في حضرةِ سبأ: قراءةٌ تاريخيّةٌ في جذورِ الأزمةِ اليمنيّةِ المُعاصرة (2-2)
تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT
تستند فكرة الدولة الوطنية الحديثة، في الأساس، إلى منظومةٍ من المؤسّسات السياسية والقانونية والإدارية التي تعمل ضمن إطارٍ موحَّد، بما يضمن سيادة القانون ووحدة القرار السياسي. لكن في السياق اليمني، تُواجِه هذه الفكرة تحدّياتٍ بنيوية مرتبطة بإرثٍ تاريخيٍّ واجتماعيٍّ متداخلٍ ومعقّدٍ، امتدَّ تأثيرُه إلى يومنا هذا.
على مرِّ التاريخ اليمني، ظلَّ الولاء القبلي والديني يتقدّم، في أحيانٍ كثيرة، على ولاء المواطن للدولة المركزية. فعلى الرغم من تأسيس حكوماتٍ متعاقبةٍ سعت -في الخطاب على الأقل- إلى تعزيز مؤسسات دولةٍ حديثةٍ تقوم على الدستور والقانون، لم تتجذّر هذه المؤسّسات في الواقع الاجتماعي بقدر ما بقيت نخبوية في بعض المناطق، وحَسَر تأثيرُها في الأخرى. فمثلا، تسلّلت بعض مقوّمات الإمامة وامتداداتها الدينية والقبلية إلى بنية النظام الجمهوري في الشمال بعد 1962، ما أفرز طبقة سياسية ذات صلاتٍ متينةٍ بزعاماتٍ قبليةٍ ودينيةٍ ظلّت قادرة على تحريك المشهد من وراء الكواليس. وفي الجنوب، ورغم قيام نظامٍ اشتراكيٍّ عقب الاستقلال عن بريطانيا، فإنّ المركزية القوية التي تبنّتها الحكومات الجنوبية ظلت بدورها متأثرة بنزعاتٍ مناطقيةٍ أو قبلية، وظلّت رهينة الولاءات الداخلية والانقسامات الحزبية التي ظهرت لاحقا.
تقتصر التحدّيات على العوامل الداخلية؛ فقد كان للدول الإقليمية والدولية مصالحُ في اليمن بحكم موقعه الاستراتيجي وممرّاته المائية
بعبارةٍ أخرى، واجه مشروع بناء الدولة المعاصرة في اليمن معضلة ثنائية: فمن جهةٍ، تسعى الدولة المركزية إلى بسط سيادتها عبر مؤسّساتٍ عصريةٍ (كالقوات النظامية، والوزارات، والقضاء الموحد)، ومن جهةٍ أخرى تواجه رفضا -أو على الأقل تحفّظا- من قِبل نخبٍ محلّيةٍ ترتكز في قوتها على الشرعية التاريخية أو الدينية أو العرفية، وترى في التوسُّع المؤسّسي تهديدا لنفوذها. وقد جاء مفهوم اللامركزية كحلٍّ وسيطٍ في بعض المراحل، غير أنّه اصطدم ببنيةٍ قانونيةٍ هشّةٍ وبنزاعاتٍ سياسيةٍ حالت دون ترجمته إلى واقعٍ إداريٍّ ناجح.
مثَّلت الوحدة اليمنية عام 1990 حدثا مفصليا ضخَّ آمالا بتأسيس دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ تجمع بين مكتسبات النظامين السابقين، لكن تلك الوحدة جرت في ظروفٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقَّدةٍ؛ إذ تزامنت مع نهاية الحرب الباردة، وتغيّراتٍ جذريةٍ في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. وبالرغم من الحماس الذي رافق إعلان الوحدة، برزت سريعا معضلاتٌ مرتبطةٌ باختلاف الرؤى بين القيادتين الشمالية والجنوبية حول نظام الحكم وسبل دمج المؤسّسات. كما أنّ الشروخ التاريخية من حيث اختلاف الخلفيات القبلية في الشمال والتركيبة الاجتماعية في الجنوب أثَّرت مباشرة على فاعلية الدولة الجديدة.
