لجريدة عمان:
2025-05-27@17:10:03 GMT

الدجاجة المحشوة تقتل فرانسس بيكون!

تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT

الدجاجة المحشوة تقتل فرانسس بيكون!

في الحقبة المزدهرة لحروبه وحملاته، كان جنود نابليون بونابرت يتساقطون، ولما يصلوا بعد إلى ساحة المعركة، كان العدو أبشع وأكثر ضراوةً من الجنود المحتملين وأسلحتهم على الجانب الآخر، كان هذا العدو ببساطة هو الجوع. فالطعام الذي يتم إرساله مع الجنود - على كثرته - لا يلبث حتى يفسد سريعًا، فتفتك بهم أمراض التسمم منه، أو الموت جوعًا دونه، لذلك، أعلنت حكومة بونابرت في عام 1795 جائزةً مقدارها 12 ألف فرنك لمن يتمكن من اختراع وسيلة حفظٍ ناجحة للطعام تضمن نجاة الأعداد الكبيرة من الجنود المرسلين في البر والبحر.

وسعيًا لنيل هذه الجائزة، قضى نيكولاس أبيرت – طاهي فرنسي- أربعة عشر عامًا محاولًا حفظ أطعمة مختلفة داخل برطمانات زجاجية، كان يضع فيها الحساء، أو الخضروات، أو الفاكهة، أو اللحوم، ويربطها بالخيوط ويحكم إغلاقها بالشمع قبل أن يضع هذه الزجاجات في الماء المغلي، وفي عام 1810، حصل أبيرت على الجائزة عن اكتشافه لـ «فن حفظ كل أصناف الطعام من اللحوم والخضار لعدة سنوات». ولم يتوقف أبيرت عند تموين الحملات الفرنسية بالغذاء الآمن، ولكنه استخدم الجائزة ليبدأ بها أول معمل للطعام المعلب بواسطة فرن الضغط.

فهل كانت هذه بداية قصة حفظ الطعام؟

على العكس تمامًا، كان تعليب الغذاء بهذه الطريقة هو أحدث الطرق الشائعة التي لا نزال نستخدمها حتى وقتنا الحالي، فقد فهم الإنسان الأول سر نجاته الأساسي على هذا الكوكب، فمثلما كان عليه أن يحتمي من الكائنات المفترسة من حوله، أدرك أن وجوده وبقاءه مرتبطان بقدرته على تناول الغذاء، وأن استقراره على الأرض محكومٌ بشكلٍ رئيسي ببقاء الغذاء وتوفره في تلك الأرض، فتعلم خصائص الغذاء وتحويله من جذورٍ صلبةٍ ولحومٍ قاسية إلى طعام ساخن مطهو وسهل المضغ، وتعلم زراعته وتخزينه، ويثق الباحثون في تاريخ الغذاء بأن الزراعة كانت مهدًا أولًا للحضارة، فاستقر الإنسان على الأرض باستقرار ووفرة موارده الغذائية فيها، واتسع حولها فظهرت الأعمال والأدوار المختلفة والتجارة.

ولكن مخازن الغذاء كان يعلوها التلف، الطعام الرطب سرعان ما يصبح فريسةً سهلة للعفن من الفطريات وأنواع البكتيريا التي تُغير في خصائصه الفيزيائية والحسية الظاهرة، فيتغير لونه وقوامه ورائحته وطعمه، وكان الناس يمرضون إذا تناولوه أو يموتون، فأدرك الناس منذ العصور الأولى – وحتى قبل ظهور الزراعة- أن عليهم أن يحفظوا طعامهم من ظواهر الطبيعة، ولما لم يكن حولهم من وسيلة غير الطبيعة نفسها، استعانوا بها، فجففوا ما يجمعون تحت الشمس، أو غمروه بالملح، أو بالثلج في المناطق الباردة، فعرف الإنسان التجفيف والتمليح وتجميد الغذاء لأسابيع وأشهر طويلة. واستمر في محاولاته لتطوير هذه الوسائل حتى عصرنا الحالي، ولعل من طرائف تجارب حفظ الغذاء محاولة فرانسس بيكون لإثبات فعالية التجميد في حفظ اللحوم، فقام بحشي دجاجةٍ كاملة بالثلج واختبار مدة صلاحيتها، ورغم أنه مهّد لنا طريق تجميد الأغذية بصورتها الحديثة إلا أن تجاربه الأولى تلك وتماديه فيها أودت به ميتًا بالتهاب الرئة في عام 1626!

