لجريدة عمان:
2025-10-22@08:25:28 GMT

في تلك الالتواءات السرية للطبيعة!

تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT

لأول مرة، يسعفني الحظ للذهاب إلى محافظة ظفار في موسم الصرب، كمحاولة صغيرة لاكتشاف المكان بعد انجلاء الخريف برذاذه وحركة زائريه الدؤوبة.

ورغم ما ادخرته لنا الطبيعة من مفاجآت سارة بعد انقشاع الضباب، وانكشاف المروج الخضراء وتفتح الأزهار بألوان الربيع التي لم نعتد عليها، إلا أنني لا أستطيع أن أنكر أثر الشحوب الذي ملأ الشوارع الفارغة من زحامها، فالعيون والشلالات التي لم نكن نصل إليها إلا بمشقة عارمة، صارت تئن بوحشتها، وتناءى الملمح العذب للطائرات الورقية المحلقة فوق الهضاب، وتلاشت الحصُر التي يحجز بها أصحابها مساحتهم الخاصة، وفقدت عربات الآيس كريم والبرجر والذرة رونقها وبهاءها، وفرغت الشقق والفنادق من تهافت مستأجريها، واكتسى المكان بإحساس باهت.

كأنما أعاده أحدهم -أي المكان- لعزلته البائسة التي كان عليها قبل سنوات من دخول الخدمات.

حتى تلك الأكشاك التي تبيع المشلي وجوز الهند والفواكه الطازجة والتي تذكرنا برائحة أسفارنا إلى الدول الآسيوية، تلك التي بالكاد كنا نجد موطئ قدم فيها أيام الخريف، بقيت صامدة لكن دون أيدٍ تمتد لاقتناص مباهجها. ماذا عن مدن الملاهي التي خفت ضجيجها وأضواؤها والطوابير الواقفة في انتظار أدوارها!

دخلنا المطاعم والمقاهي التي اكتست بأجمل حللها هذا العام لنجلس وحدنا، غير مصدقين أنها كانت قبل أسابيع قليلة وحسب تفيض بالناس وضجيجهم طوال أشهر الصيف الماضية! وفي الحقيقة سأتذكر أني أحد الذين كتبوا بصورة مستمرة عن ضرورة توفير الخدمات على طول العام في محافظة ظفار، حتى رأيتُ بأم عيني المحلات ومدن الملاهي والعيون والشلالات والأسواق، وكأن هنالك من ضغط زرًا فأطفأ فتنتها وامتص رحيقها دون وجل أو وخز ضمير!!

أعرف جيدًا أن الخريف انقضى، وفتحت المدارس وانتهت الإجازات الصيفية، ولكني كنت أفكر كيف يمكن إنقاذ المشروعات من الركود والخفوت لمدة تسعة أشهر قادمة! كيف يمكن أن نُرَبي السياحة المستدامة، ولا أدري إن كانت هذه الرغبة شديدة «الحُلمية» أو إن كانت ليست على وفاق مع واقع الحال، ولكن ماذا لو: تحول مطار صلالة إلى نقطة ارتكاز أساسية ودائمة «ترانزيت» يستقطبُ مختلف دول العالم، ليُغذي المنطقة بخامات بشرية متعددة، الأمر الذي سيُحرض رغبة الآخر في اكتشاف سحر المكان الآسر! ماذا لو تحولت المحافظة إلى منطقة ترفيهية متاحة على مدار العام -كأغلب الدول التي تتمتع بجو استوائي معتدل- فلا تكتفي بجذب الناس إليها في أشهر الصيف وإنما تستثمر أيضًا إجازات منتصف العام والأعياد كما قد تجذب إليها شريحة أوسع من دول الخليج.

هنالك أيضًا ما يُطلق عليه «السياحة العلاجية»، فعوضًا عن السفر إلى الخارج، يمكن تهيئة المحافظة كمكان مخصص للاستشفاء، لتقديم أنواع مختلفة من العلاجات، استثمارًا لموقع المحافظة المطل على بحر العرب، وذلك عبر جلب استشاريين متخصصين إليها من مختلف بقاع العالم.