ففي حين تمسّك الجنوبيون بمطلب بناء دولةٍ مدنيةٍ أكثر تحرّرا من التقليد القَبَلي والديني، ظلَّ جزءٌ كبيرٌ من النخب الشمالية ميّالا إلى إشراك البُعد العشائري والديني في صياغة السياسات، ممّا خلق فجوة دائمة في بنية النظام. وبمرور الوقت، لم تُؤدِّ سياسات الدمج -مثل توحيد الجيش والأمن- إلّا إلى تفجير صراعاتٍ مسلّحةٍ توّجتها حرب عام 1994، والتي أنهت فعليا نموذج الشراكة المتكافئة في إطار الوحدة، ليظهر بدلا عنه شكلٌ من التغليب العسكري-السياسي لقوى الشمال.
لم تقتصر التحدّيات على العوامل الداخلية؛ فقد كان للدول الإقليمية والدولية مصالحُ في اليمن بحكم موقعه الاستراتيجي وممرّاته المائية. ومع اندلاع الأزمات الأمنية -بدءا من حرب صيف 1994 وحتى الحرب الحالية- تزايد انخراط اللاعبين الإقليميين في الشأن اليمني، مُستغلّين نوافذَ تاريخية وعرقية ومذهبية لتقوية الأطراف الموالية لهم. من منظور بناء الدولة، أسهم هذا العامل الخارجي في عرقلة الجهود الوطنية لتشكيل حكومةٍ جامعةٍ؛ إذ غالبا ما دخلت الأطراف الداخلية في تحالفاتٍ مع قوى إقليميةٍ ودوليةٍ لتعزيز مكاسبها السياسية على حساب السعي نحو بنيةٍ وطنيةٍ موحّدة.
وإذا نظرنا إلى الأدبيات الحديثة في العلوم السياسية ودراسات بناء السلام (State-building)، فسنجد أنّ التدخلات الخارجية في البيئات المنقسمة اجتماعيا ومؤسّسيا قد تُسهم في إضعاف الدولة بدلا من تقويتها، لا سيما عندما تفتقر الدولة المركزية إلى القدرات المؤسّسية وضمانات الوحدة الوطنية. وهكذا، أصبح اليمن مسرحا تتقاطع فيه مصالحُ متضاربةٌ، فانتقل من أزمةٍ داخليةٍ بالأساس إلى صراعٍ مركّبٍ تتشابك خيوطه على المستويين الإقليمي والعالمي.
باتت الدولة الوطنية اليمنية المعاصرة أمام امتحانٍ وجوديٍّ: هل بمقدورها صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يجعل مؤسساتها فوق اعتبارات الولاء القبلي أو الديني أو المناطقي؟ وهل يمكنها إعادة توظيف التنوّع الجغرافي-الاجتماعي في إطارٍ مؤسّسيٍّ عادلٍ وفعّال؟ تزداد صعوبة هذه الأسئلة حينما نتذكّر أنّ التكوين التاريخي للبلاد -إذ حمل ثقل الإمامة في الشمال والاستعمار والاشتراكية في الجنوب- أنتج صيغة سياسية متناقضة في مرجعياتها، فلا الشرق التاريخي (بتقاليده الدينية والقبلية) ولا الغرب الاستعماري (بمؤسساته الإدارية والقانونية) انصهرا في بوتقةٍ واحدةٍ ومستقرّة.
إنّ امتداد الماضي في حاضر اليمن المضطرب يتجلّى في عجز السياسات المركزية عن استيعاب القوى الفاعلة محليا، في الوقت الذي تتنامى فيه المشاعر المناطقية والتطلعات الانفصالية لدى بعض المكوّنات. وفي حال عدم توفير رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تُراعي الخصوصيات التاريخية والاجتماعية لكلّ طرف، وتعالج مظالم الماضي، فإنّ هذه الامتدادات ستواصل تغذية الدورات المتعاقبة من الصراع وعدم الاستقرار.
