بوابة الوفد:
2025-05-19@23:53:16 GMT

الصعود لأسفل

تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT

ماريا، حَبّة البازلاء اليافعة التي نضجت قبل أيام وتكوّر جسدها متخلّصًا من خسفات الغضاضة. تقرَّر لها أن تبدأ أخيرًا رحلة العمل، فدُفنت في أرض صالحة السُّمعة، وأُهيل عليها التراب وتندّى. شعرت بروح الطفولة التي ما زالت تسيطر على أجزاء من كينونتها، أنها أصبحت وحيدةً وحدة مدقعة، وأن كل ما حدث لها بين يوم وليلة، يُشبه في الحقيقة رحلة وأد لا رحلة عمل.

لكن، كأي حَبِّةٍ شابة أخرى، أمِلَت الاعتياد.

     حلاوة الإنجاز التي حصلت عليها بعد الأسبوع الأول تحت الطين، وقد تفتّقت مؤخرتها مُنبئةً بنتوءٍ جنيني بدأ يشق طريقه نحو الأسفل، تلك الحلاوة، وإن كانت بحجم جذر جنيني، أشعرتها بأن الرحلة تستحق وأن المرام قد يكون لها أنيسٌ فيه. أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى مزيد من الصبر والعمل المخلص، حتى تتسنى لها تلك الغاية. 

     ومع تكرار ما حدث من عدة جهات في جسدها وحصلت على جذور بُنيّة جميلة ناتئة من جنباتها، لم يمضِ كثيرُ الوقت حتى اطّلَعت على مساوئ هذا المجتمع الطيني.

     انتبهت، كأول ملاحظة ناضجة، إلى أن مَن يُشرِّع لها قوانين سيرها بجذورها، ليست إرادتها الحُرة المحضة، وإنما حبّات التراب وكُتل الطين المجاورة، وطريقة ترتيبها وكثافة تكدُّسها، وشدة واتجاه ضغطها من جهة إلى جهة. وما ينجم عن ذلك هو جِذر يستقطعُهُ عددٌ هائل من الكَسرات والثنيات والعُقد، فيما يتوافق مع تلك التشريعات. 

     "بأي حق؟". 

     تساءلت الحبّةُ في أسى، وعاودتها المخاوف الأولى المتعلقة برحلة الوأد لا رحلة العمل. 

     "هذا المجتمع يُفسد أي فرحة! مَن هم ليُشرِّعوا لي حياتي؟ أليس من حق كل كائن تحت هذه الأرض أن يختار طريقًا لنفسه يسلكها؟".

     كثير من الأسئلة راودتها في مطلع شبابها، راودت كثيرات من الحبّات نجحن في التخلص منها، وشق الأمل بين الأسى. لكن في الحقيقة، ماريا حبة بازلاء مختلفة، لم تكن تنظر عادةً إلى قصص النجاح وحسب، وترى أن ما حظيت به -أي تلك القصص- من تلميع ورواج، مردُّه في الأصل أن صاحبات تلك القصص هن اللاتي نجوْنَ من الموت، ومن ثم خرجن إلى النور. في مقابل ذلك، من يدري! كم حبة بازلاء ماتت أو انتحرت في سبيل الحصول على حريتها، وحق تشريع قوانينها لنفسها؟

      إنها أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الحياة المقيدة، أو طرح كل أمل في رؤية النور.

     امتنعت عن شرب الماء ومصّ الغذاء، عرفت طريقها إلى التبتُّل والزُّهد في الدنيا التي ظنت مآلها الموت السريع، والدفن فيه موضعها دون دمعة واحدة تُذرف من أجلها. 

     غير أن أثناء هذا الصيام، وبعد تنحّي الرغبات الخبيثة التي أكثرها شرًا هو كبرياء الطفولة، صفا تفكيرُها واعتدل، رأت أن التحايل على الحياة ليس يأسًا ولا ميوعة، بل إن التحايل في بعض الأوقات هو القيمة البقائية ذاتها! لا بُد، إن لم يكن بمقدورها أن تُشرِّع لنفسها قوانينها (كإرادة جمعية غبية، فلتعتبر!)، أن تحتال على هذه القوانين، وتكسرها من حين إلى حين في الخفاء، ما دام بمقدورها أن تفعل دون أن تأذي نفسها. ولو أن الأذية واردة واردة، وهذا ما تعلمته كأول طريق للنضال في سوق عمل لا يحترم إرادتها. فيما كان الغضب والشتيمة، أحيانًا، مُسكّنها المُرضِي نحو العدول عن اليأس. 

