The Grievous Political Economy
of Port Sudan and Nairobi Governments

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
????رغم مرور عامين على تصاعد الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإن كلا التحالفين (تحالف بورتسودان المدعوم من الجيش، وتحالف نيروبي المدعوم من الدعم السريع) لم يتمكنا من إعلان حكومة موثوقة تدير البلاد.

ويعود هذا التأخير إلى مجموعة من العوامل المتعلقة بالاقتصاد السياسي الذي تجسده العلاقة التفاعلية بين الاقتصاد والسياسة، بتأثير القوى السياسية على الأداء الاقتصادي وتأثير الواقع الاقتصادي على الوضع السياسي. ففي حالة حكومتي بورتسودان ونيروبي المعلن عنهما، فإن الأزمة تشمل تعقيدات مركبة تؤثر على الاقتصاد السياسي وتشمل غياب الشرعية، والتناقضات الداخلية في حواضن الحكومتين، والتحالفات غير المستقرة، وعدم الاعتراف والمقاطعة الدولية، وفشل طرفي الحرب في تحقيق سيطرة كاملة على السودان، مما خلق تحديات معقدة فرضت تباطؤ التحالفين في تشكيل الحكومتين.
1. تحديات الاقتصاد السياسي لحكومة بورتسودان
????حكومة بورتسودان لا تحظى بشرعية محلية أو دولية، مما يجعلها غير قادرة على توقيع اتفاقيات دولية أو جذب الاستثمارات المحلية والدولية، خاصة وأن الاقتصاد السوداني يعتمد بشكل كبير على التعاون الدولي والإقليمي (المساعدات، التجارة، الاستثمار)، وبدون اعتراف عالمي، تبقى الحكومة معزولة اقتصادياً.
???? تحالف قيادة الجيش مع الإسلامويين أفرز شراكة غير مستقرة إذ لكل منهما مصالح اقتصادية متضاربة. فالإسلامويون يسيطرون على شبكات اقتصادية موازية (شركات الأمن، الذهب، العقارات)، مما يقلل من سيطرة الدولة التي يقودها الجيش على الموارد. كما يوجد صراع داخلي بين ضباط الجيش غير الإسلامويين والتيار الإسلاموي، مما خلق بيئة غير مستقرة للاستثمارات والقرارات الاقتصادية.
???? حكومة بورتسودان تعتمد على الريع المتمثل في عائدات الموانئ والجمارك، لكنها لا تملك سيطرة على القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، حيث تراجع الإنتاج الزراعي بسبب الحرب وانعدام الأمن، مما زاد من الاعتماد على الاستيراد ورفع معدلات التضخم.
???? نظراً لتوجس الحلفاء الإقليميين من النفوذ الإسلاموي على حكومة بورتسودان فقد ظلوا مترددين في ضخ استثمارات مؤثرة بسبب دور الإسلامويين في تأجيج الحرب وإشاعة عدم الاستقرار. وعليه فإن حكومة بورتسودان ربما تواجهها ضغوط اقتصادية من الحلفاء الإقليميين لدفعها نحو تسوية سياسية قد لا تتناسب مع مصالح الإسلامويين.
????يستهلك تمويل الحرب والإنفاق العسكري جزءاً كبيراً من الميزانية في تمويل الحرب ضد الدعم السريع، ما يستنزف الموارد المخصصة للخدمات والتنمية، الأمر الذي يصعد عُزْلَة حكومة بورتسودان عن الشعب. وذلك فضلاً عن أن استمرار الحرب يجعل حكومة بورتسودان غير قادرة على التخطيط لاقتصاد مستدام في ظل إعطائها الأولوية للإنفاق العسكري.
2. تحديات الاقتصاد السياسي لحكومة نيروبي
???? تعاني حكومة نيروبي من فقدان السيطرة المؤسسية على الاقتصاد، حيث تفتقر إلى مؤسسات اقتصادية منظمة مما أدى لاعتماد الدعم السريع على الاقتصاد الموازي (تهريب الذهب، الجبايات غير القانونية، الابتزاز المالي). كما يعيق حكومة نيروبي غياب مؤسسات مالية رسمية تجعل من المستحيل إدارة اقتصاد متكامل، مما يؤدي إلى انهيار أي محاولات للاستقرار المالي.
???? تكابد حكومة نيروبي من تكوينها من تحالف غير متجانس اقتصادياً، إذ يضم الدعم السريع، والحركات المسلحة، والأحزاب السياسية، والإدارات الأهلية ذات المصالح الاقتصادية المتضاربة. فالدعم السريع يعتمد على نهب الموارد وتهريب الذهب، ولا يهتم ببناء اقتصاد مستدام. والحركات المسلحة تحتاج إلى مصادر تمويل مستمرة، مما يدفعها نحو فرض الضرائب العشوائية في مناطق سيطرتها. أما الأحزاب السياسية مثل جناح حزب الأمة القومي وجناح الاتحادي الديمقراطي الأصل فتعاني من عدم القدرة على فرض رؤيتها ولعب أي دور في الاقتصاد الرسمي بسبب ضعفها أمام مكونات التحالف الأخرى.