يستوجب الخروج من إشكالية الدولة المعاصرة في اليمن إعادة بناء المؤسسات، وتحديث القوانين، وضمان حيادية الأجهزة الأمنية، والانطلاق في عمليةٍ سياسيةٍ شفّافةٍ تشمل الجميع. وفي ظلّ صراعٍ معقّدٍ يضرب أطنابه في المجتمع، يواجه اليمنيون تحدّي بلورة مشروعٍ وطنيٍّ تكون فيه الدولة مظلة دستورية تشمل المكوّنات القبلية والمناطقية، مع خلق آلياتٍ ديمقراطيةٍ تضمن تمثيلا عادلا لمختلف الأطراف. ورغم صعوبة المهمة، تبقى دروس التاريخ وسياسات الواقع دليلا على أنّ أيَّ حلٍّ جذريٍّ يتطلّب معالجة منهجية للإرث السياسي والاجتماعي، وتفكيك الشبكات الموازية للسلطة المركزية، وإرساء عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يستند إلى المواطنة المتساوية وحكم القانون. بغير ذلك، سيظلّ الحاضر اليمني أسيرا لامتدادات الماضي، مغلقا باب التحوّل الحقيقي نحو دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ ومستقرّة.
تمثّل العودة إلى عمق التاريخ اليمني، بدءا من ممالك سبأ ومرورا بحقبة الإمامة فالاستعمار البريطاني وصولا إلى نشأة الدولة الوطنية المعاصرة، خطوة ضرورية لتفكيك البنية التاريخية والذهنية التي صاغت حاضر اليمن الملتبس. إنّ هذا الماضي لا يعيش فقط في بطون الكتب والآثار، بل يمتدّ راسخا في الذاكرة الجمعية، يشكّلها وينعكس في سلوك القوى السياسية والقبلية والمجتمعية إلى اليوم. وإذا كان اسم سبأ يلوح في الأذهان كرمزٍ لعصرٍ ازدهر فيه الاقتصاد وازدهرت فيه طرق التجارة، فإنّ الاستقصاء يكشف عن موروثٍ أعمق من مجرّد التفوّق التجاري والعمراني، إذ أرسى السبئيون تقاليد حكمٍ مركزيةٍ تحالفت مع القبائل، وعرفوا كيف ينظّمون المياه والسدود والطرق التجارية لخدمة دولتهم.
غابت سبأ كدولة، لكنّ أنماط التحالفات السياسية واستراتيجيات السيطرة على الموارد ورمزية السلطة المركزية استمرّت لاحقا في مختلف الكيانات اليمنية المتعاقبة، لا سيما الإمامة في الشمال التي استندت بدورها إلى شرعيةٍ دينيةٍ-قبليةٍ، ما مكّنها من الصمود قرونا في بيئةٍ جغرافيةٍ صعبةٍ ودينامياتٍ قبليةٍ لا تقلّ صعوبة.
ولم تقتصر هذه الامتدادات التاريخية على جانب الحكم، إذ رافقها تداخلٌ وثيقٌ بين العامل الجغرافي والعامل الاجتماعي؛ فالجبال العالية منحت القبائل استقلالية ومنعة دفاعية، فيما أغدقت الموانئ الساحلية على اليمن فرصة التواصل الاقتصادي مع العالم، الأمر الذي أدّى دائما إلى بروز قوى محليةٍ مختلفةٍ المصالح والتوجهات. وقد انعكس هذا التنوّع في التشكيل المجتمعي على طبيعة الصراعات؛ إذ لم يكن الصراع محصورا في السلطة المركزية، بل امتدّ أحيانا إلى التنافس على منافذ التجارة، والسيطرة على الوديان الخصبة، والتحكّم بسدود المياه والموارد النادرة.
