ماذا بعد تعزية الرئيس الجزائري تبون للملك محمد السادس؟
تاريخ النشر: 4th, July 2024 GMT
بقلم: نزار بولحية
هل يمكن للرسالة التي بعثها الرئيس الجزائري قبل أيام إلى العاهل المغربي بمناسبة وفاة والدته، أن تلطف قليلا من الأجواء الملتهبة والمشحونة بين العاصمتين المغاربيتين؟ من المؤكد أنها تحمل إشارة إيجابية في ذلك الاتجاه، لكن هل ستفتح بالضرورة آمالا عريضة أمام الشعبين، وتشكل نقطة انطلاق نحو إعادة المياه، ولو تدريجيا، إلى مجاريها بين بلديهما؟
لا شك في أن قليلين جدا من يعتقدون ذلك، وعلى الأرجح فإن العهدة الرئاسية الأولى للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ستنقضي قريبا، من دون أن يطرأ أي تغيير دراماتيكي، أو جذري على علاقات بلاده بالرباط.
وبغض النظر عن أي مبررات قد يسوقها البعض لتلك الحالة، فلا يبدو أنها يمكن أن تكون مقبولة بالمرة، حتى في ظل استفحال الخلافات بينهما حول أكثر من ملف، إذ لم يسبق حتى في ذروة التوتر بين الكوريتين مثلا أن عاش الكوريون الشماليون والجنوبيون وضعا شبيها بما يعيشه المغاربة والجزائريون الآن. ومن المؤكد أن هؤلاء ربما يشكلون في هذا الصدد نوعا من الاستثناء الفريد من نوعه. والسؤال هو ما الذي يقف حاجزا منيعا أمام توسع نطاق الاتصالات بين القيادتين الجزائرية والمغربية، وعدم اقتصارها على تقديم واجب المواساة والعزاء فحسب؟ بالنسبة للبعض ربما يبدو الأمر ملتبسا ومعقدا بعض الشيء، بل حتى سرياليا إلى حد ما، وأشبه ما يكون بشيء نادر وغريب يسيطر على الجانبين، ويجعلهما يفعلان الشيء ونقيضه في وقت واحد، أي يتبادلان عبارات التعاطف والتضامن من جهة، ويمتنعان عن القيام بأي فعل أو جهد من شأنه أن يدفع نحو رفع القطيعة، التي يتبادلان الاتهامات بالتسبب فيها من جهة أخرى. وقد يرى آخرون وعلى العكس من ذلك تماما أن الصورة تلوح واضحة ومفهومة للغاية. فقد وضع الطرفان وباتفاق ضمني بينهما سقفا لمظاهر العداء مقرين بالحاجة للإبقاء على حد أدنى من الشكليات، التي تجعل كل واحد منهما قادرا على أن يتهم الآخر بالمسؤولية عن التقصير، ويبرئ نفسه في المقابل من أي إخلال بالالتزام بالروابط العرقية والدينية والحضارية التي تجمع الشعبين، من دون أن تكون لهما الرغبة الفعلية، أو الإرادة الجادة في المضي قدما نحو معالجة الأسباب العميقة التي تحول دون تحقيق التطبيع الكامل بينهما.