????المؤثرات الخارجية على حكومة نيروبي تحد من استقلالها الاقتصادي، حيث يعتمد الدعم السريع على دعم خارجي من بعض الدول الإقليمية ويفتقر إلى مصادر تمويل مشروعة ومستدامة داخل السودان. ذلك أن توقف الدعم الإقليمي بسبب الضغوط الدولية المحتملة سيدفع حكومة نيروبي نحو أزمة مالية خانقة.
???? تعاني حكومة نيروبي من فقدان التأثير على القطاعات الاستراتيجية مثل عدم السيطرة على البنوك، والتجارة الخارجية، والمؤسسات الاقتصادية الوطنية، مما يحد من قدرتها على تنفيذ أي سياسات اقتصادية فعالة. كما أن الاقتصاد في المناطق التي سيطر عليها تحالف نيروبي مدمر تماماً بسبب الحرب، مما يعني عدم وجود قاعدة اقتصادية يمكن البناء عليها.
3. تحديات الاقتصاد السياسي المشتركة بين الحكومتين
????تكابد حكومتا بورتسودان ونيروبي من التفاعل الطردي السالب بين الاضطراب السياسي وتردي الاقتصاد حيث لا يمكن لأي من الحكومتين تنفيذ سياسات اقتصادية طويلة المدى في ظل حالة عدم الاستقرار العسكري والسياسي. كما أن استمرار الحرب يؤدي لاستمرار هروب رؤوس الأموال، وتوقف الاستثمارات، وانخفاض الإنتاج.
????تعاني الحكومتان من انهيار الإيرادات العامة بسبب فقدان سيطرة أي منهما على القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الذهب، والصادرات الزراعية، والنفط، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإيرادات الحكومية. كما ستواجهان تراجع الإيرادات الضريبية والجمركية بسبب انخفاض النشاط الاقتصادي وعدم قدرتهما على فرض الجباية في المناطق غير الخاضعة للسيطرة. وسيدفع ذلك الحكومتين للاعتماد على الضرائب غير المباشرة ورفع أسعار الخدمات العامة الأمر الذي يزيد من معاناة المواطنين ويؤدي لتَوَرُّم الاقتصاد الموازي.
????تواجه حكومتا بورتسودان ونيروبي تحديات جسيمة في تفعيل السياسة النقدية بسبب فقدان كليهما السيطرة على النظام المصرفي. فبرغم سيطرة حكومة بورتسودان على بنك السودان المركزي، إلا أن النظام المصرفي منقسم وغير قادر على تنفيذ سياسات نقدية فعالة. ويؤدي ذلك إلى تواصل ضعف الثقة في البنوك المحلية مما يقود لنزوح الودائع إلى الخارج أو الاكتناز خارج النظام المصرفي. وفي المقابل فإن عدم سيطرة حكومة نيروبي على البنك المركزي قد يدفعها لتأسيس بنك مركزي موازي مما يضاعف من الفوضى المصرفية والتوسع غير المسبوق في طباعة النقود وانفلات التضحم وانهيار قيمة الجنيه السوداني، حيث بدأت بعض المناطق في "دَوْلَرَة" و "دِرْهَمًة" اقتصاداتها بالتعامل بالدولار أو الدرهم الإماراتي بدلًا من الجنيه السوداني. وهذا يجعل من المستحيل على الحكومتين إدارة السياسة النقدية أو فرض سيطرتهما على الاقتصاد.
????تخضع حكومتا بورتسودان ونيروبي لضغوط متزايدة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي بسبب تزايد جرائم الحرب من الجانبين، مما يؤدي إلى فرض عقوبات إضافية من المجتمع الدولي قد تقود لتلاشي فرصة صمود أي من الحكومتين أمام تبعاتها الوخيمة.
????أدت الحرب لمعاناة السودان من أسوأ أزمة إنسانية في العالم أثرت سلباً على الاقتصاد السياسي إذ نزح نحو 9 ملايين شخص داخل السودان، ونزح أكثر من 3 ملايين إلى الدول المجاورة كلاجئين. ويواجه نحو 26 مليون شخص (أكثر من نصف السكان) جوعاً حاداً، ويعاني 18 مليون شخص من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي. كما أثرت الحرب على الرعاية الصحية والخدمات الأساسية، حيث إن 80% من المرافق الصحية في المناطق المتضررة من النزاع إما متوقفة عن العمل أو مُدمَّرة. وتنتشر الأمراض الفتاكة، بما في ذلك الكوليرا وحمى الضنك والملاريا، حيث يفتقر الملايين إلى مياه شرب آمنة. ويقابل هذه الكارثة الإنسانية عجز كامل من تحالفي بورتسودان ونيروبي عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، مما يزيد من فقدان شرعيتهما الشعبية.
