توثيق المأساة والمنفى.. شظايا من غزة
تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT
قبل تسعة أشهر من 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت أتعلم التصوير الفوتوغرافي بتوجيه من صديقي محمود أبو سلامة، الذي يمتلك كاميرا "كانون"، كان يسمح لي باستخدامها كلما كان لا يحتاج إليها، وكان ذلك يشعرني بأنني تلقيت هدية ثمينة.
أحببت التقاط اللحظات، لكن لأني أنشد الكمال، تردّدت في استخدام الكاميرا حتى شعرت بأنني ماهرة بما يكفي.
لم يستطع محمود دائمًا إقراضي كاميرته، ولم يكن لدي المال لامتلاك واحدة، لذلك قررت الحصول على كاميرا لوميكس كحل مؤقت حتى أتمكن من شراء كاميرا أفضل. مع لوميكس، اكتشفت أن الأنماط الحلزونية تجذب انتباه الناس.
بعد شهر واحد فقط من رحلتي في التصوير الفوتوغرافي، حصلت على منحة من مؤسسة "إيراسموس" للدراسة لمدة فصل دراسي واحد في إسبانيا كطالبة تبادل ثقافي من قسم الأدب الإنجليزي في جامعتي، الأقصى.
سافرت في 27 يناير/كانون الثاني 2023. وهناك، تعلمت أنّ دمج عنصر بشري يجعل الصور أكثر إقناعًا وأن أفضل الصور هي التي تحكي قصة.
في إسبانيا، فقدت اللوميكس، فشعرت بالإحباط. أعتقدت أنني تركتها في مكان ما، وعندما عدت للبحث عنها، تبينت أنها قد سُرقت. كانت تلك الكاميرا تحوي الكثير من الذكريات التي ربطتني بغزة. ومع ذلك، أدركت أنه إذا كانت الكاميرات تحفظ بعض اللحظات، فإننا نتمتع بقدرة على حفظ أهم الذكريات بداخلنا. بالنسبة لي، تلك هي ذكريات بيتي الحبيب في غزة.
في أغسطس/آب 2023، عدت إلى غزة. بحلول ذلك الوقت، كنت قد بنيت شبكة قوية من العلاقات. اعترف كثيرون بعملي مع المنظمات غير الحكومية، وأصبحت فرص العمل مفتوحة وسهلة رغم درجاتي المنخفضة، والتي تأثرت بتحديات وباء كورونا والانفصال غير المتوقّع لوالدي.
أصبحتُ مستقرة ماليًا، واستطعت دفع تكاليف تعليمي ودعم عائلتي. شعرت والدتي، المثقلة بالديون، بالارتياح عندما استطعت المساعدة. تحسّنت علاقتنا قليلًا، وشعرت بالفخر بإنجازاتي.
بدا كل شيء مستقرًا، وكنت أستعدّ لشراء كاميرا "كانون" و"غيتار"، وأخيرًا تمكنت من الانغماس في شغفي.
كنت أرغب في توثيق ما فاتني توثيقه من ماضيّ الثري، والتقاط كل المشاعر التي لم أصورها، والتي تتمدد ما بين شغفي بالمدرسة وإثبات ذكائي، إلى طموحاتي ومساعي الفكرية.
كنت أتوق إلى أن أصبح أكثر حكمة ولطفًا وأعمق تفكيرًا. كنت أرغب في معالجة الحزن والغضب الناجم عن الفقر المنهجي الذي نتعرض له في غزة؛ والظلم الذي نشهده منذ احتلال فلسطين؛ وخيانة العالم الكبرى لحقوقنا الإنسانية وإنكاره وجودنا، وكل ما تراكم منذ طفولتي وحتى أوائل العشرينيات من عمري. أردت أن أحقق أحلامي بالسفر بحرية ودون صعوبات.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان من المفترض أن أبدأ سنتي الأخيرة في الجامعة. كنت حريصة على الالتزام الكامل بدراستي، ولكن بدلًا من ذلك، استيقظت على أصوات القصف. كان الإنترنت متقطعًا، لكنني تلقيت رسائل من جامعتي تعلن عن توقف الفصول الدراسية؛ بسبب الهجوم على غزة. انقلبت حياتي رأسًا على عقب، وتحول حالي من الإثارة والطموح إلى الحزن والقلق والخوف.
