قتل الصحفيين.. جريمة لا تُغتفر
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
حاتم الطائي
◄ الصحفيون هاجس مُقلق وخصم عتيد لكل الطُغاة والقتلة
◄ الاحتلال الصهيوني يقر ويعترف باغتيال الصحفيين لوأد الحقيقة
◄ الإعلام الغربي يتواطأ مع الصهاينة في حرب الإبادة بغزة
يتعمَّد الاحتلال الإسرائيلي إسكات صوت الحقيقة من خلال استهداف الصحفيين واغتيالهم بدم بارد، من أجل التعتيم على جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين عامةً، وقطاع غزة على وجه التحديد، فمنذ السابع من أكتوبر 2023، استُشهِد 238 صحفيًا في قطاع غزة وحده، منهم 11 صحفيًا ينتسبون إلى قناة الجزيرة القطرية، أهم وسيلة إعلامية في تغطية حرب الإبادة المُمنهجة في القطاع.
وعلى مرِّ التاريخ، ظلّ الصحفيون هاجسًا مُقلقًا وخصمًا عتيدًا لكل الطُغاة والقتلة، وطيلة ما يزيد عن 7 عقود، تعمَّد الاحتلال الإسرائيلي وأد الحقيقة واغتيال كل صاحب صوت أو كلمة حُرة، ينقلها عبر المذياع أو التلفاز أو الصحافة المكتوبة، حتى رسامي الكاريكاتير لم يسلموا من عمليات الاغتيال المُمنهجة. ومن المُفارقات أن نكتشف أنَّ عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتجاوز الـ70 صحفيًا، رغم أنَّ هذه الحرب أودت بحياة الملايين من البشر، بينما في حرب الإبادة الجماعية في غزة يصل العدد- كما ذكرنا- إلى 238 صحفيًا.
وما يُفاقم من شدة المأساة، أن يعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي بتعمُّده قتل الصحفيين في غزة مع سبق الإصرار والترصُّد، تمامًا كما يفعل عندما يقصف المستشفيات ودور العبادة والمدارس والملاجئ التي تأوي عشرات الآلاف، فضلًا عن قصف خيم النازحين وهم نائمون.. إنها حرب إبادة مُتعمَّدة، ومذابح دموية وجرائم حرب، تستهدف في المقام الأول تهجير سكان غزة وطردهم من أرضهم، وتصفية القضية الفلسطينية، ودفن الدولة الفلسطينية تحت التراب، وهو هدف مُعلن وأكد عليه وزراء الحكومة المُتطرفة في تل أبيب.
ومن المؤسف أنَّ هذا التعمُّد وذلك الإصرار على إبادة أمة بأكملها، لم يُحرك المنظمات الدولية ولا الدول التي تصف نفسها بأنَّها "عظمى"؛ إذ لم يتحرك مجلس الأمن بموجب المادة السابعة لمنع جيش الإجرام والاحتلال من تنفيذ المذابح ليل نهار، ولم تتحرك الأمم المتحدة لاتخاذ قرار حقيقي بتجميد عضوية إسرائيل في المنظمة الأممية، أو فرض العقوبات الدولية عليها. في المُقابل، وفي ظل نظام عالمي آثم، انهالت العقوبات الغربية والدولية على روسيا لمجرد أنَّها دافعت عن حقها في الدفاع عن نفسها من التهديدات المُتزايدة من دول حلف شمال الأطلسي "ناتو"، والذين استفزوا الدب الروسي واقتربوا بصواريخهم ومُعداتهم القتالية إلى أقرب نقطة لم يكن مُمكنًا لروسيا البوتينية أن تقف مكتوفة الأيدي، لتنتظر جحافل "الناتو" تخترق أراضيها وتحتلها!
الحرب على الصحفيين واغتيال الحقيقة، لا يشنها جيش الإجرام الإسرائيلي وحده؛ بل تتكاتف معه مؤسسات إعلامية كبرى، من صحفٍ ومحطات تلفزة ومواقع إلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وحتى برامج البودكاست الغربية، كلها تتعاون من أجل تزييف الوعي العالمي وتزوير الحقائق وقلبها. هل نتذكر ماذا كانت تقول وسائل الإعلام الغربية في بداية "طوفان الأقصى"؟ ألم ينشروا صورًا مُزيفة لحيوانات محروقة، زعمًا أنَّ المقاومة أحرقت إسرائيليين؟ ألم يتعمدوا تلفيق قصص إخبارية تُظهر عناصر المقاومة على أنَّهم قتلة وسفّاحين، بينما السفّاحون الحقيقيون- وعلى رأسهم مجرم الحرب نتنياهو- يمارسون أبشع الجرائم في غزة، ويقصفون السكان بآلاف الأطنان من المُتفجرات.
تزييف الوعي وطمس الحقائق كان- وما يزال- هدفًا رئيسيًا لكثير من وسائل الإعلام الغربية، حتى إنَّ بعضًا من هذه الوسائل ترفض استخدام كلمات مثل "مذبحة" أو "إبادة" أو "تهجير"؛ بل والأسوأ من ذلك أنهم يتبنون الرواية الصهيونية، ويطرحون وجهات النظر الإسرائيلية كما يُمليها عليهم الرقيب العسكري الإسرائيلي. ولا ريب أنَّ مثل هذا النهج يؤكد تواطؤ الإعلام الغربي في حرب الإبادة بغزة، فهو شريك في إخفاء الحقائق وتزوير الصورة، وتحريف المعلومة.
ولم يكن الإعلام التقليدي وحده هو المتواطئ والمنبطح للرواية الصهيونية؛ بل منصات التواصل الاجتماعي كذلك؛ إذ عمدت منصات مثل: فيسبوك وإنستجرام وواتساب وإكس وغيرها، إلى فرض قيود على المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي تكشف حقيقة الجرائم الإسرائيلية في غزة، وكثيرًا ما تعرضت صفحات لوسائل إعلام عربية، ومنها جريدة الرؤية، إلى الحظر الجزئي والحظر التام، بل وإغلاق الصفحة تمامًا إلى الأبد.
لقد دفع الإعلام الناقل للحقيقة بكل صدق وأمانة ومهنية، الثمن في ظل القيود الظالمة التي نفذتها إدارات منصات التواصل الاجتماعي، فكم مرة مُنعنا من نشر تغريدات بعد حظرها، وكم مرة تلقينا فيها إنذارات بحذف المنشورات بلغة لم تخلُ أبدًا من التهديد والوعيد، وقد نفذوا وعيدهم معنا في جريدة الرؤية أكثر من 3 مرات، فقدنا خلالها جمهورًا عريضًا من المُتابعين الباحثين عن صوت الحقيقة والحريصين على قراءة الإعلام الصادق المُعبِّر عن الآلام الشديدة التي يئن منها الشعب الفلسطيني.
لقد أمعن الاحتلال المُجرم في حرب الإبادة التي يشُنها على أهل غزة المُستضعفين؛ إذ لم يتردد هذا الجيش الباغي لحظة في قصف مدرسة أو مستشفى أو خيمة صحفيين، لأنَّه لا يريد سوى إبادة هذا الشعب، ومحو فلسطين نهائيًا.. لكن هيهات هيهات.
من المُحزن أن نصل لقناعة بأنَّ المنظمات الدولية المعنية بالصحافة والإعلام لن تتحرك، ولن تتخذ أي إجراء لحماية الصحفيين، والحيلولة دون اغتيال الاحتلال لهم، لكن المُؤكد أنَّ أصحاب الأقلام الحُرة وحملة مشعل الحقيقة، لن يتوقفوا عن أداء دورهم الرسالي، ولن تُخيفهم رصاصات الغدر والخيانة، ولنسأل أنفسنا، هل اختفى صوت الإعلام بعد اغتيال شيرين أبو عاقلة برصاص قناصة في وضح النهار وأمام كاميرات الإعلام الدولي، هل تراجع وائل الدحدوح بعد أن كاد يفقد حياته، بل وفقد حياة عائلته وأبنائه؟
لن ينجح هذا الاحتلال المُجرم في قصف أقلام الصحفيين، أو كسر كاميراتهم، أو تحطيم ميكروفوناتهم.. لن تفلح وحدات أجهزة الموساد و"أمان" و"الشاباك" في منع أصحاب الكلمة الحُرة من أن يصدحوا بها، ولن تتمكن الخلايا الإجرامية التي تنتشر عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي من أن تطمس الحقائق ولا أن تُغطّي على جرائم الاحتلال الفاشي، ستفشل "خلية إضفاء الشرعية" التابعة للموساد كما فشلت خلايا وعملاء الوحدة 8200 التي تنتشر مثل النار في الهشيم على منصات مثل "إكس" وغيرها، لن ننخدع بأبواق تنطق وتكتب العربية بأسلوب ركيك للإيهام بأنَّ من العرب مؤيدين لإسرائيل، إنهم مُتصهينون، وبذرة فاسدة نبتت في بعض دولنا العربية، وهم قلة قليلة، لكن ضجيجهم صاخب.
ويبقى القول.. إنَّ المحاولات اليائسة لجيش الاحتلال الإسرائيلي لوأد الحقيقة وطمسها، لن تنجح، وأصوات الحق ستظل تصدح حتى قيام الساعة، ولن نقف نحن- معشر الصحفيين- مكتوفي الأيدي تجاه ما يجري في حق إخواننا في قطاع غزة، ولقد قطعنا عهدًا أمام الله وأمام ضمائرنا وأمام مُجتمعنا، أن نظل أوفياء لقول الحق، وسنُواصل عبر وسائلنا الإعلامية فضح حرب الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، ولن نتوقف عن تبصير النَّاس بجرائم الاحتلال، إلى أن يزول نهائيًا بإذن الله تعالى.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطاب المخابرات و«إسرائيل الكبرى»
في الحروب القديمة، كانت البنادق والمدافع تحدد مصير المعارك، بينما الدخان المتصاعد من ميادين القتال يروي حكايات الانتصارات والإخفاقات، تغيّر المشهد، ولم تعد الميادين أراضٍ محددة بخطوط النار، لكنها صارت فضاءً واسعًا بلا خرائط أو أسوار.
تتسع الميادين بعدد مليارات الهواتف المحمولة، وشاشات التلفزيون، وتطبيقات التواصل، بينما الأسلحة: مقالات، وفيديوهات، وصور، وكوميكس، تتسرب في لحظات إلى عقول أعياها: الجهل، الفراغ، وسطوة الاستهداف، حرب بلا رصاص، تصيب الأدمغة فتتهاوى إرادة الأجساد.
وسط هذا الصراع الكبير، ينشط الإعلام الإسرائيلي، يحيط به حزام من منصات أوروبية، وأمريكية، وعربية «أحيانًا»، بعضها متحالف معه رسميًا، وبعضها الآخر متشابك معه في المصالح والارتباطات حتى صار جزءًا من بنيته، ومعبرًا عن رسائله المشبوهة.
الإعلام الإسرائيلي يمارس وظيفة تتجاوز الإخبار إلى صناعة الإدراك، لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يعيد تشكيلها داخل قوالب تخدم مصالحه الاستراتيجية، وفي غرف الأخبار المغلقة، يتم تخليق روايات، وانتقاء المعلومات، وتكييف الصور، وترسيخ مصطلحات خبيثة.
لا يقدم الإعلام الإسرائيلي الصورة الكاملة لما يحدث، يتعمد الحد أو إخفاء جرائم الاحتلال الشاملة «عسكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا.. .»، يبالغ في عرض تفاصيل صغيرة إذا كانت تخدم أهدافه، ويتعمد جعل المتلقي، محليًا أو دوليًا، أسيرًا لرؤية معدة سلفًا.
ينتجون خطابًا يوظف الخوف والتحريض ليخلق بيئة مهيأة لتقبل السياسات التوسعية، يزرع الإعلام الإسرائيلي «رغم تباين الخطاب» صورة نمطية عن العرب والمسلمين بوصفهم تهديدًا دائمًا، ويحاول تحميلهم مسئولية أي عنف أو تصعيد، حتى وإن كانوا ضحاياه.
إعلام الاحتلال يستهدف الرأي العام العالمي عبر تسويق الأوهام كحقائق، مؤسسات الأمن والاستخبارات تغذي منظومتهم الإعلامية، والتنسيق الوثيق يربط مزاعم متجددة، كـ«إسرائيل الكبرى»، بعمليات ميدانية ونفسية، في محاولة لجعل المخططات قدرًا لا مفر منه.
طرح رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو لمفهوم «إسرائيل الكبرى»، إعلاميًا ونفسيًا على الجوار العربي يستهدف ترسيخ صورة ذهنية بأن المشروع الصهيوني لا يزال في أوج قوته وأن طموحاته التوسعية لم تتراجع، بما يزرع الإحباط والخوف لدى الشعوب.
رسالة خبيثة، هدفها دفع النخب السياسية إلى التعامل مع إسرائيل باعتبارها قوة أمر واقع لا يمكن كسرها، تشتيت الأولويات العربية عبر الإيحاء بأن الخطر الإسرائيلي شامل ومرتبط بـ«قدر تاريخي» لا بممارسات سياسية قابلة للتغيير، يحاول خلق بيئة نفسية تقبل تدريجيًا بفكرة التنازل أو التطبيع كخيار لتجنب الصدام، ويغذي روايته أمام الداخل الإسرائيلي بأنه الزعيم القادر على إعادة المشروع التوراتي إلى الواجهة.
أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تبني حملاتها على تكرار الرسائل «الإخوان يستنسخون ذلك في أكاذيبهم»، ويتعمدون صياغتها بأشكال متعددة حتى تصبح جزءًا من اللغة اليومية، يتشربها المتلقي دون مقاومة، فيتحول الإعلام إلى أداة سيطرة معرفية ونفسية، تستهدف إعادة صياغة الوعي وتقبل المطلوب.
يعيدون تعريف المفاهيم على مقاسهم، فيصبح القصف «دفاعًا»، والقتل «أخطاء عفوية»، والمجازر «حوادث مؤسفة»، أساليبهم ليست حيلًا عابرة، بل خططًا استراتيجية، تحترف التلاعب بالعقول أمام الشاشات: الكلمات، الصور، وحتى الصمت، كلها رسائل ملغمة.
المسألة ليست عشوائية: المذيع، والمراسل، والمحرر، كلهم أجزاء في منظومة تعرف تمامًا ما تريد أن تقول، ومتى وأين تقولها. فالمراسل على خط الجبهة ليس عينًا محايدة، بل ذراعًا من أذرع عملية أوسع توظفها حكومات الاحتلال في تغيير الانطباعات.
حين ننتقل إلى الغرب، نجد أن كثيرًا من المنصات الإعلامية لا تقف على مسافة واحدة من الحقيقة، بعضها يكرر خطاب إسرائيل حرفيًا: كل جملة، وكل صورة، وكل زاوية تصوير، يتم اختيارها بعناية لتترك في ذهن المتلقي الأثر المطلوب.
بعضها يموّه انحيازه، لكنه يبقي الإطار السردي مأمورًا: الاحتلال يصير «إدارة أمنية»، والحق العربي يصير «إرهابًا»، والدم الفلسطيني يصبح خبرًا ثانويًا يتيمًا في أسفل الشاشة، بينما الدموع الإسرائيلية تحتل العناوين العريضة.
في قضايا كثيرة يزعم إعلامهم التوازن، لكنه في المسألة الإسرائيلية - الفلسطينية يصطف لخدمة رواية واحدة: رواية الاحتلال، تلعب المصالح السياسية والأمنية دورها، فتصبح حماية الرواية الإسرائيلية جزءًا من أمن تلك الدول.
اللوبيات لا تتوقف عن الضغط، من أروقة الكونجرس إلى مكاتب المعلنين، تلعب القيم الانتقائية دورها في خدمة إسرائيل الوظيفية، حامية مصالح القوى الدولية في الشرق الأوسط، يرفعون شعارات حقوق الإنسان والحريات، ثم يغضون الطرف حين يتعلق الأمر بالعرب.
يفرغون نصف الحقيقة من سياقها لتصبح شيئًا آخر، ويستدعون العاطفة الغربية القديمة تجاه «الضحايا الدائمين»، فيستحضر «المحرقة» للتغطية على البشاعة الحقيقية في الانتقام من أصحاب الأرض، ويغرقون المتلقي في أخبار متناقضة تفقده القدرة على التمييز.
المتلقي «القارئ، أو المستمع، أو المشاهد» في هذه البيئة يصبح أسيرًا لصورة ناقصة أو مشوهة، الاستهلاك السلبي لهذا الخطاب خطر ناعم، مصادر بلا تدقيق، تتسرب المفاهيم المفخخة، وتتغير الأولويات، ويُصرف الانتباه عن قلب الصراع إلى قضايا هامشية.
هم محترفون في صياغة وتنفيذ وترويج خطابهم، بينما هناك من يرسخ بيننا لتصديق خطابهم «بأسلوب: شوفت الإعلام الإسرائيلي - الغربي بيقول إيه؟!»، فيستهلكون ما هو مشكوك فيه بديهيًا، تحت تأثير الحملات الممنهجة، وترسانة الأدوات النفسية، التي تتفنن في تضخيم ما يخدمهم وتهميش ما يضرهم.
نحن وسط حرب متطورة، وسائلها تتغير لحظيًا بحكم سرعة التقدم التكنولوجي، الذكاء الاصطناعي بات جزءًا من اللعبة، قادرًا على إنتاج صور وفيديوهات تكاد تخدع حتى العيون المدربة. البيانات الضخمة جزء من تصميم رسائل الصراع على مقاس كل شخص، تبدأ بدراسة نفسيته وتوجيه إرادته.
الرسائل السياسية يتم دمجها في مسلسلات وأفلام، وأغانٍ، وألعاب إلكترونية، ومحتوى الشبكات الاجتماعية، حتى تصل إلى الجمهور بلا مقاومة. تطبيقات الفيديو القصير تُستخدم لبث مشاهد عاطفية خاطفة، سهلة الحفظ والمشاركة.
التحالفات الإعلامية تغير جلدها، فتبحث عن شركاء إقليميين يمنحون الرسالة مظهرًا محليًا، حين ندرك هذا المسار، نفهم أن الانتظار حتى تصلنا الضربة الإعلامية ليس خيارًا حكيمًا، الاستعداد يبدأ قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى في معركة الوعي.
الخداع الاستراتيجي ينجح حين نقف في مربع المتفرجين، ويفشل حين ندخل إلى قلب النص والصورة ونفككهما. المعركة الحقيقية الآن ليست في إطلاق الرصاص، بل في القدرة على حماية العقول من أن تتحول إلى أهداف سهلة.
من يسيطر على وعيك، يحدد لك كيف ترى العالم، ومن الصديق ومن العدو، وما الحق وما الباطل وفق خطابه وروايته. إذا تركت وعيك بلا حراسة، فقد سلمت مصيرك لمن لا يرى فيك إلا رقمًا في معادلة أكبر.
المواجهة ليست في إغلاق النوافذ، بل في تعلم كيفية النظر من خلالها بوعي، والتعامل مع خطابهم كطرف في الصراع، لا كحكم محايد.علينا أن نبحث عن مصادر مستقلة، وأن نقرأ السياق قبل الحدث، وأن نفكك اللغة، وأن ننتبه للمصطلحات، وأن نرى ما وراء الكاميرا.
المجابهة لا تعني أن نغلق أعيننا عن الإعلام الدولي، بل أن نفتحها أكثر، وأن نرى الألوان الحقيقية خلف دهانات الخداع، والكذب بالألوان الطبيعية. علينا أن نتذكر أن كل رسالة إعلامية تحمل بصمة مصلحة، وأن الأخبار ليست نهاية البحث، بل بدايته.
نحن في حاجة إلى جيل يعتبر الخبر مادة للفحص لا للتلقين، وإلى مدارس وجامعات تعلم الطلاب كيف يفكون الشيفرات التي تختبئ في لغة المذيع وزوايا الصورة، وإلى مجتمع لا يكتفي بسرد ما يراه، بل يسأل: من يريدنا أن نراه بهذه الطريقة؟ ولماذا الآن؟
نحن في زمن تتحول فيه الكلمة إلى رصاصة، والصورة إلى قذيفة، لذا يصبح الوعي خط الدفاع الأول، وأحيانًا الأخير، في حرب مفروضة عليك عبر هاتفك، وتلفزيونك، وخياراتك على مواقع التواصل.
المحترفون في صناعة الإدراك يدركون طبيعة ما يتم، وكيف تُصاغ روايات مشبوهة تخدم الاحتلال وحلفاءه، في حرب لا يربحها من يملك أقوى الأسلحة، بل من يتسلح بالفهم لحماية عقله، وذاكرته، وأسرته، ومحيطه، ومجتمعه ككل، حتى لا يصبح ممن جار عليهم الزمن بعدما فرطوا «بإرادة حرة» في نعمة العقل.