إنّ قراءة الفترات اللاحقة، من حكم الأئمة مرورا بالاستعمار البريطاني في الجنوب، تؤكّد كيف تُحفر الصراعات في الجغرافيا اليمنية وتُعاد صياغتها وفق موجاتٍ متلاحقةٍ من الشرعية الدينية أو المستندة إلى الإمامة، أو بدافعٍ من نُظُمٍ استعماريةٍ أدخلت مفهوم الدولة المؤسّسية الحديثة، لكنها اصطدمت بكياناتٍ اجتماعيةٍ تمتلك قوى تاريخية متجذرة.
في ظلّ هذا النسيج، لم تشهد الدولة الوطنية الحديثة نشأتها المعهودة كما في دولٍ أخرى، بل ظهرت محاولاتٌ للنهوض بمؤسّساتٍ جمهوريةٍ أو اشتراكيةٍ أو اتحادية، غير أنّها غالبا ما عجزت عن تفكيك الموروث التاريخي وتطويعه في مشروعٍ جامع. وهنا تتجلّى المعضلة؛ فالذاكرة اليمنية، بكلّ ما فيها من شظايا حقبٍ متباينةٍ وولاءاتٍ مركّبة، تفرض نفسها على كلّ مشروعٍ سياسيٍّ جديد، وتعيد إحياء الاصطفافات التاريخية والمناطقية والدينية كلما ضعفت سلطة الدولة. وقد تجلّى هذا بوضوحٍ بعد إعلان الوحدة عام 1990، حين فشلت الصيغة المشتركة للدولة في دمج رؤى شماليةٍ متأثرةٍ بتاريخٍ قبليٍّ ودينيٍّ وإرثٍ إمامي، مع جنوبٍ يحمل آثارا استعمارية واشتراكية فرضت عليه نموذجا إداريا مختلفا. وسرعان ما اندلعت صراعاتٌ عسكريةٌ وسياسيةٌ عكست عمق التضارب بين هذه الرؤى.
قدرة اليمن على تجاوز محنته الحالية مرهونةٌ بالقدرة على تفكيك تلك التراكمات التاريخية ونزع صواعق التوتّر. وفي الوقت ذاته، تبقى فرصه في إعادة الإعمار وبناء السلام متوقفة على الوعي بأنّ التنوّع الجغرافي والبشري ليس مصدرا للتفرقة ما لم يُستخدم وقودا في الصراع، بل يمكن توظيفه كركيزةٍ لاقتصادٍ تعدّديٍّ ومرنٍ ونظامٍ إداريٍّ فاعلٍ ومتعدّد الأقاليم في إطار وحدةٍ وطنيةٍ سيادية
إنّ تجاوز هذه الحلقة المفرغة لا يقتصر على توقيع اتفاقياتٍ سياسيةٍ أو إبرام تحالفاتٍ ظرفيةٍ مع قوىٍ خارجيةٍ أو إقليمية، بل يتطلّب معالجة جذرية للذاكرة اليمنية نفسها، عبر ترسيخ مفهومٍ حديثٍ للدولة بوصفها المرجعية الحاضنة لمكوّنات المجتمع، لا خصما لها. وهذا يقتضي إعادة تعريف دور القبيلة والمرجعية الدينية والجهوية في إطارٍ وطنيٍّ متكاملٍ، يمزج عوامل القوة التقليدية بالمؤسّسات الحديثة. كما يفرض مراجعة شاملة للسياسات التنموية والإدارية، تضمن توزيعا عادلا للموارد، وبناء آلياتٍ تشاركيةٍ لمعالجة الاختلافات العميقة في التكوين الاقتصادي والاجتماعي. ففي بلدٍ متنوّعٍ مثل اليمن، لا يمكن فصل السياسة عن الواقع الجغرافي والتاريخي ولا عزل التنمية عن بناها الثقافية والاجتماعية.
