التفاوض الجماعي.. طوق نجاة للصحافة العربية
تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT
لا أعرف على وجه اليقين ما إذا كان علينا المهمومين بحاضر الصحافة ومستقبلها أن نفرح أم نحزن ونحن نطالع تقرير معهد رويترز لدراسات الصحافة لعام 2025 الذي صدر منذ أيام قليلة، ويحمل من الآمال والبشريات بقدر ما يحمل من القلق والإحباط حول مستقبل الصحافة.
التقرير الذي استند إلى «استطلاع واسع النطاق شمل 326 من قادة الأخبار في51 دولة، ويستكشف أحدث التطورات في الصحافة وأولويات العام المقبل، خلص إلى استمرار التحديات الاقتصادية التي تواجهها صناعة الصحافة في العالم، والتي ضاعفت من حدتها منصات الذكاء الاصطناعي التي وصفها التقرير بـ «الجشعة».
الأمر المؤكد الذي يجب أن يعيه الصحفيون في كل أنحاء العالم أن كل المنصات الصحفية سواء التقليدية منها أو الجديدة ما زالت تنزف من الجراح الكثيرة التي أصيبت بها من كل تطور تقني ظهر خلال السنوات الماضية، وآخرها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد تحتاج إلى غرف إنعاش عالمية في كل دولة يتم وضعها فيها على أجهزة تنفس صناعي لإطالة عمرها بضع سنوات أخرى، خاصة بعد التغيرات التي أحدثتها هذه التقنيات والشركات العملاقة التي تقف وراءها، والتي حرمت أو كادت المنصات الصحفية والإعلامية حتى من مرور أعداد كبيرة من المستخدمين على مواقعها والاستفادة من ذلك إعلانيا.
لا أريد أن أكون في صف المتشائمين، خاصة وأنا أنتمي إلى هذه المهنة العظيمة التي تعلمنا أنها رسالة في المقام الأول وليست مجرد عمل تقليدي روتيني. ومع ذلك فمن الأمانة أن أعترف أن الثقة في مستقبل الصحافة كما عرفناها تتآكل بشكل كبير عاما بعد عام، مثلما تتآكل الثقة الجماهيرية في الصحافة نفسها لحساب وسائط جديدة تتغذى وتكبر وتتضخم على ما ينتجه الصحفيون من أخبار، ومعلومات، ومعارف.
المؤشرات التي تضمنها تقرير رويترز تشير إلى التراجع ليس فقط على صعيد الواردات والدعم المالي وخسارة الجمهور ولكن أيضا على صعيد التأثير الذي كانت تتمتع به الصحف والمواقع الإخبارية والمحطات التلفزيونية والإذاعية، بعد أن سحبت منصات التواصل الاجتماعي البساط من تحت أقدامها، والدليل على ذلك أن المرشحين في الانتخابات في مختلف دول العالم استبدلوا استخدام هذه المنصات باستخدام وسائل الإعلام لتمرير رسائلهم وإدارة حملاتهم الانتخابية، مثلما حدث في الانتخابات الأمريكية الأخيرة والتي أكد نجاح «ترامب» فيها أن تأثير وسائل الإعلام، التي كانت الغالبية العظمى منها ضد إعادة انتخابه، أصبح محدودا للغاية، وكان السبب الرئيس في فقد شبكة «سي إن إن» نحو ثلث جمهورها منذ هذه الانتخابات.
يبدو الأمر محسوما لغير صالح الصحافة الورقية والإلكترونية والمنصات الاجتماعية التي تستخدمها للوصول إلى الجمهور، في ظل تزايد لجوء الجمهور إلى مواقع الذكاء الاصطناعي للحصول على الملخصات الإخبارية دون المرور بمواقع الصحف وحساباتها، وهو ما ينعكس سلبا على دخل وسائل الإعلام من الإعلانات التقليدية والإلكترونية، ويبدو الأمر محسوما أيضا فيما يتصل بالخفض المستمر للوظائف الإعلامية في كل الوسائل والمنصات تقريبا، وتكفي هنا الإشارة إلى أن الصحفيين فقدوا نحو 2500 وظيفة في الأسواق الإعلامية الرئيسية خلال عام 2024 وشمل هذا الفقد مؤسسات صحفية وتلفزيونية كبيرة وراسخة، مثل «وول ستريت جورنال» و«فوكس» في الولايات المتحدة، و«الجارديان»، و«ديلي ميل» في المملكة المتحدة.
وتواجه الأخبار التلفزيونية عامًا من تقليص حجمها حول العالم مع تحول اهتمام الجمهور إلى منصات البث التلفزيوني المدفوعة.