ماذا أيضًا عن سياحة المؤتمرات العلمية والاقتصادية، التي ستجلب معها شرائح متنوعة من البشر من بيئة البحث والأفكار والتي ستصب في نسيج البيئة الاقتصادية والتعليمية، فبينما تُنشط السياحة من جهة يمكن أن تترك أثرًا لا تخطئه عين على تقييم الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا أكاديميًا ومؤسسيًا أيضًا.

في تلك الالتواءات السرية للطرق التي تخفي كثافة أشجارها أكثر مما تُبدي، هناك حيث يحصد الفلاحون غلتهم، والرعاة لحوم مواشيهم وألبانها الشهية، وحيث يجني العسالون حلاوة شهدهم، تدافعت الأفكار في رأسي، في محاولة لرأب الصدع الذي أحدثه شحوب المدينة في أحد أجمل مواسمها الخلابة.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الأنفاق السرية للنازية.. سياحة في قلب تاريخ مظلم

ليست برلين الواقعة وسط القارة الأوروبية فقط عاصمة جمهورية ألمانيا الاتحادية وأكبر مدنها، بل إنها أيضا تعد مزارا سياحيا مهمة يرجع في جزء كبير منه إلى تاريخ حافل ومثير.

ولكن ما نتحدث عنه ربما لا يعرفه الكثيرون ممن لم يزوروا هذا البلد، ويتعلق الأمر بتلك الممرات والمخابئ الخرسانية التي أنشأتها السلطات خلال الحقبة النازية لحماية المدنيين أثناء الغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية، وقد استخدمت المخابئ والممرات لاحقا لغايات متعددة.

في الوقت الحاضر، تتاح أجزاء من هذه المنشآت للزيارة ضمن جولات رسمية، تقدم للزوار معلومات دقيقة حول الحياة أثناء القصف الجوي الشديد التي تعرضت له البلاد خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.

تحت الأرض

تتيح جمعية "برلين تحت الأرض" للزوار فرصة فريدة لاستكشاف التاريخ الخفي للعاصمة الألمانية، وذلك عبر جولات متحفية داخل عدد من المخابئ التي شُيدت خلال الحرب.

من أبرز هذه الجولات تلك التي تحمل عنوان "من أبراج المضادات إلى جبال الأنقاض"، حيث يصطحب المرشدون الزوار المشاركين للغوص في ثلاثة طوابق من أصل سبعة ضمن أحد أكبر المخابئ، والذي يقع على عمق يفوق 15 مترا تحت سطح الأرض.

وتُعرض خلال الجولة قصص حقيقية ومؤثرة للمدنيين الذين احتموا بهذه المخابئ أثناء الغارات الجوية، مما يمنح الزائر إحساسا ملموسا بظروف الحياة تحت القصف إبان تلك الحرب، والتي سببت قتلا ودمارا كبيرين.

تجدر الإشارة إلى أن درجة الحرارة داخل الممرات لا تتجاوز 10 درجات مائوية حتى في فصل الصيف، ولهذا يُنصح الزوار بارتداء ملابس مناسبة وكذلك أحذية مريحة لضمان الراحة أثناء الجولة.

ويمكن حجز التذاكر مسبقاً عبر الموقع الإلكتروني للجمعية، حيث يبلغ سعر التذكرة سبعة عشر يورو، وتستغرق الجولة قرابة 90 دقيقة مليئة بالتفاصيل والمشاهدات.

مقر الجمعية في شارع برونن شتراسه 105 بجوار محطة غيزوندبرونن شمال وسط المدينة(شترستوك)

ويقع مقر الجمعية في شارع برونن شتراسه 105، بجوار محطة غيزوندبرونن شمال وسط برلين، ما يجعل الوصول إليه سهلاً عبر المترو، أو قطارات الضواحي.

إعلان

وفي هذه المساحة نجمع لكم بعض تعليقات من خاضوا هذه التجربة حيث يقول أحدهم على موقع "تريب إدفيزر" TripAdvisor "الحيز ضيق ويحتاج بعض الدرج والمشي، لكنه تجربة ثرية لعشاق التاريخ… تجربة توثق الجانب الإنساني للحرب بعيدا عن الدعاية المعتادة".

ويكتب آخر في خانة "مراجعات غوغل" (Google Reviews) للمكان "أفضل جولة قمت بها في برلين. المرشد يعرف كل التفاصيل الصغيرة ويشرحها بحماس. الجو داخل المخبأ بارد فعلاً، لكنه يجعل التجربة أكثر واقعية".

هامبورغ السفلى

لا تنحصر تجربة الاطلاع على أنفاق النازية على برلين، ففي مدينة هامبورغ الواقعة شمال ألمانيا، يتوارى مخبأ برلينر تور العميق تحت محطة المترو التي تحمل الاسم نفسه.

وقد شيد المخبأ في عام 1940 على عمق 11 مترا، ويصل سمك جدرانه إلى مترين، مما جعله واحدا من أبرز الملاجئ المدنية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، إذ لعب المخبأ دورا محوريا أثناء عملية "غوموراه"، وهي سلسلة من الغارات الجوية الكاسحة التي دمرت المدينة عام 1943.

تُنظم جولات داخل المخابئ على فترات محدودة وتشرف عليها جمعيات محلية متخصصة في توثيق آثار الحرب (غيتي)

كان المخبأ يتسع لنحو 800 شخص، ولا تزال بعض أجزائه تحتفظ بحالتها الأصلية حتى اليوم، ما يمنح الزائرين فرصة نادرة لمعايشة أجواء تلك الحقبة.

وتُنظم الجولات داخله على فترات محدودة، وتشرف عليها جمعيات محلية متخصصة في توثيق آثار الحرب، مع ملاحظة أن التصوير داخل هذه الأنفاق غالباً ما يكون غير مسموح به، حفاظا على خصوصية الموقع وأصالته.

ويتميز مخبأ برلينر تور بسهولة الوصول إليه من مركز هامبورغ؛ إذ يمكن ركوب المترو إلى محطة برلينر تور عبر الخطوط الرئيسة، ثم النزول من الممر الشرقي مباشرة.

التصوير داخل الأنفاق غالبا ما يكون غير مسموح به حفاظاً على خصوصية الموقع وأصالته (غيتي)

أما الزوار القادمون من العاصمة برلين، فبإمكانهم ركوب القطار السريع المباشر إلى هامبورغ، حيث تستغرق الرحلة قرابة ساعة و45 دقيقة.

أحد رواد منصة "تريب أدفايزر" يحكي عن تجربته في أنفاق النازية في هامبورغ قائلا "كان الشعور غريبًا ومهيبًا في الوقت نفسه. الأنفاق ضيقة ولكنها نظيفة، والمرشد يشرح التفاصيل الدقيقة عن كيفية بقاء الناس أحياء هنا أثناء القصف".

بون مخبأ الحكومة

وقرب مدينة بون، وتحديدا في وادي آر غرب ألمانيا، يقع "متحف موقع توثيق مخبأ الحكومة" في بلدة أهرفايلر، والذي يفتح أبوابه للزوار كجزء صغير من مجمع كان يُعد أحد أسرار الحرب الباردة.

ويمتد المخبأ الأصلي على مساحة شاسعة تبلغ 17 كلم من الأنفاق الخرسانية المتداخلة، غير أن الزائر اليوم لا يرى سوى ما يقارب 200 متر منها، تم تخصيصها بعناية لتوثيق تلك المرحلة الحرجة من تاريخ ألمانيا المقسمة.

تستمر الجولة داخل المخبأ حيث تتيح للزائر استكشاف تجهيزات الطوارئ وغرف القيادة وأجهزة الاتصالات (غيتي)

وتستمر الجولة داخل المخبأ ما يزيد على الساعة، إذ تتيح للزائر استكشاف تجهيزات الطوارئ وغرف القيادة وأجهزة الاتصالات، والتي ما زالت على حالها منذ ستينيات القرن الماضي.

إعلان

ويبلغ سعر تذكرة الدخول إلى المخبأ نحو 15 يورو مع توفير خصومات للطلاب وكبار السن، في محاولة لجعل الزيارة متاحة لمختلف فئات المجتمع.

ومن أجل الوصول إلى المكان، يمكن الانطلاق من مدينة فرانكفورت عبر القطار السريع إلى بون في رحلة تستغرق قرابة ساعة ونصف، يتبعها ركوب القطار الإقليمي إلى محطة أهرفايلر ماركت والتي تبعد قرابة 45 دقيقة.

وأما الزوار القادمون من مدينة كولونيا، فستستغرق رحلتهم أقل من ساعة واحدة للوصول إلى هذا الموقع التاريخي الفريد.

وفي مراجعة على موقع "تريب أدفايزر" كتب أحد الزوار قائلا "جولة دقيقة ومنظمة، ترى فقط جزءا صغيرا من المجمع العملاق، لكنها كافية لتشعر بمدى السرية والقلق الذي عاشته ألمانيا في الحرب الباردة"، فيما كتب آخر على مراجعات غوغل ما يلي "مكان يستحق الزيارة لمحبي التاريخ. تشعر أنك عدت إلى الستينيات، فكل شيء ما زال كما هو: الهواتف، المكاتب، الأسرة، وحتى رائحة الخرسانة الباردة".

تجربة فريدة

لا تمثل هذه المخابئ مجرد آثار لحرب مضت، بل هي فصول ملموسة من تاريخ أوروبا الحديث، فعند الدخول إلى هذه الممرات الضيقة والمعتمة يمكن للزائر أن يستشعر معاناة من عاشوا تلك الفترة العصيبة.

رغم أن البعض يطلق عليها "أنفاق سرية" إلا أنها في الواقع كانت مخابئ دفاعية صممت للحماية من الغارات (غيتي)

وعلى الرغم من أن البعض يطلق عليها "أنفاق سرية"، إلا أنها في الواقع مخابئ دفاعية صممت للحماية من الغارات الجوية، ولتتحول اليوم إلى مواقع توثيقية وسياحية تمنح الزائرين تجربة واقعية لمعنى الحياة تحت وطأة الخطر.

إن زيارة هذه الأنفاق ليست مجرد مغامرة ترفيهية، بل تُعد رحلة ثقافية تعيد صياغة مفهوم النجاة، وتبرز كيف تمكنت المدن الألمانية من النهوض من بين الأنقاض لتسرد قصتها للعالم.

مقالات مشابهة

  • "صوت المكان".. أمسية فنية تجمع الموسيقى بالعمارة في بيت المعمار المصري الخميس
  • عن الجريمة التي هزّت عنجر... توقيف سوريّ وهذا ما توصّلت إليه التحقيقات
  • مصر تفوز بجائزة أفضل وجهة تراثية في فئة الوجهات المتميزة ضمن جوائز السياحة العالمية التي يقدمها منتدى السياحة العالمي
  • أكثر من (47) مليار دولار مبيعات البنك المركزي الى مصارف الفساد خلال سبعة أشهر
  • انفراجة مفاجئة في صنعاء.. الحوثيون يفرجون عن 20 موظفاً أممياً بعد أشهر من الاحتجاز
  • صوت المكان.. أمسية موسيقية معمارية في بيت المعمار المصري
  • لقاء العاملين في القطاع العام.. يدعم التحرك التحذيري الخميس
  • في أشهر حملها الأخير.. ثراء جبيل تتألق خلال عرض "لنا في الخيال..حب"
  • الأنفاق السرية للنازية.. سياحة في قلب تاريخ مظلم
  • 11 مليون درهم حجم مشاريع هيئة الأعمال الخيرية العالمية في مصر خلال 9 أشهر