مات ماركيز ولم يمت إبداعه
تاريخ النشر: 16th, September 2024 GMT
رحل الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز (1927-2014) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، ولكن إبداعه لم يرحل معه، إذ خلّف تركة من الأعمال الأدبية التي تُعد من الإنجازات السردية على مر التاريخ، وإن كانت كل أعماله قد خرجت إلى القراء بموافقته، إلا أن روايته -موعدنا في شهر آب- قد نُشرت بعد رحيله بعشر سنوات، وترجمت إلى العديد من لغات العالم ومنها ظهرت الترجمة العربية للمترجم السوري وضاح محمود ونشرتها دار التنوير، وكما كُتب على غلاف الرواية «هدية غير متوقعة من أحد أعظم الكتاب» وإن كان هذا السطر لا يخلو من هدف ترويجي للرواية، إلا أن الرواية بالفعل تستحق القراءة رغم صغر حجمها فهي لا تتجاوز 127 صفحة، تضمنت مقدمة لأبناء الكاتب رودريغو وغونثالو، وملاحظات المحرر كريستوبال بيرا، وأربع صفحات مصورة طبقا للأصل، نشرتها منسقته مونيكا ألونسو، منها صفحة خط عليها ماركيز بخط يده «موافقة نهائية، مؤكدة».
اشترك ابني ماركيز ومحرره الأدبي كريستوبال بيرا والمنسقة مونيكا ألونسو في إخراج مخطوطة الرواية من أرشيف ماركيز في مكتبة جامعة تكساس، ونشرت الرواية تحت إلحاح القراء الذين اطلعوا على أجزاء من المخطوطة. وحسنا فعل الورثة والمحرر والمنسقة حينما طرحوا الرواية في المكتبات؛ لأن عشاق «جابو» بحاجة إلى اكتشافات كل أعمال في العالم السحري الذي ابتدعه مع ثلة من كتاب أمريكا اللاتينية الذين أسسوا لما يُعرف بالواقعة السحرية في الأدب، وبما أنه قد تم التطرق إلى رفاق ماركيز في الشهرة الأدبية، نُذكّر بأن الكاتب والروائي البيروفي ماريو برجاس يوسا وهو صديق وغريم أيضا لماركيز بعد اللكمة الشهيرة التي وجهها يوسا له، قد حسم موضوع الكتابة والنشر ليقطع على ورثته وناشريه نشر وطباعة أي أعمال حدثت له بعد وفاته، فقد أعلن في أكتوبر الماضي لصحيفة -لاريبوبليكا- البيروفية أنه سيتوقف عن الكتابة بعد أن ينشر رواية -أهدي صمتي لكِ-.
تغوص رواية -موعدنا في شهر آب- في أعماق البطلة آنا ماجدلينا باخ التي اكتشفت نفسها وملذاتها مع رجال لا تعرفهم في ليلة واحدة في الجزيرة بعد سنوات من «سعادة تقليدية تحجب ما فيها من تناقضات كي لا تتعثر بها» كما وصفها السارد، لم تكتشف آنا نفسها ورغباتها في مشاركة رجل غريب لسريرها وأسرارها، بل اكتشفت سرا من أسرار أمها المواظبة على زيارة الجزيرة لثلاث أو أربع مرات في السنة، وإصرار الأم على الدفن في الجزيرة أيضا. وشعرت آنا ماجدلينا بشعور أمها بالحمية التي تدب فيها حين تذهب إلى الجزيرة في شهر أغسطس من كل عام لزيارة قبر الأم، يقول سارد الرواية «اعتبرت أن أسباب أمها تلك يمكن أن تكون أسبابها هي أيضا، وأدهشها التشابه بينهما. لم تحسّ بالحزن بل بالحيوية والنشاط لانكشاف ما كان خافيا عليها ومعرفتها أنّ أعجوبة حياتها تكمن في أنّها أكملت حياة أمها بعد مماتها». إذ كشف لها حارس المقبرة عن شخص يزور المقبرة في أوقات غير محددة في السنة ويضع أكاليل من الزهور باهظة الثمن على قبر المرأة التي يقف عند قبرها ساعات ثم يذهب بعد أن يكرم الحارس بالعطايا.
المميز في رواية «موعدنا في شهر آب» أن بطلتها أنثى متزوجة ولها طفلان، بخلاف كل أعمال ماركيز التي تحضر فيها المرأة ولكنها لا تؤدي دور البطولة، مثلما ذكر المحرر كريستوبال في إحدى مقابلاته الصحفية.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی شهر
إقرأ أيضاً:
اللغة التي تفشل
تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).
تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.
«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!
سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.
ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.
أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.
تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني