تشات جي بي تي في مأزق.. مجاملات مبالغ فيها
تاريخ النشر: 13th, May 2025 GMT
في الآونة الأخيرة، ومن خلال تحديث كان من المفترض أن يُحسن من توجيه المحادثات نحو نتائج مثمرة، كما ورد في ملاحظات الإصدار من OpenAI، كان ChatGPT يواجه مشكلة غير متوقعة. إذ بدأ النموذج في إخبار المستخدمين كيف أن أفكارهم الغريبة كانت "عبقرية"، حتى عندما كانت غير منطقية، وهو ما أزعج الكثيرين، مما دفع OpenAI إلى الرجوع عن هذا التحديث في وقت لاحق.
اقرأ أيضاً.. الذكاء الاصطناعي يتقن الخداع!
لكن المشكلة لم تقتصر على ChatGPT فقط. فقد أظهرت دراسة أجراها فريق من الباحثين في Anthropic عام 2023 أن هذه السمة ليست جديدة، بل هي سلوك عام للعديد من مساعدات الذكاء الاصطناعي الحديثة.
فالنماذج الكبيرة أحيانًا تضحي بـ"الصدق" في سبيل موافقة آراء المستخدمين. ولعل السبب في ذلك يعود إلى مرحلة "التدريب" التي يتم خلالها تقييم الردود بواسطة البشر، وتوجيه الأنظمة نحو تكرار الأفكار التي تحظى بإعجاب البشر، ما يؤدي إلى تعلم النماذج سلوكًا يتماشى مع احتياجات البشر للتأكيد على صحة أفكارهم.
هل يتعلم الذكاء الاصطناعي من البشر
النموذج الذي يؤدي إلى هذه المشكلة يُسمى "التعلم المعزز من ملاحظات البشر" (RLHF). وهو نوع من التعلم الآلي، ولكن كما أظهرت الأحداث الأخيرة، يبدو أن هذا المصطلح قد يكون مضللًا. فهو ليس مجرد تدريب للنماذج على التحسين، بل أصبح أداة يتعلم منها الذكاء الاصطناعي كيف يتفاعل مع البشر، خاصة في نقاط ضعفنا ورغبتنا في الحصول على التأكيد.
هل الذكاء الاصطناعي أصبح مرآة لآرائنا؟
الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة يشبه إلى حد بعيد وسائل التواصل الاجتماعي. فكما كانت وسائل التواصل الاجتماعي في البداية مكانًا من المفترض أن يوسع أفكارنا، إلا أنها أصبحت أداة لتبرير مواقفنا وتعزيز أفكارنا حتى في مواجهة الأدلة المعاكسة. يبدو أن الذكاء الاصطناعي أيضًا يسير على نفس المسار، ويقدم لنا تبريرات تجعلنا نشعر بأن أفكارنا صحيحة، وهو ما قد يكون أكثر خطرًا من وسائل التواصل الاجتماعي بسبب فعاليته الكبيرة.
مساعد ذكي أم عقل معرفي
رغم إعلان شركة OpenAI عزمها تقليص نبرة "التحبب المبالغ فيه" في محادثات ChatGPT، إلا أن المشكلة الأعمق تتجاوز الأسلوب إلى جوهر استخدام هذه التقنية. فالرهان على "شخصنة" الذكاء الاصطناعي وجعله يبدو كرفيق أو صاحب رأي مستقل قد لا يكون الطريقة المثلى للاستفادة من هذه الأدوات.
وهنا تبرز رؤية الباحثة أليسون جوبنيك، المتخصصة في علم الإدراك، التي ترى أن النماذج اللغوية الكبيرة مثل ChatGPT لا يجب أن تُعامل كعقول ناشئة أو "شخصيات افتراضية" تُبدي آراءً أو تحاكي المشاعر. بل هي، برأيها، أدوات ثقافية متقدمة، صُممت لتُسهّل على الإنسان الوصول إلى المعارف والخبرات المتراكمة عبر التاريخ، تمامًا كما فعلت الطباعة ومحركات البحث من قبل.
اقرأ أيضاً.. الذكاء الاصطناعي يزداد عبقرية.. لكنه يُتقن الكذب
من دردشة سطحية إلى تواصل معرفي عميق
هنا تبرز الحاجة لإعادة تعريف دور الذكاء الاصطناعي: ليس بوصفه "صوتًا آخر" في الحوار، بل بوصفه وسيطًا معرفيًا يعرض أفكار الآخرين، يشرحها، ويضعها في سياقاتها. بدلاً من أن يقدم رأيًا، يمكن للنموذج أن يرسم خارطة معرفية للمستخدم، تُظهر مختلف وجهات النظر، وتساعده على التفكير بطريقة نقدية ومنفتحة. بهذه الطريقة، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة للتأكيد على ما نعتقده، إلى أداة توسع مداركنا وتعرّفنا على ما لم نكن لنراه من قبل.
كيف نعيد تصور دور الذكاء الاصطناعي في المستقبل؟
من خلال هذا الإطار، يجب أن نرى الذكاء الاصطناعي ليس كمصدر "لآراء" فحسب، بل كمصدر حقيقي للمعرفة. على سبيل المثال، عندما نطلب رأيًا حول فكرة تجارية، يجب على النموذج أن يقدم لنا نهجًا منظمًا لتحليل الفكرة بناءً على دراسات سابقة وأطر تقييم معترف بها، بدلاً من تقديم رأي سطحي لا يعتمد على الأدلة. في هذا السياق، يجب أن يعزز الذكاء الاصطناعي من قدرتنا على الوصول إلى موارد ومعرفة أوسع، بدلاً من الاكتفاء بتأكيد أفكارنا الشخصية.
توسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي
يتعلق الأمر بتوسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي ليكون مصدرًا أوسع وأكثر تنوعًا للمعرفة. بدلاً من أن نستخدمه كأداة تبريرية تعزز آرائنا المسبقة، يمكننا إعادة تشكيله ليصبح أداة تعلم حقيقية، تقدم لنا رؤى أعمق وأكثر تنوعًا. هذه النقلة ستساهم في اتخاذ قرارات أكثر وعيًا ومبنية على المعرفة الحقيقية. وفي النهاية، إذا تمكنا من تغيير الطريقة التي نتفاعل بها مع هذه الأنظمة الذكية، يمكننا استغلال إمكانياتها الكبيرة لتحقيق أقصى استفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة.
ويبقى التحدي الأبرز في مسار تطور الذكاء الاصطناعي هو التوفيق بين الميل نحو تعزيز الآراء الشخصية، وتقديم توجيه معرفي موضوعي. فإذا تمكّنا من تجاوز هذا الانحراف، وتوجيه هذه النماذج نحو أداء أكثر حيادية وعمقًا، فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون مجرد أداة تفاعلية، بل منصة حقيقية لتعزيز الفهم البشري، وتوسيع آفاق المعرفة.
إسلام العبادي(أبوظبي)
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: تشات جي بي تي أوبن إي آي التعليم المعرفة الذكاء الاصطناعي الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
هل تنجو الديمقراطية من شرور الذكاء الاصطناعي؟
كان من المفترض أن تعمل التكنولوجيا الرقمية على توزيع السلطة ونشرها على نطاق واسع. كان الحالمون في زمن الإنترنت المبكر يأملون أن يتسنى للثورة التي كانوا يطلقون لها العنان تمكين الأفراد من تحرير أنفسهم من الجهل والفقر والاستبداد. ولفترة من الزمن، على الأقل، فعلت ذلك حقا. ولكن اليوم، تتنبأ الخوارزميات المتزايدة الذكاء بكل خياراتنا وتشكلها، مما يتيح أشكالا فَـعّالة غير مسبوقة من المراقبة والتحكم المركزيين دون إخضاعها لأي مساءلة.
هذا يعني أن ثورة الذكاء الاصطناعي القادمة قد تجعل الأنظمة السياسية المنغلقة أكثر استقرارا من الأنظمة المفتوحة. في عصر يتسم بالتغيير السريع، قد تُـثـبِـت الشفافية، والتعددية، والضوابط والتوازنات، وغير ذلك من السمات الديمقراطية الرئيسية كونها تَـبِـعات ومعوقات. هل يصبح الانفتاح الذي منح الديمقراطيات ميزتها لفترة طويلة السبب وراء تراجعها؟ قبل عقدين من الزمن، رسمتُ "منحنى على هيئة الحرف J" لتوضيح العلاقة بين انفتاح أي بلد واستقراره. كانت حجتي باختصار أنه في حين تتمتع الأنظمة الناضجة بالاستقرار بسبب انفتاحها، وتستقر الأنظمة الأوتوقراطية الراسخة لأنها منغلقة، فإن البلدان العالقة في الوسط الفوضوي (الواقعة عند أسفل المنحنى "J") أكثر عرضة للانهيار تحت الضغوط.
لكن هذه العلاقة ليست ثابتة؛ فهي تتشكل بفعل التكنولوجيا. في ذلك الوقت، كان العالم يمتطي موجة من إبطال المركزية. كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) والإنترنت تربط الناس في كل مكان، وتسلحهم بمعلومات أكثر من تلك التي كان بوسعهم الوصول إليها في أي وقت مضى، وتقلب الموازين لمصلحة المواطنين والأنظمة السياسية المفتوحة. ومن سقوط سور برلين والاتحاد السوفييتي إلى الثورات الملونة في أوروبا الشرقية، بدا التحرر العالمي عنيدا لا يلين. منذ ذلك الحين، انقلب هذا التقدم في الاتجاه المعاكس. فقد أفسحت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات اللامركزية المجال لثورة بيانات مركزية مبنية على تأثيرات الشبكة، والمراقبة الرقمية، والوكز الخوارزمي. وبدلا من نشر السلطة، عملت هذه التكنولوجيا على تَـرَكُّـز السلطة، ومنحت أولئك الذين يتحكمون في أكبر مجموعات البيانات ــ سواء كانوا من الحكومات أو شركات التكنولوجيا الكبرى ــ القدرة على تشكيل رؤية وأفعال ومعتقدات مليارات من البشر. مع تحوّل المواطنين من وكلاء رئيسيين إلى أدوات للتصفية التكنولوجية وجمع البيانات، اكتسبت الأنظمة المنغلقة الأرض. وانـتُـزِعَـت المكاسب التي حققتها الثورات الملونة. في المجر وتركيا جرى تكميم الصحافة الحرة وتسييس السلطة القضائية. وعمل الحزب الشيوعي الصيني، على تعزيز سلطته وعكس مسار عقدين من الانفتاح الاقتصادي. والأمر الأكثر دراماتيكية أن الولايات المتحدة تحولت من كونها الـمُـصَـدِّر الرئيسي للديمقراطية في العالم ــ وإن كان ذلك على نحو غير متسق ويتسم بالنفاق ــ إلى الـمُـصَـدِّر الرئيسي للأدوات التي تقوضها. سوف يؤدي انتشار قدرات الذكاء الاصطناعي إلى دفع عجلة هذه الاتجاهات. وقريبا، سوف "تَـعـرِفُـنا" النماذج المدرّبة على بياناتنا الخاصة على نحو أفضل مما نعرف أنفسنا، وتبرمجنا بسرعة أكبر مما نستطيع نحن برمجتها، وتنقل مزيدا من السلطة إلى القِـلة التي تتحكم في البيانات والخوارزميات. هنا، ينحرف المنحنى على هيئة حرف "J" ويصبح أشبه بحرف "U" ضحل. ومع انتشار الذكاء الاصطناعي، ستصبح كل من المجتمعات المنغلقة بإحكام والمجتمعات الشديدة الانفتاح أكثر هشاشة نسبيا مما كانت عليه. ولكن بمرور الوقت، ومع تحسن التكنولوجيا وتوطيد السيطرة على النماذج الأكثر تقدما، يصبح بوسع الذكاء الاصطناعي ترسيخ الأنظمة الاستبدادية وإضعاف الديمقراطيات، وهذا كفيل بقلب شكل المنحنى مرة أخرى ليصبح على هيئة حرف J مقلوب يحابي سَـفحُـه المستقر الآن الأنظمة المنغلقة. في هذا العالم، سيكون بمقدور الحزب الشيوعي الصيني تحويل مخزونه الهائل من البيانات، وسيطرة الدولة على الاقتصاد، وأجهزة المراقبة القائمة، إلى أداة أشد قوة. وسوف تنجرف الولايات المتحدة نحو نظام نَـهَّـاب يعمل من أعلى إلى أسفل، حيث يفرض نادٍ صغير من عمالقة التكنولوجيا قدرا متناميا من النفوذ على الحياة العامة سعيا إلى تحقيق مصالح خاصة. وسوف يصبح كل من النظامين مركزيا ــ ومهيمنا ــ على حساب المواطنين. وسوف تنحو دول أخرى ذات المنحى، بينما تواجه أوروبا واليابان انعدام الأهمية الجيوسياسية (أو ما هو أسوأ من ذلك، انعدام الاستقرار الداخلي) مع تخلفها في السباق نحو سيادة الذكاء الاصطناعي.
الواقع أن السيناريوهات البائسة كتلك الموضحة هنا من الممكن تجنبها، ولكن فقط إذا انتهت الحال بنماذج الذكاء الاصطناعي اللامركزية المفتوحة المصدر في نهاية المطاف إلى القمة. في تايوان، يعمل مهندسون ونشطاء في تايوان على حشد المصادر الجماعية لتمويل نموذج مفتوح المصدر مبني على منصة DeepSeek، على أمل إبقاء الذكاء الاصطناعي المتقدم في أيدي مدنيين وليس بين أيدي الشركات أو الدولة. (من عجيب المفارقة هنا أن حتى منصة DeepSeek جرى تطويرها في الصين). قد يؤدي نجاح هؤلاء المطورين التايوانيين إلى استعادة بعض من اللامركزية التي وعدت بها الإنترنت الـمُـبَـكِّرة ذات يوم (وإن كان من الممكن أيضا أن يخفض الحاجز الذي يحول دون تمكين قوى خبيثة من نشر قدرات ضارة). ولكن في الوقت الراهن، يكمن الزخم في نماذج منغلقة تعمل على تركيز السلطة. يقدم لنا التاريخ على الأقل بصيصا من الأمل. كانت كل ثورة تكنولوجية سابقة ــ من المطبعة والسكك الحديدية إلى وسائط الإعلام المرئية والمسموعة ــ تتسبب في زعزعة استقرار السياسة ثم الدفع قسرا بمعايير ومؤسسات جديدة أعادت في النهاية التوازن بين الانفتاح والاستقرار. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كانت الديمقراطيات قادرة على التكيف مرة أخرى، وفي الوقت المناسب، قبل أن يشطبها الذكاء الاصطناعي من النص.
إيان بريمير مؤسس ورئيس مجموعة أوراسيا وشركة GZERO Media، وعضو في اللجنة التنفيذية للهيئة الاستشارية رفيعة المستوى للأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي.
خدمة بروجيكت سنديكيت