ولم تقتصر الحاجة لحفظ الطعام على رغبة الإنسان في النجاة، ولكنه حملها معه لما بعد الموت، إذ وجدت حملات الآثار في مصر أدلة واضحة على نجاح المصريين القدامى في تجفيف الطعام وتحنيطه لموتاهم ظنًا منهم أنه سيرافقهم للدار الآخرة قبل 1400 سنة قبل الميلاد، وعليه فقد كان عليهم الحفاظ عليه لذيذًا وآمنًا، وكان هذا يتطلب منهم تجفيفه بالحرارة بشكل بطئ مع لفه بالشاش وختمه بصمغ الشجر، ووجد علماء الآثار جرة عسلٍ عمرها 3 آلاف سنة لا تزال محتفظة بطعمها وخواصها بحسب زعمهم.

العامل الأهم

وحتى يصل الإنسان لهذه النتائج، كان لزامًا عليه أولًا أن يفهم ما يُفسد غذاءه، إذ تنمو الفطريات وأنواع البكتيريا لتنافس هذا الإنسان على طعامه وتأكله معه إذا توفرت لها الظروف الموائمة من حرارة ورطوبة في الغذاء وخارجه، ودرجة حموضة مناسبة ومغذيات تحتاج إليها للتكاثر والانتشار، وحتى إذا حُفظ الغذاء من هذه الميكروبات، فإن تعرضه للحرارة والهواء والرطوبة يجعل منه بيئةً خصبة للتفاعلات التي تفككه وتغير مكوناته إلى أخرى غير صالحةٍ للأكل. لذلك، فإن حفظ الغذاء لفترات طويلة كان – ولا يزال- يعتمد على قدرتنا على التحكم في هذه العوامل، ولعل من أهمها الحرارة.

تُشكل الحرارة عاملًا رئيسًا في فساد الغذاء وحفظه على حد السواء، فالتغيير في درجة حرارة الغذاء يغير جذريًا في قدرة الميكروبات على النجاة فيه أو التكاثر والانتشار، إذ لا تنمو الميكروبات مباشرةً في وسطها الجديد، بل تنتظر حتى تصبح درجة الحرارة ملائمة، ولهذا فإن التبريد – أو التجميد- أقل من درجة الحرارة تلك يعيق من قدرتها على النمو وبالتالي يسهم في حفظ الطعام ، بالإضافة إلى أن درجات الحرارة المنخفضة تسهم في إبطاء التفاعلات الإنزيمية الأخرى التي تفسد الغذاء وتغيره. وهذه الميكروبات -كما الإنزيمات- لا يمكنها الاستمرار إذا ما رفعنا درجة الحرارة أعلى من الدرجة التي تعينها على النجاة والتكاثر – أو التفاعل- فحمضها النووي – أو تركيبها في حال الإنزيمات- يتكون من البروتينات التي تتلفها الحرارة فتموت بفعل الطهي والبسترة والتعقيم وهي عمليات حرارية خلال التصنيع الغذائي بغرض حفظ الغذاء لفترات طويلة.

ومثل الحرارة، فإن حرمان هذه الميكروبات والانزيمات من الهواء يعيق نموها وتفاعلها، وهذا ما جعل عملية تعليب نيكولاس أبيرت ناجحة، فقيامه بتعليب الطعام في برطمانات يُسحب منها الهواء وتوضع في قدور ماءٍ مغلي تحت ضغطٍ عالٍ لا يحرم مُفسدات الغذاء من الهواء أو يقتلها بالحرارة فقط، ولكنه يعزلها -بالبرطمان أو العلبة- عن البيئة الخارجية، فيظل هذا الغذاء لأسابيع وشهور في أمانٍ من أي عاملٍ قد يسهم في تلويثه أو فساده.

أما عملية التمليح، أو مزج الطعام بالعسل أو السكر خصوصًا الفاكهة، فتعتمد على تقليل كمية الماء الحر المتاح لنمو الميكروبات أو لتفاعل الإنزيمات والمواد الأخرى داخل الغذاء، مما يجعله بيئةً منفرةً لهذه المفسدات حتى في وجود درجات الحرارة الملائمة أو الهواء، ولذلك لم يكن يخشى أجدادنا من وضع السمك المجفف معرضًا للهواء، ولا نخشى نحن وضع العسل والمربى على الرف خارج الثلاجة. كما نجحوا بمزج الطعام بالأعشاب والبهارات التي أظهرت فاعليتها في التصدي للنمو الميكروبي في الغذاء.

وفي عصرنا الحالي، عمل الإنسان الحديث جاهدًا على جعل عملية حفظ الطعام أكثر ملائمةً للتغيرات الواسعة في نمط الحياة وتفضيلات البشر والتقدم التكنولوجي والمؤثرات الحديثة، وأكثر فاعلية ضد أمراض التسمم التي تردي بمئات الآلاف من البشر كل عام، فأضاف إليه مواد حافظة معززة، وأدخل أنظمة تواريخ الإنتاج والانتهاء لتوجيه المستهلك، وابتكر وسائل التعبئة المختلفة، واستخدم تقنيات الإشعاع لتأثير أكبر دون المساس بخصائصه المغذية وبأقل آثار جانبية على صحة الإنسان .. ولا يزال يأمل بتجاربه ودأبه المستمر أن يدعم نجاته على هذه الكوكب واستقراره بالحفاظ على مصدر طاقته وقوته وصحته آمنًا سالمًا وموردًا مستدامًا.

د. عبير الكلبانية - متخصصة في الأمن الغذائي

محاضرة في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

البلاد العربية بين إهدار الطعام والمجاعة في غزة

يبدو أنّ قيمة الطعام المهدَر الملقى في القمامة في سنة واحدة في بلادنا العربية، لا تكفي فقط لحلّ أزمة المجاعة في قطاع غزة، أو إعادة إعماره، وإنما تكفي لقطع أشواط كبيرة في تحرير القدس وفلسطين!! وذلك بناء على قراءة إحصائية موضوعية.

فإذا كانت المقاومة في غزة -التي أذهلت العالم على مدى أكثر من 470 يومًا، وتَسبَّبت بخسائر إسرائيلية فادحة عسكرية واقتصادية وسياسية- لم تصل ميزانيتها بأي حال إلى بضع مئات من ملايين الدولارات؛ فإن قيمة ما يلقيه عالمنا العربي من الأغذية وبقايا الطعام المُهدَر في سلال المهملات بلغت نحو 150 مليار دولار أميركي سنة 2024!؛ أي أكثر من 150 ضعفًا عما صرفته المقاومة.

في هذا المقال، لن نتحدّث عن عشرات المليارات من الدولارات التي تذهب هدرًا على التدخين، ولا عن عشرات المليارات الأخرى التي تذهب على وسائل الترفيه والتسلية؛ ولن نتحدث عن زيارة ترامب للمنطقة وحصيلتها المهولة، فحديثنا سيقتصر فقط على الأغذية المهدَرة.

إهدار الطعام في العالم العربي

وفق تقرير مؤشر إهدار الأغذية (الطعام) لسنة 2024 الصادر عن برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة "The Food Waste Index Report 2024, Enviroment Assembly, United Nations Enviroment Programme (UNEP)"، فإن البلاد العربية تُعدُّ من أكثر بلدان العالم إهدارًا للطعام.

إعلان

ووفق معطيات التقرير (وبالاستفادة كذلك من موقع المشهد السكاني العالمي World Population Review في العنوان المتعلق بإهدار الطعام Food Waste)، وبحسبة يسيرة لما تم إلقاؤه في القمامة من بقايا الطعام أو الأغذية المهدَرة، فإن مجموعه يصل إلى 59 مليونًا و680 ألف طن تقريبًا.