????تعاني الحكومتان من ضعف النظام المصرفي وانهيار النظام المالي، حيث أُصِيْبَ النظام المصرفي بالشلل في السودان من تبعات الحرب، مما يجعل التحويلات المالية والتجارة الخارجية شبه مستحيلة. وأدى ذلك لانتشار السوق السوداء والاقتصاد غير الرسمي مما يجعل التحكم في التضخم وسعر الصرف أكثر صعوبة.
????الحكومتان مهددتان بتوسع الاقتصاد الموازي وهروب رؤوس الأموال، حيث أصبح الاقتصاد غير الرسمي أكبر من ضِعْف الاقتصاد الرسمي، مما أدى إلى صعوبة فرض الضرائب على الأنشطة الاقتصادية والتحكم في السياسة النقدية. وتسبب التهريب وانتشار شبكات السوق السوداء في فقدان الدولة للسيطرة على مواردها المالية. وصاحب ذلك نزوح رجال الأعمال ورؤوس الأموال إلى الخارج بسبب المخاطر الأمنية والسياسية.
????تسببت الحرب في عزلة السودان عن النظام الاقتصادي الدولي وأصبح السودان مقطوعاً عن النظام المالي العالمي لعدم وجود حكومة معترف بها دولياً. وبالتالي لا يمكن لأي من الحكومتين الحصول على قروض أو دعم اقتصادي دولي دون حل سياسي شامل.
????تقلل الحكومتان المعطوبتان من فرص استئناف استفادة السودان من مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك). فالدول والمؤسسات الدولية الدائنة التي ساعدت السودان في الوصول إلى "نقطة القرار" في يونيو 2021 لن تتعامل مع حكومة بورتسودان أو حكومة نيروبي غير المعترف بهما رسمياً من المجتمع الدولي، مما يجعل التفاوض معهما حول تخفيض أو إلغاء ديون السودان مستحيلاً. وذلك فضلاً عن أن سعي الحكومتين لتأجيج الحرب يؤدي لاستمرار إحجام المؤسسات المالية الدولية عن تقديم مساعدات لدولة في حالة حرب، حيث لا يمكن لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التعامل مع حكومة عاجزة عن السيطرة على البلاد أو مواجهة اقتصاد موازٍ في السودان يهيمن عليه الجيش والمليشيات في ظل غياب أي رؤية إصلاحية اقتصادية.
4. الاقتصاد السياسي للسيناريوهات المستقبلية
???? سيناريو استمرار الحرب الذي يدعمه الإسلامويون في تحالف بورتسودان يقود لمزيد من الهشاشة الناتجة عن الضغوط الاقتصادية والسياسية، مما يعني أن الحكومتين ستواجهان مزيداً من الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تفاقم الانهيار الاقتصادي مُهَدِّدَةً بانفجار اجتماعي واسع، قد يطيح بكلتا الحكومتين.
???? سيناريو الحل السياسي الجزئي الذي تسعى له أي من الحكومتين ربما يؤدي لتحسن محدود في الأوضاع الاقتصادية ولكن ليس بالدرجة التي تكفي لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الموثوقة.
???? سيناريو حكومة انتقالية مدنية مستقلة ذات مصداقية يقودها التكنوقراط ويحتضنها تحالف شعبي واسع من قوى ثورة ديسمبر الشعبية بمكونيها المدني والعسكري، بحيث تحظى بقبول داخلي ودولي يُعيد السودان إلى المسار الصحيح اقتصادياً وسياسياً، ويفتح المجال أمام دعم المجتمع الدولي والإقليمي للسودان، مما يساعد في تحقيق إصلاحات اقتصادية عميقة ومدروسة، تشمل إعادة بناء المؤسسات المالية، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعي، واستعادة الثقة الدولية بعد توفر بيئة سياسية مستقرة. ودون ذلك، فإن التمادي في تشكيل حكومتي بورتسودان ونيروبي رغم عورهما البائن سيجعل السودان عالقاً في دوامة الفوضى والانهيار الاقتصادي، مما يُنْذِر السلام الإقليمي والدولي بعواقب وخيمة.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاقتصاد السیاسی حکومة بورتسودان النظام المصرفی على الاقتصاد حکومة نیروبی الدعم السریع نیروبی من سیطرة على مما یجعل

إقرأ أيضاً:

آبي أحمد وأفورقي: صراع الممرات البحرية يعيد شبح الحرب

تعيد تصريحات وتحليلات متقاطعة، سياسية وأكاديمية، تسليط الضوء على البحر الأحمر باعتباره ساحة صراع إقليمي مفتوح، في ظل تقارير عن تحوّل مدينة عَصَب الإريترية إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن، مقابل تلويح إثيوبيا بإمكانية الوصول إلى البحر حتى بالقوة. وبينما يحذّر خبراء من أن أي تصعيد محتمل سيجعل السودان الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً بسبب هشاشته الأمنية وانتشار المليشيات العابرة للحدود،

التغيير:كمبالا

تشهد منطقة القرن الأفريقي تصاعدًا في التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، وسط مخاوف إقليمية ودولية من عودة الصراع بين البلدين اللذين ظلا يتأرجحان لعقود بين الهدوء النسبي والانفجارات العسكرية في ظل خلافات مزمنة يتصدرها ميناء عصب والوصول إلى البحر الأحمر.

ويأتي هذا التصعيد في لحظة حرجة تمر بها المنطقة بأكملها، حيث تتشابك الأزمات في السودان والبحر الأحمر واليمن، بما يجعل أي شرارة جديدة قابلة للتمدد خارج الحدود التقليدية للصراع.

صراع الجغرافيا يتجدد

ويقع ميناء عصب على ساحل البحر الأحمر في أقصى جنوب إريتريا قرب الحدود الإثيوبية، وقد كان الميناء البحري الرئيسي لإثيوبيا قبل استقلال إريتريا عام 1993، الأمر الذي جعل أديس أبابا تعتمد اليوم بنسبة تفوق 90 في المئة على موانئ جيبوتي لتسيير تجارتها الخارجية.

ووفق تقارير نشرتها منصة «جيسيكا» المعنية بشؤون القرن الأفريقي، فقد شهد الخطاب الإثيوبي منذ خريف 2023 تصعيداً واضحاً، بعدما وصف رئيس الوزراء آبي أحمد الوصول إلى البحر بأنه “مسألة وجودية” لإنهاء ما سماه “السجن الجغرافي” لإثيوبيا.

ميناء عصب تحول إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن

منصة «جيسيكا»

وتوضح «جيسيكا» أن الجغرافيا المحيطة بالميناء تزيد حساسية المشهد العسكري المحتمل، إذ لا يبعد ميناء عصب سوى نحو ستين إلى سبعين كيلومتراً عن الأراضي الإثيوبية، ما يجعله كما تقول المنصة “نقطة احتكاك ذات خطورة عالية” في حال فشل المساعي الدبلوماسية. والحساسية الاستراتيجية للميناء لا تنبع من موقعه الجغرافي فحسب، بل أيضاً من تاريخه الحديث مع القوى الخارجية. فقد تحول بين عامي 2015 و2021 إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات العربية المتحدة خلال حرب اليمن، بموجب اتفاق منح أبوظبي حق استخدام الميناء وقاعدة جوية مجاورة لفترة طويلة. وتشير تقارير المنصة إلى أن الاستثمار الإماراتي شمل توسيع المدرج وبناء مرافق تخزين ومرافئ عميقة استخدمت لنقل الجنود والعتاد عبر البحر الأحمر.