في ظل التشاؤم بمستقبل الصحافة يبقى هناك ضوء في نهاية النفق المظلم. فوفقا للتقرير، ما زال نحو41% من الناشرين يثقون بقدرة مؤسساتهم الإعلامية على البقاء والاستمرار. ولعل ما يبعث على التفاؤل توجه الشركات الكبرى التي تقدم خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي على عقد اتفاقيات مع وسائل الإعلام المهمة لاستخدام محتواها في عمليات البحث وتقديم الإجابات عن أسئلة المستخدمين. ففي العام الماضي وقعت شركة «اوبن آي» المالكة لـ «شات جي بي تي» اتفاقية ترخيص بقيمة ربع مليار دولار مع «نيوز كوربريشين» المالكة لصحف «وول ستريت جورنال»، و«نيويورك بوست»، و«التايمز»، و«ذا صن» لاستخدام منتجاتها الصحفية في تقديم ملخصات إخبارية موثقة للمستخدمين. وقد سارت على النهج نفسه صحف أخرى مثل «فايننشال تايمز»، و«لوموند»، ووكالة أنباء «رويترز» ووكالة أنباء «اسوشيتد برس» الأمريكية. وتحاول شركات أخرى مثل «أبل»، و«أمازون» إبرام صفقات مماثلة مع ناشري الصحف لنفس الغرض.
إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: أين صحافتنا العربية من هذه التطورات الدراماتيكية في المشهد الإعلامي الدولي؟ وهل تستطيع أن تفرض على شركات الذكاء الاصطناعي أن تعاملها كما تعامل المؤسسات الإعلامية الغربية؟
لقد أصبح تغيير النموذج الاقتصادي للصحافة العربية الذي يعتمد على المصادر التقليدية للدخل مثل البيع المباشر، والاشتراكات، والإعلان بالإضافة إلى الدعم الحكومي، أمرا حتميا إذا أرادت أن تبقى في المستقبل.
لقد نجحت صحف كثيرة بإجبار شركات التكنولوجيا العملاقة خاصة شركات محركات البحث والذكاء الاصطناعي على مشاركتها في الأرباح الطائلة التي تجنيها بفضل ما تجمعه هذه الصحف من أخبار ومعلومات. وعلى المنوال نفسه تستطيع وسائل الإعلام العربية إن أرادت أن تتفاوض بشكل جماعي مع هذه الشركات لمنحها نسبة من عائدات استخدام المحتوى العربي الذي يظهر ضمن محركات البحث أو في محركات برامج الذكاء الاصطناعي.
على وسائل الإعلام العربية الإخبارية وغير الإخبارية أن تنضم إلى الجهود العالمية التي تسعى للضغط على هذه الشركات للحصول على نصيب عادل من الأموال الضخمة التي تجنيها من وراء استخدام محتواها. لا نطالب بأن تكون هذه التعويضات مماثلة للتعويضات التي تمنحها لوسائل الإعلام الغربية، لكن المبدأ نفسه يجب أن يتم تبنيه وتفعيله خاصة بالنسبة لوسائل الإعلام، ليس في العالم العربي فقط، ولكن في العالم الثالث بوجه عام. إن الوصول إلى اتفاقات ترخيص مع الشركات العملاقة يحقق العدالة للطرفين ويؤدى إلى انتعاش العمل الإعلامي ويحافظ على المهنة الصحفية.
كل ما نحتاجه أن نبادر دون تأخير إلى مخاطبة تلك الشركات وبشكل جماعي، وأن نخيرها بين التفاوض للوصول إلى اتفاق أو منعها من استخدام محتوى وسائل الإعلام العربية سواء في محركات البحث أو في برامج الذكاء الاصطناعي. وإذا كان أمر المخاطبة الجماعية صعبا فإن بعض وسائل الإعلام الكبيرة في الدول العربية يمكن أن تأخذ زمام المبادرة في هذا الطريق الذي قد يكون طوق نجاة حقيقي للصحافة العربية. يكفي أن نذكر هنا أن مثل هذه الاتفاقات، التي جاءت بعد ضغوط كثيرة متبادلة، وفرت للصحف الأسترالية 200 مليون دولار سنويا من منصات التواصل الاجتماعي، لو توافر نصفها فقط للصحف ووسائل الإعلام العربية لشهدت نقلة نوعية كبيرة على جميع المستويات، وفتحت مئات الوظائف للصحفيين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وسائل الإعلام العربیة الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
7 فرص لغرف الأخبار في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي.. ما الذي يريده الجمهور؟
أكد موقع جورناليزم المتخصص بمواكبة تطورات مهنة الصحافة أن الجمهور لا يزال يُقدر بشدة الإشراف البشري والشفافية والاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، وشدد على أن غرف الأخبار التي تعطي الأولوية للمعايير التحريرية الواضحة والتقارير التي ينجزها محررون بشر، ستكون في وضع أفضل أمام المشهد الإعلامي الذي يحركه الذكاء الاصطناعي.
وكان تقرير لمعهد رويترز كشف خلال الشهر الحالي أن الثقة في الأخبار المنتَجة بالذكاء الاصطناعي لا تزال منخفضة رغم تزايد استخدامه، في حين أن غرف الأخبار التي تعتمد معايير تحريرية صارمة وتوضح دور الذكاء الاصطناعي ستكون الأقدر على كسب ثقة الجمهور.