     "عيشٌ مخاتل أو غاضب، أفضل من لا شيء!" 

     قالت لنفسها.

     عادت إلى العمل وملؤها نشاط جديد، ضاعفت حصّتها من الماء والعناصر الغذائية اللازمة لاستمرار نضالها في أكمل صورة. إلا أن الحياة لا ترحم. في يوم تالٍ، بعد وجبة غنية، استطالت جذور ماريا أكثر فأكثر حتى استوقفها جسمٌ هائل الصلابة، عرفت فيما بعد أنه حائط خرساني. 

     ماذا تفعل؟ ترددت في أذهانها عدد لا حصر له من الأطروحات، بعضها يخضع لطريقة تفكيرها التي تدربت عليها، بعضها الآخر يائس لا فكاك من الموت في إثره.

     "التحايل!" 

     قالت بصوت خشيت أن يسمعه غريب. 

     ومضت ماريا تخطط وتنفّذ في الأيام والليالي التالية فكرتها في التحايل على التشريعات التي تحول دون راحتها. كانت النتيجة التي يُنظر إليها بزهو وتعجب من قبل جميع الكائنات، أنها أحاطت -بقدرة مضاعفة على التغذية والتنقيب عن الماء- ذلك الحائط الخرساني، الذي اتضح فيما بعد أنه أساس لمنزل حديث، من جميع جهاته بجذورها وجذوعها البُنية المعروقة المتكسّرة والتي زادت سماكتها مع الوقت إذ خزّنت تحت بشرتها مزيدًا من الماء والمعادن، فضربت في الأرض ضربات قوية ثابتة، تزحف فوق الثرى وتُزحزح حبات التراب الدقيقة وتشق الكبيرة، حتى تلطّخت عروقها بهذا التراب وأصبح سمةً أساسية لوجودها. أصبحت هُويّة.

     كوّنت مع مرور الوقت شبكةً متينة من جذور البازلاء حول تلك الخرسانة. وإذا حدث في أحد الأيام وأتوا على أنقاض هذه البناية الحديثة، لتعجبوا من المنظر، وحمدوا الله أن تلك الكثافة النباتية المتشابكة، لم تزعزع أساس المبنى الذي دأبوا في الحفر رأسيًّا من أجل تثبيته!

     وما إن رسّخت الحبةُ دعائمها في أرجاء التربة، اقتربت من سطحها أكثر فأكثر. حتى جاء هذا اليوم وتفتّق أخرُ مسام جسدها لأعلى، لتتلاشى الجُثة القديمة نهائيًّا، وتخرج إلى الضوء ساقًا أخضر تعجبُ لزهوِهِ العيون الناظرة.

 

فارس محفوظ

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: ماريا ا رحلة عمل

إقرأ أيضاً:

بين عسكرين: حين انحنى السيف المصري واشتعل البركان الباكستاني

في زمن التيه والخذلان، حيث يغدو الظالم بطلا والمظلوم خائنا، تقف تجربتان متناقضتان لعسكرين خرجا من رحم التاريخ ذاته: عسكرٌ مصري انحنى، وعسكرٌ باكستاني انتفض. كلاهما لم يعرف طعم الديمقراطية، وكلاهما صعد إلى الحكم من فوهة البندقية، لكن حين واجه كلاهما اختبار الحياة، ظهرت الفوارق، فاختار أحدهما المجد، والآخر غاص في وحل التبعية.