علاقة لم تتعاف

الكاتب والمحلل السياسي النور حمد، يري أن جذور التوتر بين البلدين تعود إلى الحقبة التي استعمرت فيها إثيوبيا إريتريا، وهي فترة ألقت بظلالها الثقيلة على تاريخ العلاقة بين البلدين. فقد خاضت إريتريا حرب تحرير طويلة انتهت باستقلالها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، عقب الدور المركزي الذي لعبته في دعم جبهة تحرير التقراي والتحالف الإثيوبي الذي أطاح بنظام منغستو هايلي مريام. وبرغم هذا الإسهام، لم تنجح الدولتان في بناء علاقة مستقرة بعد الاستقلال، إذ ظلَّت الروابط اللغوية والدينية والثقافية التي تجمعهما عاجزة عن احتواء إرث الصراع، فتجددت الحرب بينهما بعد سنوات قليلة فقط.

ويشير حمد في مقابلة مع (التغيير) إلى أن واحدة من أكثر القضايا حساسية في العلاقة بين البلدين تتمثل في فقدان إثيوبيا لميناء عصب بعد استقلال إريتريا.

ويلفت إلى أن إثيوبيا، التي يتجاوز عدد سكانها المائة مليون نسمة، تحولت إلى دولة حبيسة تعتمد على موانئ جيبوتي وأرض الصومال البعيدة نسبيًا وذات القدرة المحدودة، بينما كان من الممكن في رأيه أن تشترط أديس أبابا الحصول على منفذ بحري مقابل الاعتراف باستقلال إريتريا، سواء عبر التأجير أو عبر ترتيبات اقتصادية طويلة الأمد.

ويرى أن إريتريا بدورها كان يمكن أن تبادر إلى تقديم تسوية تمنح إثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر، خاصة أن وجود اتفاق كهذا كان من شأنه تعزيز الاستقرار الاقتصادي والأمني للبلدين معًا.

غير أن الحسابات الجيوسياسية، كما يقول حمد، دفعت إريتريا إلى الإبقاء على قدرتها على الضغط عبر الموانئ، مستفيدة من حساسية إثيوبيا تجاه مسألة البحر الأحمر. كما لعب العداء المصري لإثيوبيا بسبب ملف مياه النيل دورًا في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، حيث استخدمت القاهرة، وفق تقديراته، كلًّا من السودان وإريتريا كأدوات ضغط على إثيوبيا في مراحل مختلفة من النزاع.

تلويح إثيوبيا بالوصول إلى البحر حتى لو بالقوة تهديد واضح ينذر بعودة الحرب

النور حمد

ويشير النور إلى أن تلويح إثيوبيا في السنوات الأخيرة بالوصول إلى البحر، حتى لو بالقوة، يعد تهديدًا واضحًا يُنذر بإمكانية عودة الحرب ما لم يتوصل البلدان إلى اتفاق يمنح إثيوبيا منفذًا بحريًا يخفف اختناقها الجغرافي. ومع ذلك، يشير إلى أن حل هذه الأزمة ممكن إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية، خاصة أن ما يجمع البلدين من تاريخ وثقافة ولغة أكبر وبما لا يقاس مما يربطها بمصر.

تعنت أسمرة يعقّد الحلول

ومن زاوية أخرى، يرى الناطق الأسبق باسم وزارة الخارجية السفير حيدر البدوي، أن احتمال الحرب بين البلدين يظل قائمًا، لكنه يعتقد أن اشتعال المنطقة وتعدد الأزمات قد يحد من فرص اندلاع مواجهة واسعة، لأن العالم اليوم غير مستعد لتحمل حرب جديدة في منطقة حساسة مثل البحر الأحمر.

مشكلة إثيوبيا لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة

السفير حيدر بدوي

ويرى خلال حديثه مع (التغيير) أن هناك جهودًا كثيفة تبذل لاحتواء التوتر، لكن تعنت النظام الإريتري يجعل المشهد أكثر تعقيدًا. ويضيف أن مشكلة إثيوبيا باعتبارها دولة غير مطلة على البحر لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة، وأن هذا المسار يتطلب بيئة سلمية واستقرارًا إقليميًا غائبًا حتى الآن.

 رسائل ومناورات إقليمية

أما أستاذ العلوم السياسية في الجامعات والمحلل السياسي،إبراهيم كباشي، فيصف الصراع الإثيوبي الإريتري بأنه صراع متجدد، يظهر ويختفي بتأثير العوامل الداخلية والخارجية. ويعتقد في إفادة مطولة لـ(التغيير) أن القرن الأفريقي يشهد حالة من الاستقرار النسبي، ما يقلل من احتمالات العودة إلى حرب مباشرة، رغم إمكانية التصعيد كوسيلة للضغط السياسي أو لتمرير أجندات وتحالفات جديدة. ويرى أن البحر الأحمر أصبح في مقدمة أولويات القوى الدولية بعد تداعيات الحرب اليمنية على التجارة العالمية

ساحل البحر الأحمر

ويعتبر أستاذ العلوم السياسية، أن الصراع القائم لا يقتصر على استهداف ميناء عصب فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل عوامل أخرى غير مباشرة وغير مرئية. ويرتبط هذا الصراع بتشابكات مع فاعلين على المستويين الإقليمي والدولي، حيث بدأت تتشكل تحالفات جديدة في المنطقة، من بينها التحالف الإريتري–المصري–الصومالي، وهو ما ينعكس على الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم.