لقد تحولت من طالبة شغوفة إلى شخص يوثق الظلم وانتهاكات حقوق شعبي الإنسانية. صدمت من المعايير المزدوجة في العالم، وتزييف وسائل الإعلام أوضاع الفلسطينيين. ورغم محدودية الوصول إلى الإنترنت، كتبت مقالات وعرضتها على منافذ الأخبار كلما أمكن.
كانت الحياة في غزة قبل الحرب صعبة بالفعل. عانينا من انقطاع المياه والكهرباء المحدودة والسفر المقيد. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، اشتدت مصاعبنا. أصبحت المياه شحيحة، وانقطعت الكهرباء تمامًا، وتطلّب السفر مبالغ كبيرة، لا تكفي – رغم ذلك – لتضمن الخروج. كنا نعيش في خوف دائم، تحت القصف، دون مكان آمن نلجأ إليه.
تم تدمير معظم الأماكن التي كنت أعرفها وأحبها تمامًا، بما في ذلك منزلي. لو كنت أعرف أن هذا سيكون مصير غزة، لالتقطت المزيد من الصور، والتقطت كل لحظة. كنت سأقول وداعًا لكل بقعة جميلة عرفتها في غزة.
المدارس التي تخرجت فيها وحصلت على جائزة لتفوقي، والأماكن التي أقمت فيها أقوى الصداقات وضحكت، والأماكن التي شعرت فيها بأنني في بيتي، ذهبت جميعها. قلبي يتألم بذكريات ما كان، وما أصبح واقعًا أمامي في غزة.
لم أتمكن من التقاط الملل الذي يتغلب علينا عندما يصمت التلفزيون عند انقطاع التيار الكهربائي، والتقارب الذي استمتعنا به عندما نتجاذب أطراف الحديث دون أن يشتتنا الإنترنت، والفرح الذي يشعر به الأطفال عندما تومض الأضواء مرة أخرى بعد انقطاع التيار الكهربائي، والراحة التي تبدو على الأمهات عندما ترفرف الملابس المنشورة ليجففها النسيم، والبهجة التي تملأ المرء من قيلولة حلوة بعد يوم طويل في الجامعة.
لم أتمكن من الحفاظ على لحظات الغضب من حكوماتنا التي انقسمت منذ عام 2007، وما أدى إليه ذلك من عواقب، والرؤية غير الواضحة لمستقبلنا. لم أستطع التقاط ازدرائنا لأولئك الذين شوهوا أرضنا الجميلة، أو قتلوا، أو طردوا، أو عذبوا، أو قيدوا أيادي، أو عصبوا أعينًا، أو احتجزوا شعبي، ولا الليالي المظلمة التي كنت أدرس فيها على ضوء الشموع التي أحرقت شعر جبهتي، واستغرقت وقتًا للشفاء منها.
الفخر الشديد الذي شعرنا به عندما أسمينا القرى والمدن الفلسطينية التي فقدناها في عام 1948، والعلاقة العميقة الجذور التي تربطنا بأرض تعود إلى العصور القديمة، والدموع التي تغمرنا عندما نتذكر هزائم أسلافنا، كل هذه الذكريات تعيش داخلنا. هي أشياء لا تلتقطها الكاميرا، لكن قلبي استطاع التقاطها.
أنا محظوظة لأنني خرجت من غزة. في 3 مارس/آذار. غادرتها بعد حملة ناجحة لجمع التبرعات، وبفضل دعم أشخاص طيبين وعلاقات طورتها خلال عملي في تدريس اللغة العربية والعمل الحر.
أمي وبعض أشقائي آمنون في القاهرة، لكن والدي بقي في غزة مع أشقائي الآخرين. ترك هذا قلبي ممزقًا، جزء منه موجود في غزة مع والدي وإخوتي وأصدقائي، وثانٍ في القاهرة، وثالث مع أختي في الجزائر، حيث تدرس القانون الدولي في منحة دراسية. وهناك قطعة واحدة من قلبي ماتت عندما غادرت غزة.
أمي، أشقائي وأنا نواجه الآن في مصر المشقة وآلام عدم اليقين: ماذا سيحدث إذا أعلن وقف إطلاق النار؟ هل سنعود إلى غزة، أم سنضطر إلى البقاء في مصر؟ كلا الخيارين مخيفان بنفس القدر.
قلبي متعب، ولا علاج يمكن أن يساعدني في الشفاء. لن أشفى إلا عندما تتمكن كاميرتي من التقاط صور الطائرات المدنية في سمائنا، وليس الطائرات الحربية الإسرائيلية.