العسكر لا يعترفون بالصناديق

لم يكن انقلاب الجيش المصري في 2013 حدثا عابرا، بل كان عنوانا لمشهد مكتمل من الردة السياسية، بدعم سخي من الغرب وبعض حلفائه العرب. فما كاد الأمل يطل من نوافذ الثورة، وتفتح صناديق الاقتراع بابا جديدا لمستقبل يكتبه الشعب لا الجنرالات، إلا وانقض هؤلاء الجنرالات بانقلاب عسكري بدعم صريح من قوى إقليمية وغربية، لقطع الطريق على إرادة الجماهير، وإعادة مصر إلى قبضة الحكم الأمني، بل أشد، حيث سُحقت التجربة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ البلاد الحديث، ووُئد الحلم الشعبي في مهده. آلاف في السجون، صحافة مُكمّمة، وبلاد يُدار قرارها من الخارج، لا من الإرادة الحرة.

أما في باكستان، كان الجيش دائم الحضور في كواليس السياسة، فالديمقراطية لم تكن يوما أكثر من مرحلة استراحة بين انقلابين. التبعية لواشنطن كانت سياسة لا تخفى، والولاء للخارج كان يعلو على أي التزام وطني. وكل ذلك جرى تحت شعارات "الأمن" و"محاربة الإرهاب"، وهي التبريرات ذاتها التي صُنعت بها الديكتاتوريات في القاهرة وإسلام آباد.

في كلا البلدين، أصبح العسكر أوصياء على الشعب بدعم خفي أو علني من واشنطن، فلطالما كان جيش مصر من بعد اتفاقية كامب ديفيد هو الحارس الأمين للكيان الصهيوني مدلل أمريكا، وجيش باكستان هو بوابتها الاستراتيجية في جنوب آسيا. كان ولاؤهما للبيت الأبيض أقوى من الانتماء للوطن، وتحت تلك الوصاية المزعومة ارتُكبت الخيانات، تحت غطاء دولي للقمع، فصارت الشعوب بين مطرقة الاستبداد وسندان التبعية. وما زاد الطين بلة، أن العسكر في البلدين تغذّوا على الرضا الأمريكي ومساعداته، وارتبطت سياساتهم الأمنية والاقتصادية بتوصيات صندوق النقد، لا بتطلعات الفقراء.

فكان قمع الداخل سياسة محلية، لكن بمباركة دولية. وحين جاءت لحظة الحقيقة، لحظة الماء، سقطت الأقنعة، فبدا من فيهم مستعدٌّ للدفاع، ومن قرر أن لا حياة تستحق القتال.

مصر.. حين خانت السيوف الماء

وُضع جيش مصر أمام اختبار الوجود: النيل، شريان الحياة، الرئة التي تتنفس منها الأرض والناس، القلب النابض لحضارة سبقت التاريخ، فاختار أن يُغلق عينيه، ويصمّ أذنيه، ويسلم البلاد والعباد على طبق من عطش. تحت ستار "الحكمة" و"المفاوضات"، تواطأ على الوطن، وسمح بأن يُختطف النيل أمام عينيه بلا أن يطلق طلقة، بلا أن يُحرك دبابة، بل بلا أن يخرج بيانا يهدد، أو حتى يرفض.

تمسك العسكر بورقة بالية اسمها "الحل السلمي"، وهم يعلمون -ويُعلنون- أن المفاوضات عبث، وأن إثيوبيا تسخر، وأن الغرب يبارك، وأن بعض الأشقاء العرب يصفقون من خلف الستار. فهل هذه حكمة أم خيانة مغلّفة بالأقوال المزينة؟

وقف عسكر مصر يراقبون إثيوبيا تبني السد حجرا فوق حجر، بينما هم مكتفون بإطلاق شعارات الوطنية الفارغة في نشرات الأخبار ومنهمكون في ملاحقة المعارضين في الشوارع والأزقة. فأي جيش هذا الذي يرضى أن يرى شعبه يُحتضر ولا يهزمه الغضب؟

باكستان..

على الطرف الآخر، في باكستان، كانت الأمور مختلفة. فحين هددت الهند منابع المياه، لم ينتظر العسكر تحليلا استراتيجيا من معهد أمريكي، ولا توصية من حليف دولي. السلاح ارتفع، والرسالة كانت واضحة: "لن نُجفف لنرضي أحدا". لم تعنهم المعونات، ولا التصنيفات، ولا الارتباك الدبلوماسي. وُضعت كرامة الأمة قبل أي تحالف، بل وعندما أحسوا بأن الغرب قد مال كلّه إلى صف الهند، حطموا الأغلال وولّوا وجوههم شطر الشرق (الصين)، وبدأوا في بناء قوة تستمد سلاحها من أرضها أو من حلفاء جدد، لا من صانعي القيود.

في مشهد كأنه من ملحمة قديمة، كانت باكستان تصرخ في وجه العالم: "لسنا عبيدا، ولن نُجفّف عطشا كي نُرضي أرباب المال والسلاح".

باكستان، التي طالما عرفت القمع، ارتدى جيشها في تلك اللحظة زيّ الجندية الحقة، ووقف في وجه التهديد كما يجب أن يقف جيشٌ وُجد لحماية وطنه لا لحراسة سلطة.

الحكم بالنار.. والاختبار بالماء

لم يكن عسكر مصر ولا عسكر باكستان مثالا للديمقراطية ولا حُماة لإرادة الشعوب، فكلاهما صعد إلى سدة الحكم على ظهر دبابة، لا على أكتاف صناديق الاقتراع، وكلاهما قادا شعوبهما بالحديد والنار، لا بالعدل والحرية.. قمع، وتنكيل، وتضييق، وسجون امتلأت بأصحاب الرأي والمبدأ، ومجتمعات أُخضعت بالقوة لا بالثقة.

لكن الفارق ظهر جليا حين وقف الجميع عند بوابة الماء؛ حين باتت الحياة نفسها مهددة. هناك فقط تباينت المواقف:

عسكر باكستان أدّوا الدور الحقيقي للجيوش، دافعوا عن حياة شعبهم بلا حساب، ووقفوا كالدرع في وجه كل معتدٍ. أما عسكر مصر، فكانوا في ذروة تخاذلهم، يتفرجون على النيل يُغتصب دون أن يرتعش لهم جفن. نعم، الماء فرّق بين جيش يقاتل من أجل الشعب، وآخر يقاتل الشعب من أجل الكرسي.

وشتان بين من راكم الثروات في القصور، ومن حمل السلاح على الحدود.. شتان بين من يقايض الكرامة بتقرير رضا أمريكي، ومن يقول للعالم: "الماء خط أحمر، والحياة لا يساوم عليها".

لم تُهزم مصر أمام سد، بل أمام جيش باع شرفه مقابل المساعدات، ولم تنتصر باكستان بالسلاح فقط، بل بالقرار السيادي الذي قرّر أن الشرف أغلى من المساعدات.

هنا يظهر سؤال:

إن كان الماء هو الاختبار الذي سقط فيه جيش مصر، فهل ينجح الشعب في اجتيازه وينقذ الوطن؟ وهل يملك من الشجاعة ما لم يملكه من وُكلت إليهم الحماية؟

ختاما..

هكذا يُكتب التاريخ؛ ليس بالشعارات، بل بالدماء.

سلام على كل جيش احترف حب الوطن، وخزيٌ على كل من خان شعبه وباع الأرض مقابل حفنة دولارات وسطرٍ في تقرير أمريكي.

مقالات مشابهة

  • هند عصام تكتب: أصل النرجسية
  • بن رحمة يتوج بدوري يلو ويحقق الصعود لدوري روشن السعودي
  • 5 طرق للحصول على الطاقة في الصباح دون شرب القهوة
  • صيام الماء .. تجربة مذهلة ولكن ليست للجميع
  • المنصوري وشوراق يحتفيان بصعود الكوكب المراكشي إلى الدوري الإحترافي
  • بين عسكرين: حين انحنى السيف المصري واشتعل البركان الباكستاني
  • ارتفاع درجات الحرارة يستدعي الإكثار من شرب السوائل
  • هدنة تجارية واتفاق نووي مرتقب.. أسعار النفط بين آمال الصعود وتحديات المعروض
  • مستقبل الرويسات يحقق الصعود إلى الرابطة المحترفة بعد موسم استثنائي
  • إلفيرسبيرج يملك فرصة «الصعود السريع» إلى «البوندسليجا»