تحريكُ أميركا لأساطيلها البحريّة والجويّة لمساندة إسرائيل لم يأتِ فقط بهدف ردعِ حركة "حماس" فحسب، بل الأمرُ يتعدّى ذلك ويرتبطُ بحسابات أميركيّة داخلية من جهة، وبحساباتٍ أميركيّة في الشرق الأوسط من جهةٍ أخرى.
من أجل معرفة ما يرتبطُ بالنوع الأول من الحسابات المذكورة (أي الأميركية الداخلية)، يمكن النظرُ قليلاً إلى ما ينتظرُ أميركا قريباً من إستحقاقات.

هنا، يجب التطلُّع إلى الإنتخابات الرئاسية التي ستحصلُ هناك العام المُقبل، حيثُ ستكون هناك "منازلة قوية" بين مرشحين يطمحون لإزاحة الرئيس الأميركي جو بايدن جانباً، وأبرزهم الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب. من الآن، يستعدُّ بايدن لخوض معركتِه، وهذا الأمر يتطلّبُ تمكيناً لنفسه في الداخل والخارج وتحديداً مع إسرائيل. هنا، فان الحفاظُ على "الكيان المُصطنع" في فلسطين المحتلة أمرٌ مطلوبٌ بشدّة بالنسبة لبايدن، والأساس في هذا الأمر هو إظهار أنّ إدارته قادرة على حماية حلفائها الأساسيين ومنع إنهيارهم. أما النقطة الأهم فترتبطُ بخسارة إسرائيل وهزيمتها، فإن حصل هذا السيناريو، عندها ستكون أميركا قد مُنيت بالضربة القاضية.  لهذا السبب الأساسي المرتبط بالحسابات الأميركية  الداخلية، يُمكن إستشراف ما قد يحصلُ في قطاع غزة قريباً. الآن، ورغم دعمها المُطلق لإسرائيل لمعاقبة "حماس" بعد العملية التي نفذتها الأخيرة الأسبوع الماضي، تسعى أميركا إلى "دوزنة أوتار الوضع" عن طريق تخفيف التوتر من جهة، وتأخير أي خُطوة قد تُساهم في إغراق إسرائيل أكثر في وحول "حماس". الأمرُ هنا ينطبق على تأخير العملية العسكريّة البرية ضدّ القطاع، فالخطوةُ هذه ستكون مقتلاً كبيراً للإسرائيليين لسببين: الأول وهو أنّ بُنية كتائب "القسام" (الجناح العسكري لحماس) ما زالت صامدة وعلى حالها رغم القصف المستمر منذ أسبوع. ميدانياً، لو تضرّرت قاعدة "حماس" العسكرية، لكانت إسرائيل تراجعت عن تصعيد خطواتها، لكنّ الحقيقة تشيرُ إلى أنّ الحركة الفلسطينية ما زالت مُتماسكة عسكرياً، ولهذا السبب تريدُ إسرائيل تكثيف الضربات لإضعافها.   السبب الثاني الذي يدفع لإعتبار العملية البرية بمثابةِ "ضربة قاضية" لإسرائيل هو أنَّ "حماس" لن تُقاتل إلا بأسلوب "حرب العصابات" الذي يُساهم بإستنزاف أي جيش نظاميّ ضخم. التجربة على هذا الصعيد معروفة وليست بعيدة عن أذهان الرّأي العام لاسيما في لبنان وتحديداً خلال حرب تمُّوز 2006. حينها، خاض "حزب الله" معركته وفق تكتيك "حرب العصابات"، الأمر الذي أرهقَ إسرائيل ميدانياً وجعلها تخسرُ الكثير من آلياتها وقدراتها العسكرية البريّة.   في ما خصّ الحسابات الأميركيَّة في الشرق الأوسط، فإنها ترتبطُ حُكماً بمصالح واشنطن في المنطقة، كما أنها تتصلُ أيضاً بالنفوذ السياسي. على صعيد النقطة الأولى، فإنّ ما يهُمّ أميركا الآن هو الحفاظ على إسرائيل كونها تُعتبر "حارس البوابة" الخاص بها، كما أن الأخيرة تُعتبر مرتع إستثمارٍ أساسي لها في منطقة حيوية، ومن خلالها يمكن أن تحظى أميركا بنفوذٍ وثروات أبرزها تلك المرتبطة بالغاز، وهنا يكمن بيتُ القصيد. حالياً، تُعتبر إسرائيل ملجأ الغرب الأساسيّ على صعيد الطاقة، وبالتالي يمكن أن تؤدي أيّ خضة في هذا الإطار إلى إنكسار أميركا والغرب في ظلّ حرب الغاز التي أُطلقت إبان إندلاع حرب روسيا ضدّ أوكرانيا. كذلك، من مصلحة أميركا إرساء توازنٍ مقبول في الشرق الأوسط وعدم إخافة الدّول الكبرى فيه أكثر من اللازم. هنا، لا يمكن لواشنطن أن تستعدي العرب كثيراً خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية لأن لديها مصالح مع مختلف الدول هنا، وآخر مثال على ذلك هو قرار السعودية إيقاف كل المحادثات المدعومة أميركياً بشأن التطبيع مع إسرائيل، وذلك كوسيلة ضغط للحفاظ على القضية الفلسطينية ووقف إبادة غزة التي قد تحصلُ فعلياً بواسطة آلة الحرب الإسرائيلية المسنودة من الأميركيين. أمام هذه المشهدية، يستوجبُ إنتظار ما ستؤول إليه الأحداث.. ولأنّ المصالح تتقاطع، يُمكن أن تكون عملية "طوفان الأقصى" مقدمة لتسوية كبرى قد تساهم في إنصاف "حماس" من جهة، لكنها ستساهم في كسر إسرائيل أيضاً من جهة أخرى وتحديداً بعدما باتت هيبتها العسكرية والإستخباراتية ملطّخة بإخفاقاتٍ ضخمة وتاريخيّة.

المصدر: لبنان 24

المصدر: لبنان ٢٤

كلمات دلالية: من جهة

إقرأ أيضاً:

المواجهة بين إسرائيل وإيران ولحظة الحقيقة

صباح الثالث عشر من يونيو 2025 الذي شنت فيه القوات الإسرائيلية هجوما مباغتا على إيران دمرت فيه عدة مفاعلات نووية، واغتالت أكبر القادة العسكريين الإيرانيين، سيخلد في التاريخ العسكري بأنه نسخة مماثلة لصباح السادس من ديسمبر عام 1941 حين شنت قوات البحرية الإمبراطورية اليابانية هجوما ساحقا ضد الأسطول الأمريكي في ميناء بيرل هاربر بجزيرة أواهو في هاواي الأمريكية، والذي أدى إلى دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية في اليوم التالي.

لقد أدى الهجوم الإسرائيلي المباغت إلى بداية الحرب المنتظرة من أكثر من أربعين عاما بين أكبر قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط، الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى نتائج جيوسياسية هائلة على المستوى القريب والبعيد، ومع أن الكثير من المحللين كان يرى استحالة تصادم هاتين القوتين لما قد يسفر عنها الصدام من تبعات تتجاوز منطقة الشرق الأوسط لارتباط كلا القوتين الإقليميتين بشراكات سياسية واقتصادية وعسكرية مع كل من الصين وروسيا بالنسبة لإيران والناتو وأمريكا بالنسبة لإسرائيل، إلا أن بدء الحرب يجعلنا نعيش في عالم الاستحالة، بكل ما فيه من دمار وأشلاء ونتائج وآثار.

لقد استطاعت إسرائيل في موجة ضرباتها الأولى القضاء على أهم القادة العسكريين وعلماء الذرة الإيرانيين، كما تمكنت من ضرب مفاعل نطنز وفودور اللذين يعتقد أنهما المفاعلان الأخطر في برنامج التسلح النووي الذي تتهم إسرائيلُ إيرانَ بتطويره، كما أثبتت إسرائيل تفوقها الاستخباراتي وقدرتها على اختراق الداخل الإيراني، وتجنيد جيوش من العملاء، ما يفرض تساؤلا حول طبيعة النظام في إيران، ودفعه لشرائح متعددة في المجتمع تشعر بالتهميش والظلم للقبول بخيار العمالة وتدمير الذات. بيد أن الهجمات الإسرائيلية التالية تحولت في أغلبها نحو الأهداف المدنية الرخوة، مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون وحقول إنتاج الغاز، ومخازن الوقود، والجسور وغيرها، ما يكشف أن إسرائيل لم يكن لديها تصور حول خوض حرب طويلة مع إيران، وأن هدفها الذي خططت حوله كل جهدها الحربي، إنما يتمثل في تدمير القدرات النووية الإيرانية، أما ما وراء ذلك، فهي لا تملك سوى اتباع استجابتها الغريزية للهجمات الإيرانية الصاروخية.

إيران من جهتها عاشت ذات لحظة الصدمة التي عاشتها أمريكا ساعة هجوم بيرل هاربر، فقد احتاجت إلى أكثر من اثنتي عشرة ساعة لاستجماع قواها، وتقدير الموقف، وتقييم نتائج الحدث، وإعداد خطة أولية لإدارة اللحظة، وقد تمثلت في هجوم بأسراب طائرات انتحارية تلاها إرسال أسطول من الصواريخ البالستية والفرط صوتية، ولكن دون وجهة محددة، ولا هوية أهداف استراتيجية واضحة، الأمر الذي تحسن في الأيام التالية التي ابتدأت فيها الأهداف أكثر وضوحا، حيث قامت باستهداف مبنى وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومعهد وايزمان لتطوير الأسلحة الحربية، ومركز الموساد.

بالتأكيد أن إيران تدرك تخلفها التقني أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة غربيا، كما أنها تعاني من عدم جدية حلفائها الصين وروسيا في تقديم تقنيات عسكرية تجعلها قادرة على مواجهة التهديد الإسرائيلي، فروسيا تملصت أكثر من مرة من وعود توفير بطاريات الدفاع الجوي أس 400 القادرة على التصدي للطائرات الشبحية، كما رفضت الصين عام 2022 توفير طائراتها الحديثة جي 10سي لإيران بسبب خلاف في طريقة الدفع، الأمر الذي وفر تفوقا إسرائيليا غير محدود في التحكم بالأجواء.

إلا أن قوة إيران الحقيقة تتمثل في تضاريسها المتنوعة وكثرة جبالها التي تعتبر مصدات طبيعية لأذكى الصواريخ، فضلا عن قدرة إيران إخفاء مخازنها العسكرية ومصانعها الحربية داخل الجبال، وبين شعاب الوديان السحيقة، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة، أو بالأحرى استحالة القضاء على القدرات العسكرية الإيرانية من خلال الهجمات الجوية فحسب، وهو ما تدركه إسرائيل تماما التي لم تستطع طائراتها والطائرات الأمريكية إيقاف الهجمات الصاروخية اليمنية عليها، وكل حديث عن تدمير منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية إنما يدخل في الحرب الإعلامية لتهدئة الرأي العام الإسرائيلي.

عكس إسرائيل الفقيرة طبيعيا والتي تعتمد في ميزانيتها على الدعم الأمريكي والغربي، تمتلك إيران ثروات طبيعية هائلة من نفط وغاز ومعادن، بالإضافة إلى ثروات مالية كبيرة يتم استثمارها محليا وفي الأسواق المجاورة، وهي قادرة على تغطية أعباء حرب طويلة الأمد، الأمر الذي يكشف سر الهدوء الاستراتيجي الذي تتعامل به إيران أمام التهور العسكري الإسرائيلي التخريبي، فإيران تريد أن تجر إسرائيل إلى حرب مزمنة، لأنها تدرك بأن الغرب يخشى الحروب الطويلة التي تذكره بآلام الحرب العالمية الثانية، وتجارب فيتنام والعراق وأفغانستان التي تورطت فيها أمريكا، لذلك فإن محاولة توجيه دفة المواجهة نحو صراع طويل الأمد سيمكن إيران من الانفراد بإسرائيل، كما سيتيح لها محاولة استنهاض القوى المتحالفة معها في المنطقة، والتي لن تستطيع أن تفر من قدر الاصطفاف مع إيران، إذا ما تدخلت جهات أخرى لدعم إسرائيل.

نحن إذن أمام لحظة الحقيقة بين أقوى منظومتين عسكريتين في الشرق الأوسط، فإذا ما استطاعت إسرائيل تدمير المفاعلات النووية الإيرانية بشكل كلي، أو إذا ما استطاعت توريط الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا للاشتراك معها في هذه المغامرة غير المحسوبة العواقب، فإنها تكون قد حققت بلا شك جزءا كبيرا من أهدافها، والعالم سيدخل بالتالي في مرحلة عدم استقرار اقتصادي نتيجة المواجهة الحتمية في منطقة الخليج العربي، حيث سيتسع بنك أهداف القوات الإيرانية ليشمل القواعد الغربية في الخليج، وربما مهاجمة المدن الخليجية التي توجد فيها تلك القواعد.

أما إن استطاعت إيران التحكم برتم المواجهة، وظلت ترسل رشقات صاروخية صغيرة ومركزة على إسرائيل بشكل يبدو أبديا، دون انجرار وراء رغبات الشارع الإيراني والعربي بتدمير إسرائيل، فإنها بالتالي ستقوم بتجريد الولايات المتحدة والغرب من ذرائع الاشتراك المباشر في الحرب، فإن هذه الحرب الأبدية مع إيران التاريخ والجغرافيا والإنسان سيضع إسرائيل أمام الحقيقة الوجودية التي تحاول الهروب منها، وأنها كيان دموي ومارق، ولا يحترم القوانين الدولية، وأن شعوب العالم الغربي وحكوماته باتت غير قادرة على التستر على جرائمه ومساعدته في مغامراته الوحشية، إضافة إلى أن هذا العري الفاضح للكيان الصهيوني سيفقده البريق الذي كان يظهر به، باعتباره الابن المدلل للبيت الأبيض وأوروبا، الأمر الذي سيكبح جماح عربة التطبيع التي كانت تتوسل إلى الغرب من خلال ابنتها المدللة إسرائيل.

إسرائيل بعد هذه الحرب ستكون أمام لحظة الحقيقة، فهي دولة مارقة ومرفوضة، لا من قبل جوارها فحسب، بل وحتى من قبل الغرب الذي كان اختلقها ليجعلها مردما للخلاص من مواطنيه اليهود، أما إيران فإنها أمام حقيقة وجودية أخرى، وهي أن جميع منجزاتها المدنية والعسكرية يمكن أن تنهار ما لم تؤسس على العدالة الاجتماعية واحتواء كافة أطياف الشعب، وما ظاهرة العملاء والاختراق الاستخباراتي الذي تعاني منه سوى نتيجة لطبيعة النظام الذي تختلط فيه القوى الدينية مع القوى التجارية والسياسية.

مقالات مشابهة

  • المواجهة بين إسرائيل وإيران ولحظة الحقيقة
  • الرئيس المشاط لأهالي غزة: نصر من الله سيأتي قريبا
  • دون أميركا.. كم يوما يمكن أن تصمد إسرائيل أمام إيران؟
  • إسرائيل تأمل بانضمام الولايات المتحدة للحرب قريباً والقيام بهذا الأمر
  • حماقة.. أسلوب رد إيران على تهديد ترامب بـقتل خامنئي يشعل ضجة
  • "حماس" تحذر من "تورط" أميركا عسكريا في الحرب ضد إيران
  • حماس تحذر أميركا من خطورة التورط في العدوان على إيران
  • محمد عبد الجواد يكتب: وضاقت عليهم الأرض بما رحبت !!
  • على غرار ما حصل في بيروت.. هذا ما ستشهده إيران خلال ساعات
  • خبراء: إيران قد تستعين بحلفائها وإسرائيل تسعى إلى جر أميركا للحرب