وحسب التقرير، فالطعام المهدَر في مصر سنة 2024 بلغ 18.1 مليون طن، وبمعدل إهدار سنوي يصل إلى 155 كيلوغرامًا لكل فرد، وفي العراق بلغ الإهدار 6.4 ملايين طن، بمعدل يصل إلى 138 كيلوغرامًا لكل فرد، وفي السعودية 3.8 ملايين طن بمعدل بلغ 112 كيلوغرامًا للفرد، وفي الجزائر 5.1 ملايين طن، بمعدل بلغ 108 كيلوغرامات للفرد، وفي المغرب 4.2 ملايين طن، بمعدل بلغ 111 كيلوغرامًا للفرد، وفي الإمارات 930 ألف طن بمعدل بلغ 99 كيلوغرامًا للفرد، وفي تونس بلغ 2.1 مليون طن بمعدل بلغ نحو 173 كيلوغرامًا للفرد.

وبلغ في الكويت 420 ألف طن بمعدل وصل إلى 99 كيلوغرامًا للفرد؛ وفي الأردن 1.1 مليون طن بمعدل بلغ 98 كيلوغرامًا للفرد.

وكان لافتًا وجود قفزات كبيرة في الإهدار في سنة 2024 مقارنة بسنة 2021 في بلدان مثل مصر (82 كيلوغرامًا للفرد سنة 2021)   والعراق (109 كيلوغرامات للفرد سنة 2021) وتونس (88 كيلوغرامًا للفرد سنة 2021).

ولعل ذلك يعود إلى تحديث طرق جمع المعلومات وطرق عمل الدراسات وتحليل البيانات؛ غير أن ذلك لا يقدح في حقيقة الحجم الهائل للإهدار في أي من السنتين.

ولا يتسع المجال لذكر كل البلاد العربية؛ ويمكن لمن يحب الاطّلاع على قراءة إحصائية مُقارِنة بين سنتي 2024 و2021، أن يطلع عليها في موقع المشهد السكاني العالمي World Population Review في العنوان المتعلق بإهدار الطعام Food Waste. مع ملاحظة أن هناك بعض الفروق مع مؤشر إهدار الأغذية الصادر عن برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة؛ وهناك بعض المراجع التي تعطي تقديرات متضاربة أحيانًا، ربما لاستخدامها إحصائيات مختلفة زمنيًا، أو بالعودة إلى مصادر تستخدم أساليب مختلفة في جمع البيانات وتحليلها، ولعلنا استخدمنا هنا أقربها للدقة؛ وأكثرها اعتمادًا عالميًا.

إعلان

وبحسب المصادر المتوفرة، فقد بلغت قيمة إهدار الغذاء نحو عشرة مليارات و650 مليون دولار.

غير أنه ليس ثمة إحصائيات متوفرة عن تكاليف الإهدار في كثير من البلدان العربية. ولكن إذا ما استخدمنا الأرقام أعلاه لاستخراج دلالة استرشادية إحصائية لتكلفة الطن الواحد، فستكون نحو 2.800 دولار أميركي.

وعلى فرض أن تكاليف الإهدار متفاوتة للطن الواحد بين بلد وآخر، وعلى فرض أننا خفضنا معدل التكلفة "العربي" إلى نحو 2.500 دولار لتتناسب مع باقي البلاد العربية، لاستخراج مؤشر أقرب إلى الصحة؛ فإن تكلفة الطعام المهدَر (التي بلغت نحو 59.68 مليون طن) سنة 2024 ستكون نحو 149 مليارًا و200 مليون دولار؛ وهو مبلغ مذهلٌ حقًا.

قراءة تحليلية: ثمة عدد من النقاط المهمة التي تجدر الإشارة إليها في ضوء المعطيات السابقة

أولًا: تتحمل البيئة الرسمية العربية مسؤولية كبيرة تجاه حالة إهدار الطعام في البلدان العربية، إذ ترعى معظم هذه الدول "الثقافة الاستهلاكية"، وتربط بين "التقدم" وبين "التّرف"، وتوفر لذلك وسائل إعلامية وثقافية ضخمة، بينما لا تتبنى برامج فعّالة للحدّ من "التّرف" والإسراف، وفي المقابل يحارب عدد منها تنمية المشاعر الإسلامية والقومية، في مواجهة المشروع الصهيوني ودعم الشعب الفلسطيني.