سوف أتعافى عندما أستطيع السفر بأمان حول العالم وأقول بفخر إنني فلسطينية، وعندما أستطيع المرور عبر المطارات الفلسطينية، وعندما لا يتم التشكيك في هويتي أبدًا، وعندما لا يتم استدعائي بعد الآن كلاجئة. عندها فقط سأطمئن إلى أن شعبي لن يشهد الظلم مرة أخرى، وأن العالم قد اعتذر، ونهض من أجلنا.
هذا هو الوقت الذي تنتهي فيه معاناتنا في فلسطين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی غزة
إقرأ أيضاً:
اعتصار تايوان.. خطة بكين لإسقاط الجزيرة دون قتال
في أواخر شهور الثورة الصينية، ضربت قوات جيش التحرير الشعبي حصارا مستمرا على العاصمة بكين، التي كانت تسمى آنذاك بيبينغ، وبعد أسابيع من الحصار، وتحديدا في يناير/كانون الثاني عام 1949، سقطت بيبينغ (بكين) دون قتال، بعد استسلام القائد المحلي للمدينة. كان ذلك السقوط بمنزلة البداية لانفراط عقد قوات حزب الكومينتانغ الحاكم وسقوط المدن والقرى واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر.
وفي تحليل نشرته مؤخرا مجلة "الإيكونوميست"، أشارت إلى ما يُطلق عليه لدى الصينيين اليوم "نموذج بيبينغ"، وهو المصطلح الشائع بين كوادر الحزب لوصف ما يمكن أن تقوم به الصين مرة أخرى لإسقاط تايوان دون قتال، فيما يعتبرونه استكمالا للثورة وتصحيحا لمسار التاريخ من خلال القضاء على آخر جيوب الكومينتانغ، بعد فرار قواته إلى الجزيرة في ديسمبر/كانون الأول 1949 رفقة ما يقرب من مليونين من الجنود وأعضاء الحزب فيما يُطلق عليه "الانسحاب الكبير".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل اقتربت حرب الصين الكبرى؟list 2 of 2السفينة الحربية الصينية التي أظهرت تراجع البحرية الأميركيةend of listوفي المقابل، يبدو أن الأميركيين خلال السنوات الأخيرة باتوا يتحوّطون بشدة لاحتمالات إقدام بكين على غزو تايوان عسكريا وإعلان ضمها إلى البر الرئيسي، ويحاولون إعادة ترتيب القدرات الإستراتيجية الأميركية وتركيزها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، استعدادا لهذه اللحظة التي قد تمثل ذروة تحولات القوى في نظام ما بعد الحرب الباردة.
إعلانوفي إطار ذلك، أعرب الأدميرال فيليب ديفيدسون، القائد المتقاعد للقوات العسكرية الأميركية المشتركة في منطقة الإندوباسيفيك، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ عام 2021، عن توقعه بأن الصين قد وضعت خطة زمنية للتوحيد مع تايوان من خلال غزو برمائي، خلال العقد القادم أو خلال السنوات الست المقبلة على الأرجح.
وقد أصبح هذا التقييم، الذي أُطلق عليه اسم "نافذة ديفيدسون"، منذ ذلك الحين كأنه أحد الثوابت في التحليل الإستراتيجي الأميركي، وفي مقابلة صحفية مع شبكة "سي بي إس" الأميركية، بُثت في فبراير/شباط 2023، قال ويليام بيرنز، مدير المخابرات المركزية الأميركية الأسبق: "نحن نعلم أن الرئيس شي وجّه قيادة الجيش الصيني لأن تكون مستعدة بحلول 2027 لغزو تايوان".
ولكن باستقراء السلوك الصيني حول الجزيرة وداخلها، يبدو أن الغزو البرمائي ليس الخطة الوحيدة لدى بكين، وأن لديها بالفعل خطة بديلة لإخضاع تايبيه لسيادتها، دون اللجوء إلى الحرب كما حدث في بكين نفسها منذ أكثر من سبعة عقود، بما يعني أن نافذة ديفيدسون المتوقعة لغزو تايوان قد تحدث ولكن ليس بالصورة التي توقعها.