ومن هنا فإن اختيار الرئيس الجزائري، أن يكون من أوائل المعزين في وفاة والدة العاهل المغربي السبت الماضي، فتح الباب على مصراعيه أمام شتى التأويلات والفرضيات. وفي سياق آخر غير السياق الحالي كان يمكن أن يكون التفسير المنطقي والوحيد لتلك الحركة هو أنها أقل واجب قد يقوم به جار مع جاره، كلما أصابته فاجعة، أو ألم به حدث محزن. لكن في ظرف تمر به العلاقة بين البلدين المغاربيين بواحدة من أسوأ فتراتها، فإنها بدت مثيرة للتساؤل حول المغزى الحقيقي من ورائها. ولعل هناك من يقول، وعلى الفور، ألا مجال أبدا للتوسع في التأويل، فلكل مقام مقال، ومن المؤكد أن الرئيس عبد المجيد تبون يفرق جيدا بين الإنساني والسياسي، ولأجل ذلك فإن مواساته ذات الطابع الإنساني البحت، لا يمكن أن تحمّل أكثر مما تحتمل، وتفسر مثلا على أنها إشارة ما إلى بداية تقارب بطيء بين الجارتين، قد تتضح ملامحه في مقبل الأيام. وقد يضيف آخرون أن الأمر ليس جديدا على أي حال، لا على الجزائر التي سبق لها أن قدمت خريف العام الماضي، على الرغم من استمرار القطيعة الدبلوماسية بينها وبين الرباط «صادق تعازيها» في ضحايا الزلزل العنيف، الذي ضرب منطقة الحوز المغربية، وأبدت استعدادها التام لتقديم المساعدات الإنسانية، ووضع كل الإمكانيات المادية والبشرية تضامنا مع الشعب المغربي الشقيق، في حال طلب من المملكة المغربية، مثلما جاء في ذلك الوقت في بيان لرئاستها، ولا على المغرب الذي عبّر في وقت سابق عن تعازيه للجزائر إثر موجة الحرائق التي ضربت بعض مناطقها وعرض عليها المساعدة في مكافحة حرائق الغابات. لكن ألا تبدو التعزية الأخيرة مختلفة عن سابقاتها من حيث الشكل؟ لقد فضل الجزائريون في كارثة الزلزال التي ضربت الخريف الماضي جارتهم الغربية، أن لا يتقدموا بتعازيهم لا إلى ملك المغرب ولا إلى حكومته، واختاروا أن يوجهوها فقط إلى الشعب المغربي، وأوضح بيان خارجيتهم أن الجزائر «تتابع ببالغ الأسى والحزن تداعيات الزلزال العنيف الذي أصاب عدة مناطق بالمملكة المغربية»، وأنها «تتقدم بخالص التعازي وصادق المواساة لأسر الضحايا والشعب الغربي الشقيق مع خالص التمنيات بالشفاء العاجل للمصابين». وبالطبع لم يحدث ذلك بشكل عفوي أو من دون أن يحمل في طياته موقفا سياسيا ما من النظام المغربي. وهذا قد يكون واحدا من الأسباب التي حملت حينها الرباط على أن لا تتفاعل إيجابيا مع العرض الجزائري بتقديم المساعدة في الكارثة الطبيعية التي حلت بالمغرب.
والان يبدو واضحا أن العبارات التي جاءت في رسالة تبون إلى محمد السادس، خرجت نسبيا عن ذلك السياق. وقد يقول قائل إن ذلك أمر عادي وطبيعي، فالمناسبة هنا تهم العائلة الملكية المغربية بالدرجة الأولى، ولأجل ذلك فإنه من الضروري أن يوجه الرئيس الجزائري تعازيه إلى الملك المغربي وأسرته، لكن ألا يفند ذلك ولو جزئيا ما يروج له كثيرون على أن جوهر المشكل القائم بين البلدين هو أن الاختلاف في طبيعة النظامين يشكل عائقا فعليا أمام أي تقدم في علاقاتهما؟ ألا تدل عبارات تبون على أن التواصل لا يبدو مستحيلا بين النظامين، وأن الأصوات التي ترتفع من حين لآخر، ومن هذا الجانب أو من ذاك لتكريس القطيعة بين الجارتين قد لا تعكس بالضرورة توجهات القيادتين؟
ربما قد يعترض البعض قائلا، وما الذي يمنع إذن من لقائهما معا، سواء في الرباط أو في الجزائر؟ لقد سبق للعاهل المغربي أن قال قبل ثلاث سنوات، وفي أحد خطاباته حول غلق الحدود الجزائرية المغربية «لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق ولا أنا مسؤولون عن قرار الإغلاق. ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا على استمراره، أمام الله وأمام التاريخ وأمام مواطنينا». وربما ينطبق الأمر نفسه على الاجتماع المعلق والمنتظر بينهما.
كاتب وصحافي من تونس
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: الرئیس الجزائری على أن
إقرأ أيضاً:
محمد شريف باشا.. الرجل الذي كتب دستور مصر الحديث
محمد شريف باشا، واحد من أعمدة السياسة المصرية في القرن التاسع عشر، وأحد الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ وطننا، ولد في فبراير 1826، بين إسطنبول والقاهرة حسب الروايات المختلفة، في بيت أصيل جمع بين العلم والسلطة.
حيث كان والده أحمد شريف باشا قاضيا وشيخ الإسلام في الآستانة، وعاش طفولته وهو محاط بالعلم والهيبة، مما غرس فيه قيم الوطنية والولاء لمصر منذ الصغر، ورغم أصله التركي، كانت مصر بالنسبة له أكثر من وطن، كانت حبه الأول وموطن رسالته السياسية والاجتماعية.
منذ نعومة أظافره، انخرط محمد شريف في مسار علمي وعسكري متميز، التحق بمدرسة الخانكة الحربية التي أنشأها محمد علي، وربطته الدراسة بصلة قوية بأسرة الخديوي، ما أتاح له فرصة نادرة للتعرف على صناع القرار منذ بداياته.
لم يقتصر طموحه على مصر فقط، بل سافر إلى أوروبا ليكمل تعليمه، حيث درس في باريس وسان سير، والتحق بالجيش الفرنسي وتدرج في الرتب العسكرية، حاملا طموحا كبيرا لخدمة وطنه بمجرد عودته.
كانت حياته العملية مليئة بالتحديات والمناصب المهمة، فقد خدم في عهد محمد علي وأبناءه، وشارك في بعثات دبلوماسية لتمثيل مصر في المحافل الدولية، وفي الوقت نفسه كان يتفانى في العمل الداخلي، سواء كناطر للأحكام أو وزير للخارجية أو الداخلية، وساهم في بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
تميز شريف باشا بشجاعة نادرة في الدفاع عن استقلال مصر وكرامة مناصبه، ورفض الخضوع للضغوط الأجنبية، فكان الوزير المصري الوحيد الذي استقال حفاظا على هيبة منصبه عندما واجه ضغطا من لجنة التحقيق الأوروبية بشأن تسوية الدين العام.
تولى شريف باشا رئاسة الوزراء في مصر أربع مرات، وكل وزارة قادها كانت محطة هامة في بناء الدولة الحديثة، فقد أسس النظام الدستوري وأدخل مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب، مؤسسا بذلك حجر الأساس للبرلمان المصري الحديث.
لم يكتف بذلك، بل أسس المدارس والمعاهد، نظم التعليم، واهتم بتأهيل الموظفين، مؤكدا أن مصر تحتاج إلى رجال مثقفين ومدركين لأهمية القانون والمؤسسات.
وقد أنشأ المدارس الهندسية، والمدرسة التجهيزية بالقاهرة، ومدرسة الحقوق، وأشرف على إصدار قوانين عسكرية لتحسين حياة الضباط والجنود، كلها خطوات عملية تعكس رؤيته الوطنية العميقة.
محمد شريف باشا لم يكن مجرد سياسي أو إداري ناجح، بل كان رمزا للوطنية والإخلاص لمصر، مقاوما لكل محاولات التدخل الأجنبي، محافظا على سيادة الوطن وكرامة الدولة.
كان يرفض الانصياع لمطالب القوى الاستعمارية مهما كان الثمن، وكان دائما يضع مصلحة مصر فوق أي اعتبار شخصي أو سياسي، هذا الموقف جعله محل احترام وإعجاب الشعب المصري، الذي رأى فيه نموذجا للقائد الوطني الذي يجمع بين الشجاعة والإخلاص والتفاني في خدمة وطنه.
رغم كل نجاحاته، لم ينس محمد شريف الحياة الشخصية، فقد تزوج من ابنة قائده سليمان باشا الفرنساوي، وأنجب أولادا وحفيدات، ليترك إرثا عائليا راسخا إلى جانب إرثه السياسي والاجتماعي.
وتوفي محمد شريف باشا في النمسا عام 1887، لكن محبته لمصر وأثره في تاريخها ظل حيا في قلوب المصريين، الذين شيعوه في القاهرة والإسكندرية تكريما لرجل قضى عمره في خدمة الوطن، يحمل لواء الوطنية والكرامة، ويترك للأجيال درسا خالدا في حب مصر والعمل من أجلها.
محمد شريف باشا، بكل بساطة، لم يكن مجرد رئيس وزراء أو سياسي، بل كان مثالا للوطنية الحقيقية، رجلا حمل على عاتقه بناء الدولة الحديثة، وتأسيس مؤسساتها، والدفاع عن استقلالها، مقدما نموذجا نادرا في التاريخ المصري، يجمع بين العقل، والإخلاص، والشجاعة، والحب العميق لمصر، ليظل اسمه مضيئا في سجل الوطنية المصرية إلى الأبد.