وفي المقابل، كما يقول كباشي، تتمتع إثيوبيا بمكانة مهمة على مستوى شرق أفريقيا، وعلى مستوى القارة الأفريقية عموماً، إذ تعد من أكثر الدول امتلاكاً لشبكة علاقات ممتدة، إضافة إلى حضورها الواضح في الأجندة الدولية.

وبناءً على هذه المعطيات، تتزايد الدعوات من مختلف الأطراف لاعتماد الحلول الدبلوماسية، الأمر الذي يحدّ من احتمالات نشوب مواجهة عسكرية مباشرة أو انفجار الصراع.

وأن هذا الاهتمام يدفع نحو تفعيل دبلوماسية استباقية لمنع انفجار أي صراع جديد في المنطقة. ويشير إلى وجود رغبة لدى الطرفين في تجنب الحرب، ومع ذلك، يمكن توصيف هذا الوضع بأنه أزمة ذات طابع دوري، تميل إلى التصعيد ثم الانحسار، تبعاً للتحولات السياسية داخل الدول المعنية وبحسب تطورات المشهد الإقليمي بصورة عامة.

السودان الحلقة الأضعف في صراع الجوار

ويحذر كباشي من أن السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد بين إثيوبيا وإريتريا، نظرًا لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود التي تنشط في أراضيه. ويوضح أن المنطقة أصبحت مفتوحة أمام معسكرات تدعم أطراف الحرب السودانية، سواء تلك المرتبطة بالجيش أو بقوات الدعم السريع، ما يجعل أي اضطراب إقليمي قادرًا على إعادة تشكيل خريطة الصراع داخل السودان.

 السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود

أكاديمي

ويضيف أن احتمال تمدد الحرب إلى النيل الأزرق يصبح واردًا في ظل أي توتر إقليمي، وأن تدفقات اللاجئين ستزيد الضغط الإنساني على بلد يعاني أصلًا من الانهيار. كما يشير إلى أن شبكات التهريب والجريمة المنظمة ستستغل أي فراغ أمني جديد، ما يضعف مؤسسات الدولة السودانية، ويزيد صعوبة استقرارها.

ويخلص كباشي إلى أن معالجة مشكلة الدول الحبيسة في أفريقيا، ومن بينها إثيوبيا، تحتاج إلى حلول تنبع من داخل القارة، عبر الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية التي تستطيع ابتكار مسارات للتعاون الاقتصادي وتحسين البنية التحتية وتوفير الخيارات التجارية التي تقلل أسباب التوتر. ويرى أن أفريقيا تمتلك فرصًا واعدة لإطلاق مبادرات جديدة في مجالات الطاقة والتجارة والبنية التحتية، وأن استثمار هذا الهدوء النسبي يمكن أن يسهم في تهدئة الإقليم وتخفيف الضغوط التي تغذي الصراعات.

الوسومإثيوبيا إريتريا السودان القرن الأفريقي ساحل البحر الأحمر ميناء عصب

مقالات مشابهة

  • ما الذي تخشاه أوروبا من انهيار السودان؟
  • الاعتراف الإخواني بإدارة الحرب يفضح مزاعم «سلطة بورتسودان»
  • انقضاء عام 2025 والحرب تقتل حاضر ومستقبل السودانيين
  • آبي أحمد وأفورقي: صراع الممرات البحرية يعيد شبح الحرب
  • العقوبات المتراكمة ليست كافية لوقف الحرب في السودان
  • حكومة السودان تدين الهجوم على مقر الأمم المتحدة بكادقلي وتحمّل الدعم السريع المسؤولية
  • النفط يُحمى.. والشعب السوداني يترك للمجهول!
  • محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
  • غولان: كان بالإمكان إعادة محتجزين بغزة أحياء لولا تعنت حكومة نتنياهو
  • سياسي: خطة المفوضية الأوروبية تجاه أموال روسيا المجمدة تهدد الاقتصاد الأوروبي