هذه الخطة البديلة لن تكتفي بالحصار العسكري التقليدي الذي قد يُفسَّر طبقا للقانون الدولي بأنه إعلان حرب، مما يجر على بكين ردود فعل دولية أو أميركية قاسية. لكنها قد تتضمن، عوضا عن ذلك، نسج شبكة معقدة من الإجراءات الأمنية تحت عتبة الحرب للضغط على الجزيرة، مصحوبة بمزيج من التأثير السياسي والاقتصادي والإعلامي على تايوان، لإفقادها تدريجيا أية حماسة لمقاومة بكين أو الإيمان بمبررات الانفصال، ومن ثم يتكرر التاريخ وتسقط تايبيه دون قتال.
فما أبعاد تلك الخطة البديلة؟ وكيف يمكننا قراءة ما قد يفكر فيه القادة الصينيون لسلوك طريق آخر لحسم وضع الجزيرة، دون الاصطدام بالولايات المتحدة ومنحها الذرائع لمواجهة بكين؟
ما وراء الرصاص.. طرق أخرى للإكراه"إن أسمى فنون الحرب هو إخضاع العدو دون قتال"
المفكر الإستراتيجي الشهير الصيني صن تزو في كتابه "فن الحرب"الحرب إذن ليست اشتباكا دمويا طاحنا فحسب؛ وإنما هي معركة معقدة ومركبة تُستخدم فيها كل الأدوات، العسكرية أو السلمية أو كلتيهما، بهدف تغيير إرادة الخصم وإفقاده القدرة على الممانعة، بما يحقق في النهاية الأهداف السياسية والإستراتيجية للطرف المنتصر.
إعلانوهذا النص المكتوب في القرن السادس قبل الميلاد والمنسوب إلى صن تزو يكشف أبعادا عميقة في العقلية الإستراتيجية الصينية التي عُرف عنها طيلة تاريخها القدرة الهائلة على ممارسة الصبر وبناء النجاحات بالتراكم ومن غير صخب.
وخلال السنوات الماضية، ودون اللجوء إلى استعمال مظاهر القوة المفرطة، فرضت الصين تدريجيا الكثير من مظاهر السيادة على تايوان دون إعلان ذلك، وتعمدت في مناسبات مختلفة إجبار المتعاملين مع تايوان أحيانا على الإقرار ببعض مظاهر السيادة الصينية على الجزيرة والمضيق، من خلال ما يمكن تسميته بسياسات الإكراه متعددة المجالات.
أصبحت المناورات العسكرية التي تتضمن إطلاق صواريخ في المياه القريبة من تايوان -في إطار تدريبي- معتادة بشكل متزايد، كما يتضح في مناورتَيْ "السيف المشترك" اللتين أُجريتا العام الماضي. وفي فبراير/شباط لهذا العام اتهمت تايوان الصين بتخريب كابل بحري في شمال تايوان. كما تضاعفت عمليات التوغل اليومية للطائرات المقاتلة الصينية أربع مرات تقريبا، من 380 طائرة في عام 2019 إلى أكثر من 1700 طائرة في عام 2023.
هذه المناورات والتدريبات المتكررة التي يصعب في كل مرة تحديد النيات الفعلية لبكين من ورائها، ورغم أنها لا تؤدي إلى حصار عسكري فعلي للجزيرة، فإنها تمثل حربا نفسية قاسية على سكانها، وتذكّرهم دائما بالتكلفة الهائلة التي سوف تجرّها عليهم محاولات الانفصال.
ولا تقتصر الإجراءات الصينية فقط على الجانب العسكري، فقد فرضت بكين، بحسب مجلة "ذا ديبلومات" الأميركية، قيودا على مواطنيها وطلابها المسافرين إلى تايوان منذ تولي الرئيسة التايوانية السابقة، تساي إنغ ون، منصبها في عام 2016، مما أضعف بشكل كبير قطاعَيْ السياحة والتعليم العالي في تايوان
. وفي عامي 2021 و2022، أوقفت الصين استيراد المنتجات الزراعية التايوانية المهمة، مثل الأناناس والتفاح، التي تُعد من الصادرات الرئيسية لتايوان، وقد تسبب هذا الإجراء في تضييقات بالغة على القطاع الزراعي بالجزيرة.
إعلانوفي المقابل، استخدمت الصين حوافز اقتصادية لاستقطاب حلفاء تايوان الدبلوماسيين من خلال تقديم حوافز اقتصادية، مما دفع دولا من الدول الصغرى وذات القيمة الإستراتيجية في المحيط الهادي، مثل نيكاراغوا وجزر سليمان، إلى قطع علاقاتها مع تايوان، وتعميق علاقاتها ببكين، على غرار الاتفاقية الأمنية بين جزر سليمان والصين في ربيع 2022. ومنذ عام 2016، تحوّلت 10 دول من حلفاء تايوان الدبلوماسيين إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، لينخفض عدد الدول المعترفة بتايوان خلال هذه المدة من 22 إلى 12 دولة فقط.
وبخلاف الحوافز أو العقوبات الاقتصادية، تستغل بكين القواسم الثقافية المشتركة أداةً أخرى للتأثير على المواطنين في تايوان، لإرسال رسالة مفادها أن التوحيد ليس تهديدا وإنما فرصة. على سبيل المثال، في الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، أصدرت القيادة الشرقية لجيش التحرير الشعبي مقطعا مصورا للتهنئة بحلول رأس السنة الجديدة، تضمن أغنية عنوانها "الشعب الصيني"، صُمم المقطع بعناية ليناسب الجمهور التايواني، وتضمن مقاطع لطلاب صينيين يزورون تايبيه في مشاهد اجتماعية ودودة.
وتُظهر استطلاعات للرأي أُجريت مطلع 2024 أن نسبة الذين يريدون الاستقلال داخل تايوان تنخفض منذ عام 2020، وأن أكثر من 80% من التايوانيين يريدون الحفاظ على "الوضع الراهن"، لكن نحو 20% فقط يعتقدون أن ذلك ممكن على المدى الطويل. وعند السؤال عما يتوقعونه بدلا مما يفضلونه، قال نحو 30% إن تايوان ستنتهي "بوحدة الصين القارية"، بزيادة 8% عن عام 2020، فيما يشير إلى أن الحرب النفسية الصينية باتت تؤتي أُكلها بصورة متزايدة.
وأبعد من ذلك، فقد أُثيرت في تايبيه، مؤخرا، تقارير صحفية وأمنية تقول إن الصين كثّفت في السنوات الأخيرة محاولات تجنيد سياسيين محليين، أو مدنيين فاعلين، عبر تقديم إغراءات مالية أو فرص سفر وتدريب. هذا لا يعني أن هناك شبكة تجسس بالمعنى التقليدي، بل شبكة نفوذ ناعمة تعمل على تغيير توجه البلاد على المدى البعيد.
إعلانوعلى مدار السنوات الأربع الماضية، تضاعف عدد الملاحقات القضائية بتهمة التجسس في محاكم تايوان أربع مرات. ومنذ أن شن الرئيس التايواني، لاي تشينغ دي، حملة تعقب ضد التسلل الصيني في مارس/آذار الماضي، وُضع 5 أعضاء على الأقل من الحزب الحاكم (بمَن فيهم مساعد سابق له) قيد التحقيق بتهمة التجسس، و3 جنود من المكلفين بحراسة مكتب الرئيس اتهموا بتصوير وبيع المعلومات السرية للصين.
فضلا عن ذلك، تتهم السلطات في تايبيه بكين باستخدام شبكات من الحسابات الوهمية والمزيفة على منصات التواصل الاجتماعي لنشر أخبار ومقاطع فيديو تُسهم في تغذية السردية القائلة إن حكومة "الحزب الديمقراطي التقدمي" أداة أميركية تُهدّد الاستقرار الاقتصادي والسياسي للجزيرة وتغامر بالمواجهة مع الصين من خلال تشجيع الانفصال، لخدمة أهداف جيوسياسية أميركية.
وفي 2024 وحدها، رصدت السلطات التايوانية أكثر من 2.16 مليون قطعة من المعلومات وصفتها بأنها "مضلّلة" ومدعومة من الصين، بزيادة 60% عن العام السابق، عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد المحتوى وتعزيز وصوله عبر خوارزميات المنصات الكبرى.
وقبل ذلك، في يوليو/تموز 2019، نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" تقريرا أشارت فيه إلى أن مجموعة "وانت وانت ميديا" (Want Want Media)، التي تمتلك شبكة واسعة من الصحف والقنوات التلفزيونية البارزة في تايوان، كانت تتلقى توجيهات تحريرية مباشرة من مكتب شؤون تايوان التابع للحكومة الصينية. ووفقا للتقرير، أسهمت تغطية الشبكة في التأثير على نتائج الانتخابات البلدية والانتخابات التمهيدية للرئاسة بصعود مرشحين يتبنّون خطاب الوحدة الصينية.
أزمة سياسية في تايوان.. والصين في الخلفيةشبكة التأثير المعقدة، والعمليات النفسية المركبة، التي تُحكمها الصين حول تايوان، ساهمت مؤخرا في إشعال انقسام سياسي حاد لا يزال يتعمق بما قد يُدخل الجزيرة في أزمة سياسية طويلة، حيث يحاول كلٌّ من الرئيس وقادة المجلس التشريعي تقويض صلاحيات بعضهم بعضا.
إعلانيتبع الرئيس، لاي تشينغ دي، الحزب الديمقراطي التقدمي (DPP)، الذي يعارض بشدة مساعي إعادة توحيد الصين ويتبنى خطابا استقلاليا غير مسبوق في تاريخ حكام الجزيرة، ويرى أن تايوان بالفعل دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، ويعمل على تعزيز الهوية التايوانية والانفصال التدريجي عن الصين.
بينما يهيمن على المجلس التشريعي الحزب القومي (KMT) الذي لا يروج صراحة "للتوحيد مع الصين"، لكنه يدعم علاقات أقل توترا مع بكين، ويعارض التصعيد أو الاستفزاز، وغالبا ما يتهم قادته الحزب الديمقراطي التقدمي بأنه يجر البلاد إلى مواجهة مع الصين لا طائل منها.
ومؤخرا أعلن حزب الرئيس، بحسب "فورين بوليسي"، دعمه لحملة جماهيرية لاستدعاء نواب الحزب القومي، متهما إياهم بالتآمر مع الصين لإضعاف تايوان. ويشيرون في ذلك تحديدا إلى زعيم الكتلة البرلمانية للحزب، فو كون تشي، الذي قاد العام الماضي وفدا إلى بكين للقاء وانغ هونينغ، الرجل الرابع في الحزب الشيوعي والمسؤول عن سياسة تايوان، وهناك تحدث الرجلان عن كونهم عائلة واحدة، وعن العمل معا لمنع استقلال تايوان.
عند عودتهم، اعتمد النواب القوميون قانونا يوسّع صلاحيات البرلمان على حساب صلاحيات الرئيس. وعندما حُكم بعدم دستورية بعض بنوده، أصدروا قانونا آخر شلّ عمل المحكمة الدستورية. وفي يناير/كانون الثاني، أجروا تخفيضات شاملة في الميزانية، شملت الدفاع وخفر السواحل والأمن السيبراني.
اتهم الرئيس لاي البرلمان بتقويض أمن تايوان لصالح الصين من خلال إجراءات خفض ميزانية الدفاع، وأن ذلك سيعطي لحلفاء تايوان انطباعا بعدم جديتها في الدفاع عن نفسها. في حين يقول مشرّعو الحزب القومي إن الرئيس هو مَن يرفع ميزانيات الدفاع لاستفزاز الصين والمقامرة بمستقبل الجزيرة.
إعلانولفهم مدى تأثير الصين في المعادلة تجدر ملاحظة هذه القصة: رئيس الكتلة التشريعية فو، نائب عن مقاطعة هوالين على الساحل الشرقي لتايوان التي تعتمد صناعاتها الرئيسية على الزراعة والسياحة، وكلتاهما تعتمد على الصين، وكانت قد تأثرت سابقا بقرار الصين في 2022 حظر استيراد البوميلو (وهو نوع من الحمضيات المهمة في تايوان)، ولكن بعد زيارة فو إلى بكين، رفعت بكين الحظر على استيراد البوميلو من هوالين، في حين لم يشمل رفع الحظر المناطق المؤيدة للحزب الديمقراطي التقدمي، مما رفع الأسهم الشعبية للزعيم القومي بصورة هائلة.
تكتيكات المنطقة الرمادية.. البديل الآمن لبكينبحسب دراسة فريدة لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، فإنّ الاستعداد لخطر الغزو البرمائي لتايوان لا يُمثّل النقطة المحورية الصحيحة لجهود الولايات المتحدة لحماية الجزيرة.
وتزعم الدراسة أن سياسة الصين الصبورة وطويلة الأمد تجاه تايوان، التي تُعامل التوحيد على أنه "حتمية تاريخية"، إلى جانب سجلّها المتواضع من العمل العسكري في الخارج، يُشيران إلى أن خطة بكين الأكثر ترجيحا ستكون ضمن إطار ما يُعرف بـ"عمليات المنطقة الرمادية"، وهي أنشطة قسرية في المجالين العسكري والاقتصادي لا ترقى إلى مستوى الحرب.
