من الوصاية السياسية إلى التبعية الاقتصادية
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
من الوصاية السياسية إلى التبعية الاقتصادية
السيطرة عبر الانقلابات العسكرية
عمر سيد أحمد
منذ انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958، كان الانقلاب العسكري في السودان بمثابة المدخل المضمون للنفوذ المصري. فالقاهرة وجدت في الحكم العسكري حليفًا مضمونًا يمكن التأثير عليه عبر المصالح الأمنية والمائية المشتركة، بخلاف الأنظمة المدنية التي كانت تميل إلى قدر أكبر من الاستقلال في القرار الوطني.
تكرّر هذا النمط مع دعم القاهرة لانقلاب مايو 1969 بقيادة جعفر نميري، ثم بدعمها الخفي لانقلاب 1989 الذي أوصل الجبهة الإسلامية إلى الحكم، رغم الخلاف الأيديولوجي مع النظام الجديد. وفي كل مرة، كانت النتيجة واحدة: نظام عسكري يسهُل تطويعه، وبلدٌ يُدار بسياسات تخدم الأمن المائي والاقتصادي لمصر أكثر مما تخدم مصالح شعبه.
ومع اندلاع الثورة السودانية وسقوط نظام البشير عام 2019، تدخّلت القاهرة مجددًا عبر الاتحاد الأفريقي لتمديد مهلة المجلس العسكري الانتقالي، لتضمن استمرار الحكم في يد المؤسسة العسكرية. ثم جاءت ذروة هذا المسار في انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي مثّل تتويجًا لعقودٍ من هيمنة القاهرة عبر المؤسسة العسكرية السودانية.
الهيمنة الاقتصادية وهندسة التبعية الماليةبعد عام 2021، انتقلت القاهرة من مرحلة التأثير السياسي إلى مرحلة التوظيف الاقتصادي المباشر. فقد تحوّل السودان إلى مصدر رئيسي للذهب والسلع الزراعية التي تحتاجها مصر لتغطية عجزها الغذائي والنقدي.
تشير تقارير المؤسسات المالية الأفريقية إلى أن السودان لا يجني سوى جزءٍ ضئيل من عائدات صادراته المعدنية والزراعية، بينما يُهرّب الجزء الأكبر عبر الحدود الشمالية ليُعاد تصديره من مصر بصيغةٍ رسمية تحمل قيمة مضافة لمصلحة الاقتصاد المصري.
بهذا الشكل، أصبحت العلاقة بين البلدين قائمة على نمطٍ غير متكافئ من التبادل التجاري، لا يقوم على “تكامل إنتاجي” بقدر ما يقوم على اختلالٍ في القيمة المضافة. فالسودان يزوّد مصر بمعظم المنتجات الزراعية والحيوانيّة والذهب، من ماشيةٍ حيّة، وسمسم، وصمغٍ عربي، وقطنٍ، وغيرها من المحاصيل السودانية، إلى جانب كمياتٍ متزايدة من الذهب والمعادن الخام التي تُهرَّب أو تُصدَّر رسميًا إلى الأسواق المصرية.
في المقابل، تستورد الخرطوم من القاهرة سلعًا منخفضة القيمة المضافة مثل دقيق القمح، والسكر، والمعكرونة، والصابون والمنظفات، واللدائن ومصنوعاتها، والملابس الجاهزة والمستعملة، ومواد التعبئة والتغليف.
هذا النمط من التبادل التجاري يُظهر بوضوح اختلال الميزان البنيوي في العلاقة الاقتصادية: فمصر تحصل من السودان على الموارد الأولية التي تدعم أمنها الغذائي والنقدي، بينما يُستنزف السودان في تصدير المواد الخام واستيراد منتجات استهلاكية لا تُسهم في تنمية قاعدته الإنتاجية. إنها علاقة قائمة على التبعية في اتجاهٍ واحد، تجعل من السودان موردًا للثروات ومصر مركزًا لتجميع القيمة المضافة وإعادة التصدير إلى الخارج.¹⁰
¹⁰ African Centre for Strategic Studies (ACSS), “Sudan’s Gold Networks: The Political Economy of Smuggling,” Policy Brief, June 2024;
Reuters Africa Desk, “Sudan’s War Boosts Egypt’s Gold Reserves amid Regional Smuggling,” Reuters, August 2024;
UN COMTRADE Database, “Bilateral Trade between Egypt and Sudan: 2023–2024 Data,” United Nations Statistics Division, 2025.
تستند البيانات التجارية الواردة في التحليل إلى أحدث الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة (UN COMTRADE) وتقارير المراكز البحثية الإقليمية المتخصصة في الاقتصاد السياسي والتهريب العابر للحدود.
الدور الخفي لمصر في الحرب السودانية ودعم النظام العسكريمن وراء خطابات القاهرة الظاهرة الداعية إلى «الاستقرار» و«السلام»، تشير دلائل وتحليلات متعددة إلى أن موقف مصر الرسمي اتّسم عمليًا بدعمٍ مباشر وغير معلن لهيمنة المؤسسة العسكرية السودانية، بوصفها الضامن الأمثل لمعادلةٍ إقليمية تخدم مصالحها الاستراتيجية في الأمن المائي والاقتصادي.
فقد اعتُبر قائد الجيش السوداني من أقرب الحلفاء الإقليميين للقاهرة، وهو ما انعكس في مواقف دبلوماسية وتسهيلات لوجستية وسياسية مكّنت القيادة العسكرية من التحصّن سياسيًا واقتصاديًا، في وقتٍ كانت فيه القاهرة تُقدّم نفسها علنًا كوسيطٍ «محايد» في النزاع السوداني¹.
لكنّ هذا «الحياد» المزعوم سرعان ما انكشف عبر منظومة مصالح اقتصادية وأمنية متشابكة تربط بين النخب العسكرية والمالية في البلدين، وهي ذاتها التي تمثل بقايا النظام الفاسد الذي حكم السودان في عهد الإنقاذ. إذ وجدت القاهرة في هؤلاء القادة والطفيليين شريكًا مثاليًا لنهب موارد السودان وإعادة توجيهها شمالًا عبر قنواتٍ رسمية وشبه رسمية. وتشير تقارير African Centre for Strategic Studies وSTPT إلى أن كمياتٍ ضخمة من الذهب السوداني تُهرّب سنويًا إلى مصر وتُعاد تصديرها منها كمُنتجاتٍ «مصرية المنشأ»². بهذه الصورة، تحولت العلاقة الاقتصادية بين البلدين إلى اقتصاد حربٍ طفيلي: ينهب من الجنوب الذهب والسلع الزراعية ليُعاد تصديرها من مصر، بينما يعتمد السودان على الوقود والقمح والعملات الصعبة القادمة من الشمال³.
اقتصاديًا، أعادت الحرب رسم خريطة التبعية التجارية بطريقة تُسهِم في تدفق غير متكافئ للموارد، لا سيما الذهب، الذي يُهرّب بكميات ضخمة عبر الحدود، فتستفيد منه مصر في تعزيز احتياطياتها النقدية وتخفيف أزمتها في العملة الصعبة، بينما يفقد السودان أحد أهم مصادر تمويله السيادي⁴. هذا النمط يعكس ما وصفته دراسة International Crisis Group بأنه «تواطؤ إقليمي ضمني لإبقاء الاقتصاد السوداني في حالة خضوع متواصل عبر واجهات عسكرية واقتصادية مرتبطة بشبكات الفساد الداخلي والخارجي»⁵.
المناورات السياسية ومسار الرباعية الدوليةمنذ اندلاع الحرب، سعت القاهرة إلى تقويض محادثات جدة التي ترعاها الولايات المتحدة والسعودية، بدعمٍ وتنسيقٍ من الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات)، عبر إطلاق مبادرات موازية تمنح المجلس العسكري شرعية سياسية جديدة.
استثمرت القاهرة علاقاتها داخل الاتحاد الأفريقي لتخفيف الضغوط الدبلوماسية الداعية إلى انتقالٍ مدنيٍّ شامل، وأطلقت في أكتوبر 2023 مسارًا تفاوضيًا بديلًا في أديس أبابا أتاح للعسكريين مساحة أوسع لإعادة ترتيب أوراقهم السياسية وتخفيف عزلتهم الدولية.
ومع تطور الحرب وتزايد عزلة الجيش داخليًا، عملت القاهرة على اختراق مسار الرباعية من الداخل، عبر الدفع باتجاه مقاربة “الاستقرار أولًا” بدلًا من “التحول الديمقراطي أولًا”، وهو ما يعني عمليًا إعادة تمكين قيادة الجيش وفلول النظام السابق تحت شعارات “مكافحة الإرهاب” و“الحفاظ على وحدة الدولة”.
ويأتي هذا التوجه منسجمًا مع أولويات الأمن القومي المصري في وادي النيل والبحر الأحمر، حيث ترى القاهرة أن بقاء الجيش في الحكم هو الضمانة الأهم لاستمرار نفوذها المائي والاقتصادي داخل السودان، حتى وإن تعارض ذلك مع تطلعات الشعب السوداني الذي أسقط نظام الإنقاذ عام 2019، وخرج ضد الانقلاب والحرب اللعينة التي أشعلتها النخبة العسكرية المؤدلجة ومليشيات الحركة الإسلامية ضد صنيعتها مليشيا الدعم السريع، في صراع دموي دمّر الدولة ومزّق المجتمع وفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الإقليمية.
الحرب الراهنة وإعادة تشكيل الاقتصاد السودانيمثّلت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 فرصة نادرة للقاهرة لتوسيع نفوذها الاقتصادي في السودان. ومع انهيار النظام المصرفي وتراجع سلطة الدولة، تحوّل السودان إلى مخزون مفتوح للذهب والسلع الخام التي تتدفق شمالًا عبر المعابر غير الرسمية.
وبينما استفادت مصر من الذهب السوداني لتعزيز احتياطياتها وتخفيف أزمتها النقدية، أصبح السودان يعتمد على الوقود والقمح المصري للبقاء. هكذا أعادت الحرب صياغة العلاقة التجارية بين البلدين في صورة اقتصاد حربٍ غير متكافئ: نهبٌ من الجنوب واستيرادٌ من الشمال.
حتى تجارة العملة الصعبة باتت جزءًا من هذه المنظومة؛ إذ يُباع الذهب السوداني في مصر مقابل الدولار، ثم يُعاد ضخّه في السوق السودانية عبر قنوات موازية خارج رقابة البنك المركزي.
الاقتصاد الموازي وشبكات التهريبتشكّل شبكات التهريب والاقتصاد الموازي أحد أعمدة النفوذ المصري في السودان اليوم. فهي تربط بين النخب العسكرية والاقتصادية في البلدين ضمن شبكة مصالح تتجاوز القوانين والحدود.
يُقدَّر أن السودان يخسر سنويًا مليارات الدولارات من عائدات الذهب والسلع المهربة إلى مصر. وفي المقابل، تنعكس هذه التدفقات في الميزان التجاري المصري كزيادةٍ في صادرات الذهب والصمغ العربي والسمسم، رغم أن هذه المنتجات ليست من منشأ مصري في الأصل. إنها عملية إعادة وسمٍ تجاري ممنهجة تجعل من السودان “المنتِج الصامت” الذي لا يُذكر اسمه في الأسواق الدولية، بينما يُقدَّم الاقتصاد المصري كمصدرٍ للاستقرار الإقليمي.
المياه ركيزة هيمنة تاريخيةلطالما شكّلت مياه النيل ركيزة العلاقة غير المتكافئة بين البلدين. فالقاهرة تنظر إلى السودان باعتباره امتدادًا جغرافيًا لمجالها الحيوي، لا شريكًا ندّيًا في إدارة المورد المائي المشترك. لذلك، كانت كل الأنظمة العسكرية التي تدعمها مصر في الخرطوم تلتزم بسياسات مائية تتوافق مع مصالحها في حوض النيل.
العلاقات الشعبية وأفق العلاقة النديةرغم كل ما سبق من تدخلات رسمية مصرية أضرت بالسودان، فإن العلاقات بين الشعبين تظل أعمق وأصدق من أن تختزلها سياسات الحكومات. فالتاريخ والجغرافيا نسجا بين شمال السودان وجنوب مصر روابط متينة من الجوار والمصاهرة والتبادل التجاري والثقافي.
لقد تواصل الناس عبر القرون بحرية، من دون الحاجة إلى ترتيبات فوقية أو وصاية أمنية. غير أن هذه الروابط الطبيعية لم تُترَك لتنمو على سجيتها؛ بل خنقتها الأجهزة الرسمية بتحويلها إلى ملف أمني تُديره بعقلية استعلائية ترى السودان “حديقة خلفية” أو “مخزن موارد”.
المصادر BBC Africa. “Egypt’s Role in Sudan’s Conflict: Balancing Mediation and Military Ties.” BBC Africa, May 2024. African Centre for Strategic Studies (ACSS). “Sudan’s Gold Networks: The Political Economy of Smuggling.” Policy Brief, June 2024. Reuters. “Sudan’s War Boosts Egypt’s Gold Reserves amid Regional Smuggling.” Reuters Africa Desk, August 2024. International Crisis Group. “Sudan: The War beyond Borders.” Africa Report No. 327, February 2024. Financial Times. “Cairo’s Quiet Hand in Sudan’s Power Struggle.” Financial Times, July 2024. Reuters Africa Desk. “Egypt Moves to Shape Sudan Peace Talks amid Gold Smuggling and Border Concerns.” Reuters, August 2024. BBC Africa. “Sudan’s War and the Limits of the Jeddah Process.” BBC Africa Analysis, October 2024. African Centre for Strategic Studies (ACSS). “Sudan’s Gold Networks: The Political Economy of a War Economy.” ACSS Report, April 2024. Sudan Transparency and Policy Tracker (STPT). “Regional Interests and the Entrenchment of Sudan’s Military Economy.” Policy Report, April 2025. UN COMTRADE Database. “Bilateral Trade between Egypt and Sudan: 2023–2024 Data.” United Nations Statistics Division, 2025.أكتوبر 2025
الوسومالانقلابات العسكرية الثورة السودانية الحرب الدعم السريع الذهب الرباعية الدولية السعودية السودان القاهرة المؤسسة العسكرية الهيمنة الاقتصادية انقلاب 1989 انقلاب مايو 1969 بريطانيا مصر منبر جدة
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الانقلابات العسكرية الثورة السودانية الحرب الدعم السريع الذهب الرباعية الدولية السعودية السودان القاهرة المؤسسة العسكرية الهيمنة الاقتصادية انقلاب 1989 انقلاب مايو 1969 بريطانيا مصر منبر جدة المؤسسة العسکریة بین البلدین ل السودان بینما ی التی ت
إقرأ أيضاً:
أطباء السودان: الدعم السريع اختطفت 6 من الكوادر الصحية في الفاشر
عرضت فضائية القاهرة الإخبارية خبرا عاجلا، ذكرت فيه أن شبكة أطباء السودان، أعلنت عن اختطاف ميليشيا الدعم السريع لـ 6 من الكوادر الطبية في الفاشر.
وقال محمد إبراهيم، مراسل قناة القاهرة الإخبارية في الخرطوم، إن مدينة الفاشر تشهد تطورات ميدانية خطيرة بعد سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة منها يوم السبت، حيث لا تزال المعارك مستمرة في عدد من المواقع داخل المدينة.
وأوضح المراسل، خلال مداخلة مع الإعلامي أحمد عيد، على قناة «القاهرة الإخبارية»، أن موجات النزوح من الفاشر لا تزال متواصلة رغم المخاطر الكبيرة التي تواجه المدنيين أثناء محاولاتهم الخروج من المدينة، التي تعاني حصارًا مستمرًا منذ أكثر من عام ونصف.