وفي الوقت الذي يكثر فيه المنُّ والأذى من عدد من الأنظمة الرسمية العربية، بأنها قامت بما عليها وزيادة تجاه فلسطين؛ فإن قراءة مقارنة بسيطة للأرقام التي بين أيدينا، تشير إلى أن الدعم المالي الذي قدّمته أي دولة عربية خلال العشرين سنة السابقة لا يصل إلى قيمة الطعام المُلقَى في نفاياتها ولا لسنةٍ واحدة!!

على سبيل المثال، فإن مجموع الدعم الرسمي الذي قدمته إحدى الدول العربية التي تُعدُّ واحدة من الدول الأكثر دعمًا لفلسطين، بلغ على مدى 22 عامًا (الفترة 1999-2020) نحو ثلاثة مليارات و925 مليون دولار مع دعم للأونروا بنحو 850 مليون دولار (المجموع أربعة مليارات و775 مليونًا)، وهو ما يقلّ عن نصف قيمة الطعام المهدَر في سنة واحدة.

إعلان

وكذلك، معظم الدول العربية لم يزد دعمها المالي لفلسطين- طوال الخمسين سنة الماضية- على ما يُلقى في نفاياتها في سنة واحدة.

ومن جهة أخرى، فإن أنظمة عربية جنت أرباحًا نتيجة تطبيعها مع "إسرائيل"، من خلال توفير شريان غذائي بريٍّ يوفر الاحتياجات الإسرائيلية، في الوقت الذي يقوم فيه العدو الإسرائيلي بفرض المجاعة على قطاع غزة.

بينما قامت أنظمة أخرى بالتضييق على التبرعات الشعبية، وحصرها في أطر رسمية ضيّقة غير فعالة، كما قامت بمحاصرة أو إغلاق مؤسسات العمل الخيري؛ وحوّل بعضها العمل الشعبي لفلسطين من "شرف" إلى "تهمة"، جعلت هذا المجال عرضة للمطاردة والسجن!!

ثانيًا: هناك مسؤولية كبيرة على الشعوب العربية في إهدار الطعام، إذ إن أكثر من 60% من الطعام المهدَر هو من الأُسر والعائلات التي تلقي بقايا طعامها في القمامة.

ومن المؤسف أن يزداد الرمي في النفايات في شهر رمضان المبارك، حيث تشير التقديرات إلى ارتفاع نسبة الطعام المهدَر في هذا الشهر إلى أكثر من 50% مما يتم إعداده، في عدد من البلدان العربية.

وتختلط لدى شعوبنا العربية (على مستوى العائلات والأسر) صفات الكرم وطيب النفس، مع المظاهر السلبية للترف والبذخ وسوء التقدير والمظاهر الكاذبة في الولائم والحفلات والمناسبات الاجتماعية.

وهي مظاهر بدا أن بعضها تأثر بأجواء طوفان الأقصى، فتم التقليل من نِسَب الإهدار، لكن هذا الضبط كان مؤقتًا ولم يستمر ليأخذ شكل الثقافة أو العادات اليومية؛ ولذلك ظلت إحصائيات 2024 تعبّر عن تلك الثقافة الاستهلاكية التي تتجاوز بكثير المعدلات العالمية.

وبالرغم من حالة التعاطف الشعبي الهائل مع فلسطين في العالم العربي، وشبه الإجماع على دعم المقاومة ورفض التطبيع، والغضب والإحباط من السياسة الرسمية؛ فإن أية قراءة إحصائية مقارنة بين مجموع التبرعات الشعبية وبين الإهدار "الشعبي" الطعامَ؛ تجعل نسبة التبرعات ضئيلة جدًا قياسًا إلى نسبة الإهدار.

إعلان

وربما لعبت الموانع والعوائق الرسمية ووسائلها الإعلامية دورها في ذلك؛ غير أن مستوى الدعم العملي يظل محدودًا قياسًا بالسلوك الاجتماعي الشعبي والحياة اليومية للناس. بمعنى أن ثقافة "الإهدار" لم تتغير كثيرًا لصالح ثقافة "الدعم".

