧ أكتوبر من ثقب الإخوان الضيق بل نظرت لها فقط كحركة مقاومة تستعيد مشروع حركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي الذين اختطفتهم بل خنقتهم اتفاقات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة» و«السلام الإبراهيمي».
الذين يرون أن طوفان الأقصى انتصار للمشروع الإسلامي لفلسطين والمنطقة يريدون تدمير أهم إنجاز للأمة وهو سقوط الخلافات السياسية والمذهبية والطائفية التي أشعلها كيسنجر وسار عليها خلفاؤه لمنع حدوث نصر عربي كحرب أكتوبر٧٣ مجددا. بعد ٧ أكتوبر توحد الجميع خلف فكرة وسلاح المقاومة ومن يريدون أن يخصوا تيارهم يقومون بإشعال هذه الانقسامات من جديد. قد يجعلون أقساما مهمة في الأمة ترجع للوراء وتعيد النظر إلى حزب الله وأنصار الله كحركات مذهبية بعد أن أصبحوا أبطالا للمقاومة في عيون العرب من جديد.
الأخطر من ذلك أن ادعاءه أن الطوفان نصر لتيار الإسلام السياسي إقليميا سيزيد من حلقة الخنق العربية على المقاومة ومن اندفاع النظم العربية الرافضة لسيطرة هذا التيار إلى مزيد من التحالف مع الولايات المتحدة في مشروعها الرامي لشطب المقاومة من المستقبل واستبدالها بسلطة أوسلو المتعاونة.
من يتحدثون عن مشروع إسلامي يخرجون مسيحيي فلسطين والعالم ويهود العالم المعادين للصهيونية. يخرجون من معسكر مناصرة فلسطين حركات حقوق الإنسان وحياة السود مهمة والجبهات التي تقاوم خطاب المسيحية الصهيونية.
كلما نأت المقاومة عن الرداء الأيديولوجي القديم كلما تفادت الاستقطاب والتخندق وتمكنت من إفشال المخططات الرامية لفك التحامها الحميم الراهن مع التيارات الشعبية العربية المدنية التي تؤمن بفلسطين والمقاومة وليس بفصيل معين.
والأهم من ذلك هو أن هذه الدعوة ليست اختراعا أو مطلبا غائبا عن قيادة حماس فكل المطلوب هو المضي قدما بخطوات أكبر في الطريق الذي بدأته بتغيير ميثاقها في عام ٢٠١٧ والذي عدلت فيه وصفها القديم بأنها جناح من أجنحة الإخوان إلى أنها حركة تحرر وطني تريد تحرير وقيام دولة فلسطين بدلا من إقامة دولة أذان - إسلامية كما في الميثاق القديم!!
كل ما عليها أن تتغلب على مقاومة يبديها حاليا أصحاب التوجه الضيق الذين لا يكفون عن الحديث عن مشروع إسلامي لفلسطين.
حديث تقسيمي يسهل مهمة الصهيونية في إعادة اتهام حماس بالإرهاب ومعاداة السامية، ويسهل حملة الغرب الإعلامية المسمومة الراهنة في حصر حماس وقادتها في «جيتو» أيديولوجي ضيق. يسهل للأعداء نزع الانتصار الأهم لنصر ٧ أكتوبر ويعيد المقاومة إلى المربع القديم المحلي الذي غادرته بتضحيتها وتضحية شعبها بكفاءة إلى مربع الشرعية الدولية القانونية والشعبية.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أدعو المملكة المتحدة إلى الاعتراف بدولة فلسطين
سوف تنظر الأجيال القادمة إلى هذه اللحظة باعتبارها نقطة تحول حاسمة، حين شُنّت حملة شرسة لمحو الشعب الفلسطيني من الوجود، وسوف تتساءل: كيف سُمِح بحدوث ذلك؟
كيف اختار زعماء العالم حين وُضعوا أمام خيارين: التواطؤ أم الشجاعة، أن يمكّنوا الإبادة الجماعية؟
كيف أنكروا على الفلسطينيين حقهم الأصيل في تقرير المصير والعودة، وفضلوا الاحتلال على الحرية، والفصل العنصري على المساواة؟
اليوم وبعد عقود من سياسة التساهل وتجاهل المساءلة ترسّخ إسرائيل واحدة من أطول فترات الاحتلال العسكري في التاريخ الحديث، احتلال لا يهدف فقط إلى السيطرة على حياة الفلسطينيين، بل إلى إنهائها.
وبوصفي سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة أدعو الحكومة البريطانية إلى التراجع عن هذا المسار القاسي، وتصحيح أخطائها التاريخية، والاعتراف رسميًا بدولة فلسطين، في ظل توافر ظروف استثنائية تدعو إلى ذلك.
يُعد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن حل الدولتين فرصة فورية أمام المملكة المتحدة للانضمام إلى بقية دول العالم في الاعتراف بدولة فلسطين، أي الاعتراف باستقلال شعبنا وسيادة أرضنا وفقًا للقرارات الدولية، ومنحنا العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وإقامة علاقات دبلوماسية على قدم المساواة مع باقي الدول الأعضاء.
الاعتراف ليس مكافأة لطرف ولا عقوبة لآخر، بل هو تأكيد طال انتظاره على حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في الوجود والعيش بحرية في وطنه. إنه حجر الأساس الذي يمكن أن تُبنى عليه مستقبلات السلام.