وإلى جانب أن استخدام الجمهور للذكاء الاصطناعي التوليدي في الأخبار آخذ في الازدياد، خلص تقرير "الذكاء الاصطناعي التوليدي والأخبار 2025" الصادر عن المعهد إلى جملة من الاستنتاجات المرتبطة باحتياجات الجمهور، والتي توفر فرصا في المقابل لغرف الأخبار لاستثمار الذكاء الاصطناعي على النحو الصحيح.
1- الجمهور أكثر دراية بالذكاء الاصطناعي
وبيّن التقرير أن ثلث الأشخاص (34٪) يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي أسبوعيا، وهو ضعف الرقم المسجل العام الماضي، كما استخدم ما يقرب من ثلثي الأشخاص (61٪) نظاما من أنظمة الذكاء الاصطناعي في حياتهم، بزيادة 21 نقطة مئوية.
ماذا يعني ذلك؟ مع تزايد فهم الجمهور ستكون المعايير التحريرية الصارمة بشأن الذكاء الاصطناعي ضرورية للحفاظ على الثقة. سيكون الجمهور الملم بالذكاء الاصطناعي أسرع في انتقاد الممارسات السيئة أو المحتوى منخفض الجودة. 2- فجوة كبيرة في الشعور بالراحة بين المحتويينوخلص التقرير إلى وجود تباين واسع من الشعور بالراحة إزاء الأخبار التي ينتجها الذكاء الاصطناعي والأخبار التي ينتجها البشر، إذ إن (12٪) فقط من الناس يشعرون بالراحة تجاه الأخبار التي ينتجها الذكاء الاصطناعي بالكامل، وهو رقم يزداد مع زيادة مشاركة البشر ليصل إلى (62٪) من الثقة في المحتوى الذي ينتجه البشر بالكامل.
إعلان ماذا يعني ذلك؟ يزداد قبول الذكاء الاصطناعي مع الإشراف البشري. 3- ميزات الذكاء الاصطناعي غير واضحة في الأخباروأشار تقرير معهد رويترز إلى أن ثلاثة من كل خمسة (60٪) لا يُبلغون عن رؤية ميزات الذكاء الاصطناعي الموجهة للجمهور، في حين يرى واحد من كل خمسة (19٪) علامات الذكاء الاصطناعي على أساس يومي.
ماذا يعني ذلك؟ هناك فجوة بين تطبيق الذكاء الاصطناعي وظهوره للجمهور. تتاح لغرف الأخبار فرصة لجعل ميزات الذكاء الاصطناعي وعلاماته أكثر وضوحا وأهمية مما يعزز الشفافية والثقة.
وأظهر التقرير أن أكثر من نصف الأشخاص بين 18 و24 عاما (59٪) يستخدمون الذكاء الاصطناعي أسبوعيا، وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 55 عاما (20٪).
ماذا يعني ذلك؟ الجمهور الأصغر سنا هو الرائد في اعتماد الذكاء الاصطناعي وقد يكون أكثر انفتاحا على حالات الاستخدام المبتكرة. قد يحتاج الجمهور الأكبر سنا إلى مزيد من الدعم والطمأنينة بشأن المعايير التحريرية. 5- استخدام الذكاء الاصطناعي للبحث عن المعلوماتويستخدم 24٪ من الناس الذكاء الاصطناعي للحصول على المعلومات، بينما يستخدمه 21٪ لإنشاء الوسائط، وفق التقرير الذي أشار إلى أن الوضع كان معكوسا في العام الماضي.
ماذا يعني ذلك؟ هناك فرصة أمام غرف الأخبار لتضع نفسها كمصدر موثوق به ضمن عادات البحث عن المعلومات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، أي عبر إنشاء محركات بحث خاصة بها مدعومة بالذكاء الاصطناعي. 6- البريطانيون المتشككونويُعد الناس في المملكة المتحدة من بين الأكثر تعرضا للإجابات التي يولدها الذكاء الاصطناعي (64٪)، وهي ثاني أعلى نسبة، لكنهم الأقل ثقة في تلك الإجابات (40٪).
ماذا يعني ذلك؟ سيكون إظهار الاستخدام المسؤول والأخلاقي للذكاء الاصطناعي أمرا حاسما لكسب ثقة الجمهور البريطاني الأكثر حذرا وتمييزا. 7- الأخبار جاهزة بالفعل للذكاء الاصطناعيويقول التقرير إن ثمة اعتقادا سائدا لدى الناس بأن استخدام الذكاء الاصطناعي أكثر انتشارا في الأخبار (51٪) منه في القطاع العادي (41٪)، وذلك على الرغم من أن هذا التصور أكثر وضوحا تجاه شركات وسائل التواصل الاجتماعي (67٪) ومحركات البحث (68٪).
ماذا يعني ذلك؟ يتفوق المتفائلون على المتشائمين عندما يتعلق الأمر بالفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي على حياة الأفراد. نظرا لانتشار التصور بأن الذكاء الاصطناعي مدمج بالفعل في إنتاج الأخبار، يجب على غرف الأخبار أن تكون سباقة في الإعلان عن كيفية استخدامها للذكاء الاصطناعي وأسباب ذلك.