ومن هذا المنظور، يظلّ المخرج الحقيقي رهن إدراك الجميع أنّ بقاء هذا البلد واستقراره لا يتحققان بتناسي الماضي أو القفز عليه، بل بتوظيفه لإثراء الهوية الوطنية المشتركة. فسبأ والإمامة والاستعمار ليست مجرد مراحل انتهت، بل هي تجارب حيّة ما زالت تتسرّب في الخطاب السياسي والاجتماعي، ولا سبيل إلى تجاوز تبعاتها إلّا بأن تكون أساسا لدروسٍ بنّاءةٍ تُسهم في إعادة صياغة العقد الاجتماعي، لا عبر استعادتها كأدوات صراعٍ أيديولوجيٍّ أو مذهبيٍّ أو مناطقي. في الوقت نفسه، إنّ اليمن بحاجةٍ إلى رؤيةٍ مستقبليةٍ جريئةٍ تُوازن بين العناصر المحلية القوية -القبيلة والعشيرة والنظام العرفي- وبين مشروعٍ للدولة يكون ممثلا للطموحات الجمعية ويعترف بحق الجميع في المشاركة والقرار. وهذا يتطلّب استقرارا سياسيا ودورا مسؤولا للنخب والقيادات، يضمن تحويل التحدّيات إلى فرصٍ للنهوض بمقومات الوحدة والاستقلالية الاقتصادية والتكامل الاجتماعي.
إنّ قدرة اليمن على تجاوز محنته الحالية مرهونةٌ بالقدرة على تفكيك تلك التراكمات التاريخية ونزع صواعق التوتّر. وفي الوقت ذاته، تبقى فرصه في إعادة الإعمار وبناء السلام متوقفة على الوعي بأنّ التنوّع الجغرافي والبشري ليس مصدرا للتفرقة ما لم يُستخدم وقودا في الصراع، بل يمكن توظيفه كركيزةٍ لاقتصادٍ تعدّديٍّ ومرنٍ ونظامٍ إداريٍّ فاعلٍ ومتعدّد الأقاليم في إطار وحدةٍ وطنيةٍ سيادية.
ويصبّ هذا الفهم في مصلحة الجميع، لأنّه يمثّل شرطا لإنهاء دوامة العنف التي تستمدّ طاقتها من ظلال الماضي والذكريات المنقسمة. وليس اليمن بعاجزٍ عن ذلك، فقد تجاوز سابقا تحدّياتٍ تاريخيةٍ كبرى، وعاش لحظاتٍ من الازدهار والتعايش، وهو قادرٌ على صنع ربيعٍ جديدٍ يشترك فيه سائر اليمنيين، إذا ما استلهموا خبرات أجدادهم ومزجوها بالطاقات المعاصرة، وصولا إلى بناء عقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ يتجاوز التعصّبات الضيقة وينبثق من الإرادة الحقيقية لتأسيس مستقبلٍ أفضل. وهنا يرتسم الخطّ الواصل بين الذاكرة والتجاوز: ذاكرةٌ يُعاد النظر فيها بعين التقدير والنقد معا، وتجاوزٌ يقود إلى دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ تستمدّ شرعيتها من القدرة على تلبية احتياجات مواطنيها وحماية هويتهم الجامعة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اليمني التاريخ المجتمع اليمن تاريخ مجتمع مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد صحافة اقتصاد رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الوطنیة ع الجغرافی فی الشمال المؤس سات فی الجنوب فی الیمن فی الوقت التنو ع فی إطار
إقرأ أيضاً:
الضربة قبل وصول الشحنة.. استخبارات المقاومة الوطنية ترسم معادلة جديدة في اليمن
في تطور وصف بـ"التحول النوعي" في الأداء الأمني والاستخباراتي، تمكّنت وحدات الاستخبارات التابعة للمقاومة الوطنية في اليمن من إحباط واحدة من أخطر عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية المتطورة إلى ميليشيا الحوثي، في عملية نوعية كشفت حجم التعاون الإقليمي، والتقدم التكنولوجي في رصد وتعطيل عمليات التهريب المعقدة التي تديرها طهران عبر شبكة من الوسطاء الإقليميين.
العملية لم تكن مجرد نجاح ميداني، بل مثّلت علامة فارقة في الصراع اليمني والإقليمي، إذ أظهرت قدرة المقاومة الوطنية على التحول من الرصد التقليدي إلى استخدام تقنيات حديثة في جمع المعلومات، وتحليل البيانات الكبيرة تحليلًا تقنيًا متطورًا، إلى جانب التنسيق الإقليمي والدولي لمواجهة الحرب الإلكترونية، لتصبح المقاومة أحد أبرز الفاعلين الأمنيين على الساحة.
من الرصد التقليدي إلى الحرب السيبرانية
تشير المعلومات والمصادر التي تم تداولها في المؤتمر الصحفي الأخير الذي عقدته المقاومة الوطنية بشأن شحنة الأسلحة الإيرانية المضبوطة إلى أن عملية الإحباط كشفت عن تحوّل جذري في أدوات المقاومة الوطنية وفق ما أفادت به مصادر استخباراتية. أوضحت إن إحباط الصفقة اعتمد على جملة من الأدوات الحديثة أبرزها: تحليل البيانات الضخمة المتدفقة، وذلك من خلال استخدام خوارزميات متقدمة لرصد الشحنات المشبوهة، حيث تم التعرف على سفينة تحمل علم دولة أفريقية انحرف مسارها عن خطوط الملاحة التجارية الطبيعية، مما استدعى المراقبة الدقيقة وربطها لاحقًا بحركة شحنات مشبوهة إلى ميناء الحُديدة.
إضافة إلى التعاون الاستخباراتي الإقليمي والدولي غير مسبوق، فالعملية جاءت بعد تنسيق عميق مع أجهزة استخبارات في دول عدة، شملت تتبع اتصالات لشبكات تهريب مرتبطة بإيران في اليمن والمنطقة، وتبادل بيانات ومعلومات مالية حول شركات تغطية وهمية. ناهيك عن الدور الكبير لوحدة الحرب الإلكترونية التابعة للمقاومة الوطنية التي نجحت في اختراق خوادم عسكرية حوثية كشفت وجود ترتيبات لاستقبال شحنة صواريخ من طراز "بالم" الإيراني، وهي نسخ مقلدة من صواريخ كروز الروسية، إضافة إلى أجهزة اتصالات مشفرة.
ثلاث مراحل العملية
ويؤسّس نجاح المقاومة الوطنية في تفكيك هذه الشبكة الخطرة وقطع طريق التسليح الإيراني للحوثيين لتحوّل استراتيجي نوعي في مشهد الأمن الإقليمي، إذ أظهرت العملية الأخيرة أن الجهات الفاعلة غير الحكومية، متى ما امتلكت كفاءة استخباراتية متقدمة، يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في التصدي لمشاريع التهديد العابر للحدود، بل وتتفوق أحيانًا على مؤسسات رسمية في الدقة وسرعة التنفيذ. وبحسب مصادر استخباراتية مطلعة، فإن العملية النوعية خضعت لتخطيط دقيق ونُفذت على ثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى – الرصد المبكر: انطلقت العملية من ميناء إيراني، حين رصدت وحدة الرصد التابعة للمقاومة حاوية مدرجة على أنها تحمل "تجارية عادية"، غير أن تحليل بيانات الوزن والمحتوى كشف وجود تضارب لافت مع الوثائق الجمركية، ما أثار الشكوك. هذا التحليل اعتمد على قاعدة بيانات شحنات سابقة وأسلوب المقارنة التنبؤية، ما أتاح للفرق الاستخباراتية استباق التحرك الإيراني منذ لحظاته الأولى.
المرحلة الثانية – التتبع الذكي: بعد الكشف الأولي، تم تفعيل وحدة التحليل المالي التي اعتمدت على تقنيات تحليل سلسلة الكتل (Blockchain) لتعقب مسار الأموال المرتبطة بالشحنة، والتي تنقّلت عبر شركات وسيطة وهمية في سلطنة عُمان، ومن ثم عبر دول أفريقية، قبل أن تصل إلى أطراف المهربين داخل اليمن. هذا التتبع الدقيق مكّن الأجهزة من بناء خارطة متكاملة لمسار الشحنة والجهات المتورطة في تمريرها، ما أسهم في تضييق نطاق الرصد الميداني على الأرض.