ولمن يقولون: إن الوقت غير مناسب الآن؛ أطرح السؤال: إن لم يكن الآن فمتى؟
إن الإبادة الجماعية في غزة حيث أحياء بأكملها تحولت إلى أنقاض، وعشرات الآلاف بين قتيل ومفقود، ويُستخدم الجوع كسلاح حرب؛ قد كشفت عن نية إسرائيل المتمثلة في تطهير الأرض عرقيًا من الفلسطينيين، وأثارت موجة تضامن عالمية.
وفي الضفة الغربية المحتلة تُجبر آلاف العائلات على مغادرة منازلها، وتُسوّى قراها بالأرض، وتُستبدل بمستوطنات غير شرعية، بأوامر من وزراء عنصريين يرفضون علنًا فكرة قيام دولة فلسطينية.
في بريطانيا يمتلك حزب العمال تفويضًا واضحًا بعد أن خاض الانتخابات ببرنامج يشمل الاعتراف بدولة فلسطين، ويحظى بدعم ساحق من البرلمان والجمهور البريطاني. وبذلك تنضم المملكة المتحدة إلى 147 دولة عضوًا في الأمم المتحدة بينها إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج، وسلوفينيا.
وعبر الأطلسي ومع انشغال إدارة ترامب بالفوضى الداخلية؛ تستطيع المملكة المتحدة أن تتولى زمام المبادرة دبلوماسيًا، تمامًا كما فعلت عندما جمعت قادة أوروبا لمحاولة إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وفي الوقت ذاته؛ فإن أقرب شركاء المملكة المتحدة في المنطقة يطالبون بوضوح بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ويدعون بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول إلى اتخاذ نفس الموقف. الاعتراف ليس مجرد لفتة رمزية، ولا هو نهاية الطريق. بل هو خطوة أولى لا رجعة عنها. ولا ينبغي أن يكون مشروطًا بإملاءات إضافية على الجانب الفلسطيني.
تأجيل الاعتراف لا يؤدي إلا إلى ترسيخ الوضع القائم القاتل، وحرمان الفلسطينيين من حقهم السياسي وحقوقهم الأخرى إلى أن توافق إسرائيل، وبذلك تُمنح قوة الاحتلال حق الفيتو الدائم على مستقبلنا.
من جانبها كانت الحكومة الإسرائيلية واضحة تمامًا في موقفها؛ فسياساتها تشكل خطة جاهزة للاحتلال الدائم. فإعلان 22 مستوطنة جديدة، وتصويت الكنيست الإسرائيلي العام الماضي بأغلبية ساحقة على «رفض قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن» يوضحان دون أدنى لبس أن الخطة الإسرائيلية ترمي إلى اقتلاعنا من أرضنا.
في هذه المرحلة عدم الاعتراف لم يعد حيادًا، بل هو موقف سياسي. هو انحياز للفصل العنصري والاحتلال واستمرار محو الشعب الفلسطيني. الاعتراف لم يعد مجرد واجب أخلاقي، بل هو التزام قانوني؛ كما بيّنت محكمة العدل الدولية.
لقد كانت خطوة الحكومة البريطانية بفرض عقوبات على وزيرين إسرائيليين موضع ترحيب، لكنها لا تلامس جوهر القضية. فالمشكلة الأساسية لا تكمن في تصرفات حفنة من المتطرفين، بل في عقيدة إسرائيلية مترسخة منذ زمن بعيد تهدف إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم واستبدالهم. ولهذا السبب طالبنا المملكة المتحدة بمحاسبة المنظومة بأكملها، بفرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية، وفرض حظر كامل على تصدير الأسلحة، ومساءلة جميع المتورطين في جرائم حرب.
ويجب أن تترافق هذه الإجراءات مع الاعتراف الفوري بدولة فلسطين؛ فلا يمكن لإحداهما أن تكون بديلًا عن الأخرى.
كتب بوريس جونسون ذات مرة: إن «وعد بلفور ترك على كاهل بريطانيا واجبًا لم يُنجز»، وعد بمنح الفلسطينيين حقوقهم ودولتهم لم يُوفَ به قط. وبعد أكثر من قرن قادنا ذلك الفشل إلى حافة الهاوية مهددًا ليس فقط الشعب الفلسطيني، بل أيضًا فرص السلام والاستقرار في المنطقة بأسرها. ولقد حان الوقت لتنجز بريطانيا ما وعدت به.
نحن -الفلسطينيين ومعنا حركة عالمية متنامية من أجل السلام والعدالة- سنواصل النضال من أجل مستقبل يستطيع فيه أطفالنا أن ينعموا بالحرية، والكرامة، والفرص نفسها التي يتمتع بها أطفال العالم. هذا المستقبل سيظل مستحيلًا في ظل الاحتلال. فالسلام لا يُبنى بين محتل ومحتل، بل بين أطراف متكافئة.
هذه لحظة مفصلية في التاريخ تتطلب وضوحًا أخلاقيًا وشجاعة سياسية. أدعو المملكة المتحدة إلى الارتقاء إلى مستوى هذه اللحظة، والعمل الآن.
حسام زملط سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة