دولة أنشأتها حركة استعمارية.. لماذا تمحو إسرائيل سياق وتاريخ الحرب على غزة؟
تاريخ النشر: 2nd, December 2023 GMT
يرى المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابيه أن نزع الطابع التاريخي عن سياق الحرب على غزة يساعد إسرائيل على مواصلة سياسات الإبادة الجماعية في القطاع المحاصر.
وينتمي بابيه -مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستر- لما يسمى "مدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد" إلى جانب مفكرين مثل بني موريس الذي تناول "سياسة الترنسفير" (التهجير الجماعي)، وزئيف ستيرنهيل الذي يناقش دعاوى إسرائيل الليبيرالية والديمقراطية، وآفي شلايم الذي يؤرخ للاستيطان والمقاومة قبل النكبة 1948، وتوم سيغيف الذي درس عنصرية وبشاعة المستوطنين الإسرائيليين الأوائل، وغيرهم.
وكتب بابيه في مقاله للجزيرة أن إسرائيل تطالب بتوسيع تعريف معاداة السامية ليشمل انتقاد الدولة الإسرائيلية والتشكيك في الأساس الأخلاقي للصهيونية، ويضيف الأكاديمي -الذي ترك التدريس في جامعة حيفا عام 2006 بسبب آرائه- أن نزع الطابع التاريخي عن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي يساعد إسرائيل والحكومات في الغرب في تنفيذ السياسات التي تجنبتها في الماضي إما لاعتبارات أخلاقية أو تكتيكية أو إستراتيجية.
وهكذا، فإن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول تستخدمه إسرائيل كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في قطاع غزة، كما يقول الكاتب، وهي أيضًا ذريعة للولايات المتحدة لمحاولة إعادة تأكيد وجودها في الشرق الأوسط، وهي أيضا ذريعة لبعض الدول الأوروبية لانتهاك الحريات الديمقراطية والحد منها باسم "الحرب على الإرهاب" الجديدة.
لكن هناك العديد من السياقات التاريخية لما يجري الآن في إسرائيل وفلسطين التي لا يمكن تجاهلها، بحسب بابيه، إذ يعود السياق التاريخي الأوسع إلى منتصف القرن الـ19، عندما حولت "المسيحية الإنجيلية" في الغرب فكرة "عودة اليهود" إلى "ضرورة دينية ألفية ودعت إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين كجزء من الخطوات، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى قيامة الأموات، وعودة المسيح، ونهاية الزمان".
"اللاهوت السياسي"ويعتبر بابيه أن "اللاهوت" (أو استخدام الدين سياسيا) أصبح سياسة متبعة منذ نهاية القرن الـ19 وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى لسببين:
أولا، لصالح البريطانيين الذين رغبوا في تفكيك الإمبراطورية العثمانية ودمج أجزاء منها في الإمبراطورية البريطانية. ثانيا، لاقت هذه الفكرة صدى لدى الطبقة الأرستقراطية البريطانية، من اليهود والمسيحيين على حد سواء، الذين أصبحوا مفتونين بفكرة الصهيونية باعتبارها الدواء الشافي لمشكلة معاداة السامية في أوروبا الوسطى والشرقية، التي أنتجت موجة غير مرحب بها من الهجرة اليهودية إلى أوروبا وبريطانيا.وعندما اتحدت هاتان المصلحتان معا، دفعتا الحكومة البريطانية إلى إصدار وعد بلفور الشهير "سيئ السمعة" في عام 1917، كما يقول صاحب كتاب "عشر خرافات عن إسرائيل" (2017).
اليهودية كقوميةكان المفكرون والناشطون اليهود الذين أعادوا تعريف اليهودية كقومية يأملون أن يؤدي هذا التعريف إلى حماية المجتمعات اليهودية من الخطر الوجودي في أوروبا من خلال التركيز على فلسطين باعتبارها المساحة المطلوبة "لولادة الأمة اليهودية من جديد".
وفي هذه العملية، تحول المشروع الصهيوني الثقافي والفكري إلى مشروع "استعماري استيطاني يهدف إلى تهويد فلسطين التاريخية"، متجاهلا حقيقة أنها كانت مأهولة بالسكان الأصليين، كما يقول صاحب كتاب "الفلسطينيون المنسيون: تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل" (جامعة ييل 2011).
وفي المقابل، أنتج المجتمع الفلسطيني، الذي كان مجتمعا رعويًا تمامًا في ذلك الوقت وفي مرحلته الأولى من التحديث وبناء الهوية الوطنية، حركته المناهضة للاستعمار، وكان أول تحرك كبير لها ضد المشروع الاستعماري الصهيوني هو انتفاضة البراق عام 1929، ولم تتوقف منذ ذلك الحين.
سياق تاريخي آخر ذو صلة بالأزمة الحالية هو التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين عام 1948، إذ شمل الطرد القسري للفلسطينيين إلى قطاع غزة من القرى التي بنيت على أنقاضها بعض المستوطنات الإسرائيلية (وهي نفس المناطق التي جرى مهاجمتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول) وكان هؤلاء الفلسطينيون المقتلعون من أرضهم جزءا من 750 ألف فلسطيني فقدوا منازلهم وأصبحوا لاجئين.
وكتب بابيه قائلا "لاحظ العالم التطهير العرقي في 1948، لكنه لم يدنه، ونتيجة لذلك، واصلت إسرائيل اللجوء إلى التطهير العرقي كجزء من جهودها لضمان سيطرتها الكاملة على فلسطين التاريخية مع بقاء أقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين الأصليين. وشمل ذلك طرد 300 ألف فلسطيني أثناء وبعد حرب عام 1967، وطرد أكثر من 600 ألف من الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة منذ ذلك الحين".
الاحتلال والأصوليةوهناك أيضا سياق الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، فعلى مدار الخمسين عاما الماضية، فرضت قوات الاحتلال عقابًا جماعيًا مستمرًا على الفلسطينيين في هذه الأراضي، مما عرضهم للمضايقات المستمرة من قبل المستوطنين الإسرائيليين وقوات الأمن الإسرائيلية وسجن مئات الآلاف منهم، وفقا لبابيه مؤلف كتاب "بيروقراطية الشر: تاريخ الاحتلال الإسرائيلي" (أوكسفورد 2012).
ويقول الكاتب إنه منذ انتخاب الحكومة الإسرائيلية "الأصولية المسيحانية" الحالية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وصلت كل هذه "السياسات القاسية" إلى مستويات غير مسبوقة، حيث ارتفع عدد الفلسطينيين الذين قتلوا وجرحوا واعتقلوا في الضفة الغربية المحتلة بشكل كبير. علاوة على ذلك، أصبحت سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس أكثر عدوانية.
وأخيرا، هناك أيضا السياق التاريخي للحصار المستمر منذ 16 عاما على غزة، حيث ما يقرب من نصف السكان هم من الأطفال. وفي عام 2018، حذرت الأمم المتحدة بالفعل من أن قطاع غزة سيصبح مكانًا غير صالح للبشر بحلول عام 2020.
وينوه بابيه إلى أنه من المهم تذكر أن الحصار فُرض ردًا على "الانتخابات الديمقراطية التي فازت بها حماس بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة"، والأهم من ذلك هو تذكر حقبة التسعينيات، عندما تم تطويق قطاع غزة بالأسلاك الشائكة وجرى فصله عن الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية في أعقاب اتفاقيات أوسلو.
وكانت عزلة غزة، والسياج المحيط بها، والتهويد المتزايد للضفة الغربية، بمثابة إشارة واضحة إلى أن اتفاق أوسلو (1993) في نظر الإسرائيليين كان يعني احتلالا بوسائل أخرى، وليس طريقا إلى سلام حقيقي، كما يخلص المؤرخ الإسرائيلي.
وسيطرت إسرائيل على نقاط الخروج والدخول إلى الحي اليهودي في غزة، وكانت تراقب حتى نوع الطعام الذي يدخل، وفي بعض الأحيان كانت تقتصر على عدد محدد من السعرات الحرارية. وردت حماس على هذا الحصار المنهك بإطلاق الصواريخ على المناطق المدنية في إسرائيل، بحسب الكاتب.
وزعمت الحكومة الإسرائيلية أن الدافع وراء هجمات حماس هو "الرغبة الأيديولوجية للحركة الفلسطينية في قتل اليهود، واعتبرته شكلا جديدا من أشكال النازية متجاهلة سياق النكبة والحصار اللاإنساني والهمجي المفروض على مليوني شخص والقمع الذي تعرض له الفلسطينيون في أجزاء مختلفة من فلسطين التاريخية".
وكانت حماس، من نواحٍ عديدة، المجموعة الفلسطينية الوحيدة التي وعدت بالانتقام أو الرد على هذه السياسات. ومع ذلك، فإن الطريقة التي قررت بها الرد قد تؤدي إلى زوالها، على الأقل في قطاع غزة، وقد توفر أيضًا ذريعة لمزيد من القمع للشعب الفلسطيني، بحسب بابيه.
ويقول المؤرخ -الذي ولد في حيفا ويقيم في بريطانيا حاليا- أنه لا يمكن تبرير "وحشية الهجوم بأي شكل من الأشكال، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تفسيره ووضعه في سياقه، وبقدر ما كان الأمر مروعا، فإن الجزء السيء هو أنه لا يشكل حدثا يغير قواعد اللعبة، على الرغم من التكلفة البشرية الهائلة على كلا الجانبين" بحسب وصفه، ويتساءل: ماذا يعني هذا للمستقبل؟.
ويجيب بابيه سؤاله قائلا "ستبقى إسرائيل دولة أنشأتها حركة استعمارية استيطانية، وسيستمر ذلك العامل في حمضها النووي السياسي كمحدد لطبيعتها الأيديولوجية. وهذا يعني أنه على الرغم من تصويرها لنفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فإنها ستبقى ديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط".
الصراع الداخلي في إسرائيليقول بابيه إن الصراع داخل إسرائيل بين ما يمكن أن نسميه "دولة يهوذا" أي دولة المستوطنين التي ترغب في أن تكون إسرائيل أكثر تدينا وثيوقراطية وعنصرية، وبين "دولة تل أبيب" (الأكثر علمانية) والراغبة في الحفاظ على الوضع الراهن سوف يندلع مرة أخرى، وهناك بالفعل علامات على عودتها.
وفي حديثه السابق للجزيرة اعتبر بابيه أن هاتين الدولتين (نموذج "دولة يهوذا"، ونموذج "دولة تل أبيب") ليستا ديمقراطيتين عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، بينما الديمقراطية الممكنة في حالة "دولة إسرائيل" تكون فقط بالنسبة لليهود وليس تجاه الفلسطينيين.
ويؤكد بابيه أن "إسرائيل ستظل دولة فصل عنصري -كما يؤكد عدد من منظمات حقوق الإنسان- مهما كانت تطورات الوضع في غزة"، بالمقابل، لن يختفي الفلسطينيون وسيواصلون نضالهم من أجل التحرر".
ويختم أن المخرج الممكن هو تغيير النظام في إسرائيل ليوفر حقوقا متساوية للجميع من النهر إلى البحر، ويسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإلا فإن دائرة سفك الدماء لن تنتهي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی إسرائیل قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
تايمز: سجون إسرائيل تصنع جيلا من قادة حركة حماس
كشف تقرير لصحيفة تايمز البريطانية أن السجون الإسرائيلية لعبت دورا محوريا في صقل وتكوين جيل من قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أبرزهم يحيى السنوار، مهندس هجمات الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأفادت الصحيفة في تقرير لمراسلها في واشنطن جورج غريلز أن السنوار، الذي قضى أكثر من 20 عاما في الأسر قبل الإفراج عنه عام 2011 ضمن صفقة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، خرج من سجن "هداريم" مسلحا بمعرفة عميقة بخصمه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نيوزويك: ارتفاع غير مسبوق لفرص فوز ممداني بانتخابات بلدية نيويوركlist 2 of 2كاتب إسرائيلي: نتنياهو جعل من الوقاحة فضيلة فانزلوا إلى الشوارعend of listلكن السنوار رأى أن الصفقة ناقصة لأنها لم تشمل حسن سلامة ومحمود عيسى. وفي حين بقي سلامة في السجن، أُفرج عن عيسى مؤخرا بعد عقود من الاعتقال.
وفي السجن، تعلّم السنوار اللغة العبرية، ودرس التاريخ اليهودي، وترجم إلى العربية كتبا لضباط استخبارات إسرائيليين، وكتب رواية عن الجهاد من أنفاق غزة، بحسب الصحيفة.
ونقل غريلز عن مسؤولي أمن إسرائيليين القول إنه خطط لهجوم الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول من داخل السجن نفسه الذي كان يُعرف بين المعتقلين باسم "جامعة هداريم".
وأشار المراسل إلى أن إسرائيل لطالما انتهجت، منذ تأسيسها عام 1948، نهج الصفقات غير المتكافئة لتبادل الأسرى، مستندة إلى مبدأ توراتي يقدّس الحفاظ على الحياة، مما جعل اختطاف الإسرائيليين ورقة ضغط فعّالة بيد الفصائل الفلسطينية.
غير أن صفقة شاليط التي أُفرج بموجبها عن أكثر من ألف أسير فلسطيني أصبحت، بحسب مسؤولين إسرائيليين، "كارثة أمنية" أسهمت في إعادة بناء القيادة العسكرية لحماس.
وأورد تقرير الصحيفة تجارب مشابهة طالت قيادات أخرى، مثل الشيخ أحمد ياسين وإسماعيل هنية، اللذين صعدا بعد الإفراج عنهما إلى قمة هرم الحركة.
واليوم، تخشى إسرائيل -كما يقول غريلز- تكرار الخطأ نفسه، فاحتفظت بأسماء بارزة مثل مروان البرغوثي وعباس السيد خلف القضبان، في حين شددت إسرائيل ظروف الاعتقال وألغت امتيازات التعليم والثقافة داخل السجون.
وترى أن هذه السياسات الصارمة جاءت بثمن إنساني باهظ، إذ رصدت تقارير أممية ومنظمات حقوقية، منها "بتسيلم"، حالات تعذيب واعتداءات جنسية داخل السجون منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، في حين تنفي إسرائيل الانتهاكات وتؤكد أنها تلتزم "بحدود القانون الدولي لا أكثر".
إعلانونقلت التايمز عن الدكتور يوآف بيتون، الرئيس السابق لجهاز استخبارات مصلحة السجون الإسرائيلية، أنه يرى أن إطلاق سراح مئات السجناء في صفقة الهدنة الحالية "ثمن مرتفع لا مفر منه"، لكنه يحذّر من خطأ ترحيل بعضهم إلى الخارج، لأن مراقبتهم تصبح مستحيلة.
السجون التي أرادت إسرائيل أن تكون وسيلة للردع تحولت، عبر التعليم والاحتكاك والتجربة، إلى حواضن لتكوين قادة حماس الأكثر تأثيرا وصلابة: جيل خرج من خلف القضبان ليتقن لغة عدوه، ويفهمه، ثم يواجهه بما تعلمه هناك
وذكرت الصحيفة أن تل أبيب أفرجت في صفقة الهدنة الأخيرة عن 1,700 معتقل فلسطيني و250 أسيرا محكومين بالمؤبد، بينهم 157 من حركة فتح و65 من حماس، ورُحِّل 154 منهم إلى الخارج عبر مصر وقطر وتركيا.
وقالت إن مسؤولين سابقين حذروا من أن المفرج عنهم قد يعيدون تنظيم صفوفهم بعيدا عن الرقابة الإسرائيلية، كما حدث مع صالح العاروري، الذي أُفرج عنه عام 2007 ليصبح لاحقا قائد حماس في الضفة الغربية وأحد مهندسي هجمات أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتوصلت الصحيفة إلى مفارقة لافتة، مفادها أن السجون التي أرادت إسرائيل أن تكون وسيلة للردع تحولت، عبر التعليم والاحتكاك والتجربة، إلى حواضن لتكوين قادة حماس الأكثر تأثيرا وصلابة: جيل خرج من خلف القضبان ليتقن لغة عدوه، ويفهمه، ثم يواجهه بما تعلمه هناك.