وتُعرّف تكتيكات "المنطقة الرمادية" بأنها إجراءات تُعدّ أدنى مما يُمكن اعتباره في القانون الدولي أعمال حرب، حيث يُمكن لخفر السواحل الصيني، والقوات التابعة له، ومختلف وكالات الشرطة والسلامة البحرية (وهي كلها قوات مدنية) فرض حجر كامل أو جزئي على تايوان، مما قد يؤدي إلى قطع الوصول إلى موانئها ومنع وصول الإمدادات الحيوية، مثل الطاقة، إلى سكان الجزيرة البالغ عددهم 23 مليون نسمة، دون انخراط الجيش الصيني في العملية.
وبحسب الدراسة أيضا، فإن هذا "الحجر" (Quqantine) يختلف قانونا عن "الحصار" (Blockade)، فالحجر عملية تقودها جهات إنفاذ القانون للسيطرة على حركة الملاحة البحرية أو الجوية داخل منطقة محددة، بينما الحصار ذو طبيعة عسكرية في المقام الأول.
وفي الإطار نفسه، يمكن للصين أن تتخذ إجراءات أخرى لفرض السيادة عمليا على تايوان، مثل اشتراط تقديم إقرارات جمركية قبل أن تتمكن السفن من الرسو في الجزيرة. وبالنسبة للسفن التي لا تمتثل، قد يكون لآليات الإنفاذ تأثير حاسم عبر تعطيل جميع عمليات الشحن الخاصة بها.
إعلانوتحتاج هذه الخطة إلى نطاق محدود من العمليات من جانب الصين، على سبيل المثال، قد تستهدف الصين فقط ميناء كاوهسيونغ، أكثر موانئ الجزيرة ازدحاما، والمسؤول عن 57% من واردات تايوان البحرية ومعظم وارداتها من الطاقة.
ثمن الحربرغم تزايد الخلل في ميزان القوة العسكرية بين الصين وتايوان بصورة هائلة لصالح بكين، فإن الصين تدرك أيضا أن غزو تايوان عسكريا واحتلالها سيظل صعبا للغاية لعقود قادمة، حتى لو بقيت الولايات المتحدة وحلفاؤها على الحياد. لا يهم عدد القوات والأسلحة والإمدادات التي يستطيع جيش التحرير الشعبي حشدها على شواطئ الجزيرة عبر مضيق تايوان.
ولكن لغزو الجزيرة، وبحسب "جيوبوليتيكال فيوتشرز"، ستحتاج الصين إلى الجزء الأكبر من قواتها للصعود إلى قوارب والقيام برحلة مدتها ثماني ساعات في مواجهة القوة النارية التايوانية القادمة من مواقع برية محصنة جيدا ومزودة بإمدادات جيدة. لدى تايوان نحو 130 ألف جندي مُسلّح بطرق متطورة (بالإضافة إلى 1.5 مليون جندي احتياطي) وآلاف المركبات القتالية المدرعة وقطع المدفعية ذاتية الدفع المُموّهة.
لا يصلح سوى 10% من ساحل تايوان للإنزال البرمائي، وحتى لو فُوجِئَت تايوان، فقد تحشد قواتها في مناطق الإنزال، وتُلحق بالصينيين خسائر فادحة. علاوة على ذلك، لا يمتلك جيش التحرير الشعبي الصيني أي تجارب سابقة في العمليات البرمائية في بيئة قتالية حديثة. وتتطلب الحرب البرمائية -بطبيعتها- تنسيقا مُعقّدا للغاية بين القوات الجوية والبرية والبحرية، هذا فضلا عن المتاعب التي سوف ينطوي عليها احتلال الجزيرة لاحقا.
لا تعني هذه التحديات أن الصين لا تستطيع السيطرة على الجزيرة عسكريا إذا أرادت، ولكن تعني أن الأمر لن يكون نزهة عابرة في كل الأحوال. مما يرجح، أو على الأقل يضع في الاحتمال، أن الصين بطبيعتها الصبورة، التي يُذكر بها بناء سور الصين المهول، قد تستمر في نسج الخيوط حول تايوان حتى تسقط في صمت ودون قتال.
إعلان