المرحلة الثالثة – الضربة العسكرية الدقيقة: في ذروة التنسيق الاستخباراتي، وبعد تحديد دقيق لموقع الشحنة وهي في طريقها إلى مناطق سيطرة الحوثيين، نفّذت وحدات خاصة من المقاومة الوطنية عملية عسكرية خاطفة. تم خلالها فرض طوق استخباراتي وميداني محكم على نقطة عبور بحرية مشبوهة قرب السواحل اليمنية، حيث جرت محاصرة السفينة المشغّلة، وتم تفتيشها والتحفظ على ما تحويه من أسلحة حديثة ومتطورة قبل تسليمها داخل معاقل الحوثيين. هذه الضربة لم تكن مجرد تدمير شحنة، بل ضربة استراتيجية عطّلت سلسلة إمداد كاملة وخط تهريب حساس.
التنسيق الإقليمي غير المسبوق
بحسب المعلومات تعمل وحدة الاستخبارات في المقاومة الوطنية بتنسيق مشترك مع نظراها من الأجهزة في عدة دول من تبادل المعلومات حول شبكات التهريب، ومعلومات عن وسطاء يعملون لخدمة أجندة إيران وميليشيا الحوثي وباسماء وشركات وهمية في عدة دول بالمنطقة.
كما أن نجاح ضبط شحنة الأسلحة الإيرانية مثل انتكاسة لجهود طهران والحرس الثوري الإيراني لتعويض الحوثيين عن خسائرهم في مواجهة القوات اليمنية أو التحالف الدولي والأوروبي في البحر الأحمر، خاصة بعد تدمير وتدهور قدراتهم الصاروخية.
مصادر غربية تشير إلى أن طهران قد تضطر إلى تغيير مسارات تهريبها، ما يزيد تكاليفها. بالخطوط السابقة أصبحت مكشوفة وواضحة بعد الإختراق النوعي الذي أفضى إلى ضبط إحدى أخطر شحنات الأسلحة التي تهدد أمن وأستقرار اليمن والمنطقة.
وأضافت المصادر أن نجاح عملية المقاومة الوطنية في البحر الأحمر مثلت رسالة للمجتمع الدولي، حيث كشفت العملية فشل آليات الرقابة الدولية في مراقبة الموانئ الواقعة تحت سيطرة الميليشيات الحوثية وإيضا استمرار تحدي إيران للقرارات الدولية بشأن تصدير الأسلحة وهذا ما يستدعي فرض عقوبات أكثر صرامة.
تعزيز شرعية المقاومة
نجاح المقاومة الوطنية في تفكيك هذه الشبكة الخطرة وقطع طريق التسليح الإيراني للحوثيين يؤسس لتحول استراتيجي جديد، حيث تلعب الجهات الفاعلة غير الحكومية دورًا فاعلًا في حماية الأمن الإقليمي، لا سيما حين تتفوق على مؤسسات رسمية في كفاءة الرصد وسرعة التنفيذ. كما أن العملية مثلت دليلًا واضحًا على أن المقاومة الوطنية لم تعد مجرد فاعل محلي في معادلة الحرب، بل تحوّلت إلى جهة استخباراتية إقليمية ذات أثر مباشر في موازين الصراع.
هذا الإنجاز يعكس بداية تحول استراتيجي في المشهد الأمني، حيث تثبت الحكومية– في ظروف الحرب والفوضى – أنها قد تتفوق من حيث الفعالية والمرونة على مؤسسات رسمية تتسم بالبيروقراطية أو الاختراق. فبينما تتعثر بعض أجهزة الدول في المواجهة الاستخباراتية مع إيران، تُظهر المقاومة أن الإمكانات المحلية، حين تُسند بتقنية متقدمة وشبكات دعم موثوقة، قادرة على تعطيل أذرع الحرس الثوري وحرمان الميليشيات من شريان الإمداد الحيوي.