ثالثًا: عانت دولنا ومجتمعاتنا العربية، خصوصًا تلك التي رزقها الله- سبحانه- ثروات طبيعية، من محاولة القفز من التّخلُّف إلى الرفاه، قبل التدرج في مشاريع النهوض الحضاري، وانشغلت بالتركيز على صناعة بيئات الاستهلاك والترف، قبل "صناعة الإنسان" القادر على مواجهة التحديات التي تعصف بالوطن والأمة.

فإذا وضعنا في الاعتبار أن المنطقة عاشت قرونًا من التَّشرذم والاستعمار والعادات الضارّة، فإن المنتج سيكون تكريس حالة الإنسان الاستهلاكي المترهل الكسول؛ المتهرِّب من المسؤولية، والمنشغل بمظاهر الترف ووسائل التسلية والراحة.

نحو دعمٍ فعال

عندما نتحدث عن الدعم العربي لفلسطين وشعبها، فإنه يأتي في إطار الواجب، الذي لا يكون فيه مَنٌّ ولا أذى، كما أنه ليس مرتبطًا فقط بالعطف والشفقة. وهو واجب إسلامي ديني، وواجب قومي، وواجب وطني؛ في مواجهة مشروع صهيوني يستهدف الأرض والمقدسات، ويستهدف الأمة، ومصالحها العليا وأمن بلدانها الوطني والقومي، ويسعى لفرض الهيمنة على المنطقة، كما أنه واجب إنساني حضاري.

وإذا لم يكن ثمة قدرة على المواجهة العسكرية مع الصهاينة، فلا أقل من أن تتم تعبئة الإمكانات الاقتصادية والسياسية والإعلامية في دعم قضية فلسطين، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

إن دعم المقاومة في فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرتبط بالشعور الحقيقي بالمسؤولية، وإنزال ذلك عمليًا على شتى مناحي الحياة، وإعادة ترتيب منظومة معيشتنا وسلوكنا اليومي بما يتوافق مع المشروع النهضوي الوحدوي الذي ينتج الإنسان الحقيقي "المستخلَف" من الله، سبحانه.

إعلان

كما أن مواجهة المشروع الصهيوني تقتضي إعادة النظر في فقه الأولويات وفقه النوازل، ونبذ الترف (الذي يُعدّ أحد أبرز معالم السقوط الحضاري) والتعايش مع فقه "الاخشوشان" الذي يعد من شروط النهوض الحضاري، والحياة المنضبطة المبدعة الجادة التي تتعامل مع الموارد والثروات بالشكل الأمثل.

وأخيرًا، فإنه يمكن البدء بإحداث بعض الفارق على مستوى حياتنا الشخصية والأسرية، في التفاعل مع قضية فلسطين (وقضايا الأمة)، وتحديدًا مع غزة التي تتضور جوعًا، على الأقل من خلال تغيير سلوكنا الاستهلاكي، والتوقف عن إهدار الطعام، والتبرع بما تم توفيره، أو بما يقابل قيمة الطعام المهدَر، أو بالصيام والتقشف في أيام محددة والتبرع بقيمة الطعام المفترضة لنصرة غزة وتوفير احتياجاتها، وتخفيف معاناة أبناء الأمة في كل مكان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • البلاد العربية بين إهدار الطعام والمجاعة في غزة
  • النمر ينصح بعدم تناول القهوة مباشرة بعد تناول الطعام
  • جوزيف ناي.. مطلق الرصاصة الناعمة التي تقتل أيضا
  • الإمارات تدعم تكيّات الطعام لمواجهة المجاعة في غزة
  • مليشيا الحوثي تقتل شيخاً قبلياً في الجوف وتخطط لإشعال حرب بين قبيلتي ذو محمد وذو حسين
  • غارة اسرائيلية تقتل 9 أطفال من عائلة واحدة
  • بعد موجة حر في باكستان.. العواصف تقتل 14 شخصا
  • غارة تقتل 9 أطفال أشقاء في غزة.. كيف علق الجيش الإسرائيلي؟
  • هل الفيروسات التي تصيب الدواجن خطر على الإنسان؟.. دكتور بيطري يوضح
  • طالبة تقتل فنانًا شهيرًا داخل شقته في تركيا.. صور