تتقدم الاستراتيجية الأمريكية الراهنة نحو الأمة العربية بمسارين شديدي الخطورة، سيحددان مصيرها ومصير الشرق الأوسط وجزءًا من مصير النظام الدولي لعقود عديدة قادمة.

المسار الأول يجسده المشروع الأمريكي المقدم لمجلس الأمن لتسوية الحرب في غزة، والذي يحول خطة ترامب المخيفة إلى تصفية للقضية الفلسطينية، وبقرار أممي يتمتع بالشرعية الدولية يهبط بها من قضية حق تقرير مصير وحقوق سياسية ودولة مستقلة إلى مسألة اقتصاد وتحسين أحوال معيشية.

في حال إقرار هذا المشروع ليصبح قرارًا أمميًّا سينسخ هذا القرار ترسانة القرارات الدولية التي تصون الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني على مدى ٧٨ عاما، ويعلو عليها، ويمحوها جميعا، من أول قرار التقسيم وحق العودة إلى حل الدولتين والدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو ٦٧.

هذه القرارات جعلت للشعب الفلسطيني حقوقًا غير قابلة للتصرف ومحمية بالشرعية الدولية. لكن مشروع القرار الأمريكي لا يتضمن دولة فلسطينية مستقلة ولا ترابطًا جغرافيًّا بين غزة والضفة الغربية والقدس، ويفصل غزة عن باقي الأراضي المحتلة. يضع مشروع القرار غزة تحت وصاية استعمارية تسمى مجلس السلام الدولي، وتتحول فيه حكومة التكنوقراط الفلسطينية المقترحة من جسم سياسي إلى مجرد لجنة بلدية تعمل تحت مجلس خبراء يعينه مجلس الوصاية المزعوم؛ أي أنه لا يمنح غزة حتى حكمًا ذاتيًّا.

يستولي مجلس الاستعمار الجديد على صلاحيات إعادة الإعمار ما يبقي مشروع التهجير قائمًا بصورة مستترة. والأخطر من ذلك أن المجلس الاستعماري سيحقق لإسرائيل ما فشلت فيه فشلًا ذريعًا على مدى عامين من تصفية المقاومة ونزع سلاحها؛ إذ سينشئ قوة «استقرار»!! دولية تنزع سلاح المقاومة وتدمر الأنفاق.

المخيف أن القوام الغالب لهذه القوة التي ستحارب المقاوم الفلسطيني سيكون عربيًّا وإسلاميًّا!! بعبارة أوضح يفصل المشروع القضية الفلسطينية عن الشرعية الدولية ويحول غزة محمية أمريكية في نموذج قد يكرره الأمريكيون في أي مكان في العالم العربي لاحقا!

المسار الثاني وهو استثمار مشروع القرار الأمريكي في إعادة فتح مسار التطبيع الإبراهيمي المغلق منذ طوفان الأقصى والفوز فيه بالجائزة الكبرى وهي تكسير كل القيود أمام معظم الدول الإسلامية والعربية الأخرى للتخلي عن فلسطين والانضمام للركب.

إذا تم ذلك، ستكون هذه الضربة القاضية للقضية الفلسطينية ودمج العالم العربي مع إسرائيل في حلف عسكري يخدم مصالح الولايات المتحدة، ويقبل فيه العرب بقيادة إسرائيل الإقليمية وهيمنة سلاحها الجوي على السماوات العربية وبالعيش في حالة رعب من سلاحها النووي الذي تنفرد به.

يعتمد هذا الغرور السياسي الأمريكي في أنه سيمرر المشروع وسيفرض شروطه وشروط نتنياهو على واقع مؤلم هو الانقسام والتنافس القائم بين الدول العربية، سواء بخصوص الموقف من نزع سلاح المقاومة، أو الموقف من السلطة الفلسطينية، أو من إيران وإسرائيل، وبالتالي، فإنه إذا توصل العرب لاتفاق حد أدنى تجاه المشروع الأمريكي يحمي مصالحهم وأمنهم؛ فقد يقود ذلك إلى تطبيع عربي - عربي مقبول يكبح الحروب البينية الحالية ويسيطر عليها من التدهور والانفلات الذي أصبح يسيطر على تفاعلاتها، كما تظهر ذلك أحوال الساحات في السودان وليبيا واليمن ولبنان.. الخ.

هذا التطبيع بين العرب وبعضهم بعضًا هو أولى من التطبيع الإبراهيمي وأشرف منه؛ فبينما يضيع الثاني مصائر الأمة ويجعلها تحت رحمة عدويها، يحفظ الأول الرابطة العربية ويحمي الأمن العربي، ويحفظ للأجيال المقبلة الثروات العربية من التطبيع الإبراهيمي الذي يقف خلفه المركز الرأسمالي العالمي لينهب هذه الثروات.

اللافت أنه -باستثناء دولتين قذفتا بنفسيهما في الفلك الإسرائيلي تدوران فيه بلا عودة- فإن هناك فرصة حقيقية أو نواة صلبة لبناء توافق شبه جماعي عربي تجاه ما هو قابل للتعديل، وما هو خط أحمر في المشروع الأمريكي.

هذه النواة موجودة في موقف اجتمعت عليه غالبية الفصائل الفلسطينية في القاهرة الشهر الماضي ويؤيده الضامنون الثلاثة، مصر وقطر وتركيا، بالإضافة إلى الأردن. يقوم هذا الموقف على ثلاث لاءات. لا لمجلس السلام كحكم أجنبي، وإنما مجلس يشرف فقط على جمع تمويل عملية إعادة الإعمار والحكم يكون للفلسطينيين عبر لجنة تكنوقراط فلسطينية لفترة حتى تستطيع منظمة التحرير -الممثل الشرعي والوحيد وسلطتها الوطنية- تولي المسؤولية بعد إدماج حماس والجهاد في بنية المنظمة. لا لقوة دولية تحارب المقاومة ونزع سلاحها، وإنما قوة لحفظ وقف إطلاق النار أو الهدنة ومراقبة الحدود بين غزة وإسرائيل بعد انسحاب الأخيرة من القطاع. لا لسيطرتها على تدفق المساعدات وعلى إعادة الإعمار، والالتزام بدلا عن ذلك بخطة الإعمار المقرة عربيًّا وإسلاميًّا المصممة بدقة لمنع مخطط التهجير تماما.

هذا الموقف يمكن بناء إجماع أو أغلبية عربية حوله؛ فهناك ٤ دول على الأقل في الخليج وشبه الجزيرة العربية يمكن أن تتفق معه. وهناك ٣ دول في شمال إفريقيا تتفق مواقفها من طوفان الأقصى مع هذه اللاءات.

حكومات المشرق العربي ولأسباب مختلفة تماما عن بعضها بعضًا هي أقرب لهذا الموقف وحكومة السودان التي تحتاج دعمًا مصريًّا وتركيًّا في مواجهة ميلشيات الدعم السريع ستكون كذلك مهيأة لدعم موقف القاهرة وأنقرة. والسلطة الفلسطينية تعرف أن المشروع خاضع لفيتو نتنياهو بعدم منح السلطة دورًا في غزة وتفصلها عن الضفة وعن ولاية السلطة. والأخيرة رغم صراعها المرير مع حماس قد تنضم لمنع قيام مجلس استعماري، خاصة وأن حماس أزالت عائقا كبيرا وأعلنت قبولها مطلب أن يرأس لجنة التكنوقراط في غزة وزير في السلطة. هذه الدول تشكل أغلبية مطلقة داخل أعضاء الجامعة العربية ومعهم غطاء إقليمي بموافقة الضامن التركي وعدم عرقلة متوقعة من الطرف الإيراني، ويمكن تطويره بدعم من كل أعضاء اللجنة السباعية العربية والإسلامية التي اجتمعت في إسطنبول الأسبوع الماضي.

إذا تم حشد هذا الموقف العربي - الإقليمي، فإنه يستطيع ممارسة ضغط هائل على واشنطن لتعديل المشروع، خاصة وأن وقف الحرب في الشرق الأوسط هو الإنجاز الوحيد الذي حققه ترامب في السياسة الخارجية، وقد وضع هيبة بلاده وهيبته الشخصية وطموحه في «نوبل» للسلام في كفة وعودة الحرب في غزة في الكفة الأخرى. ويعتمد ترامب على هذا الإنجاز داخليا في إصلاح تدهور شعبية الجمهوريين والذي يهددهم بخسارة الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس العام المقبل.

ينتقد كثيرون ويتساءلون: لماذا يكتفي الكتاب والمثقفون بالنقد ولا يطرحون بدائل أمام صناع القرار في النظام العربي؟

هاك بديلًا واقعيًّا، ممكنًا وليس مستحيلًا، ولا يتطلب تغييرًا في بنية النظم العربية، ولا يهدد مصالحها، بل يحميها؛ فالتطبيع السياسي العربي/العربي مهمة أولى وأشرف بكثير من التطبيع الإبراهيمي على الأقل ما دامت الدولة الفلسطينية لم تقم.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الموقف فی غزة

إقرأ أيضاً:

انضمام كازاخستان للاتفاق الإبراهيمي مكافئة للاحتلال على جرائمه

غزة - صفا

قالت لجان المقاومة في فلسطين إن إعلان كازاخستان إنضمامها إلى الاتفاق الابراهيمي وتعزيز علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي تأتي بمثابة مكافئة للاحتلال وقادته على حرب الابادة التي تعرض لها شعبنا .

وأكدت اللجان في بيان لها، الجمعة، أن "انضمام كازاخستان للإتفاق الابراهيمي بعد عامين من التطهير العرقي والمذابح والمجاز والتدمير محاولة لغسل أيدي القتلة والمجرمين الصهاينة من الدم الفلسطيني المراق وتعبير عن إنحطاط أخلاقي وقيمي لا مثيل له".

ودعت اللجان كازاخستان للتراجع الفوري عن هذه الخطوة الغير مقبولة والغير مفهومة في ظل تصاعد العزلة والمقاطعة للكيان الصهيوني وقادته المجرمين المطلوبين للمحاكم الدولية كمجرمي حرب.

واعتبرت أن أي خطوة تطبيعية مع الاحتلال بمثابة طعنة غادرة في ظهر الشعب الفلسطيني وإستهتار بدماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحي الذين قُتلوا بفعل آلة الإجرام الصهيونية المدعومة من الإدارة الأمريكية .

مقالات مشابهة

  • أحمد موسى: توقعت فوز الأهلي 2-0.. وزيزو وبن شرقي قدموا بداية قوية مع الفريق
  • رئيس الوزراء يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمشروع مدينة رأس الحكمة
  • المؤتمر القومي العربي من بيروت: التحديات المصيرية ودعم المقاومة في صلب النقاشات
  • الدور الشعبي في تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية
  • انضمام كازاخستان للاتفاق الإبراهيمي مكافئة للاحتلال على جرائمه
  • حماس تعلق على انضمام كازاخستان إلى "الاتفاق الإبراهيمي"
  • برلمانية: اتفاقية الشراكة المصرية القطرية في علم الروم نموذج للتعاون العربي
  • باحثون ونقاد: انعطافات القصيدة العربية انعكاس لتطوّر الإنسان العربي وثقافته
  • إبراهيم سعيد يسخر: عدي الدبّاع وأشرف داري جايين يتعالجوا في مصر