مع الزيارة الأخيرة لنائب الرئيس الأميركي جيمس دي فانس، وكل من ستيف ويتكوف وجاريد كوشنير بات واضحاً حتى للإسرائيليين أنفسهم، أو الجزء الأكثر تأثيراً منهم أن دولة الاحتلال لم تعد مجرّد أداة، وعصا غليظة في يد الولايات المتحدة الأميركية، وإنّما يتأكد يوماً بعد يوم، وكنتيجة مباشرة لهذه الحرب الإجرامية على الشعب الفلسطيني أنها ــ أي دولة الاحتلال ــ ليست إلّا محمية أميركية خاصة، بسبب أهميتها الخاصة، في ظروف تاريخية خاصة في إقليم خاص، ومصالح أميركية مميّزة وخاصة.
كل هذا الخاص، وكل هذه الخصوصية لا تلغي، ولن تلغي بعد الآن، وليس هناك من بديل أو طريق سوى أن تكون دولة الاحتلال هي في الجوهر، وأحياناً كثيرة في الشكل، أيضاً، دولة المحمية الأميركية في الإقليم.
الجديد في أمر هذه المحمية ينطوي على أعلى درجات الأهمية والخصوصية الفريدة في العلاقات الدولية على مرّ كامل التاريخ الحديث. يلاحظ منذ عدة شهور على الأقلّ أن الإدارة الأميركية نفسها هي المعنية على وجه الخصوص بإظهار أن دولة الاحتلال ليست أكثر من «هذه» المحمية مهما حظيت من دعمٍ وإسنادٍ، وأحياناً تماهٍ تامٍ مع مصالح الدولة العبرية الشديدة الخصوصية.
هذه العلاقة الفريدة في إطار كامل تاريخ الدبلوماسية وعلاقات التحالف في الإطار الأعمّ والأشمل للعلاقات الدولية هي واحدة من أعقد مسائل السياسة في الشرق الأوسط.
ليس هذا فحسب، بل إنها واحدة من أكثر المسائل التباساً وإثارة للجدل السياسي بين مختلف التيارات والاتجاهات كلها ومن دون استثناء.
إضافةً إلى هذا الجديد الكبير، والسبب ــ كما أرى ــ يعود في الحقيقة إلى خصوصية التركيب النفسي لدونالد ترامب نفسه، وإلى «حقيقة» التوجّهات «الترامبية» من زاوية كل الأبعاد الفكرية لهذا التيار، السبب الحقيقي في حرص هذه الإدارة على الإفصاح مباشرة عن دور «المحمية» هو حساسية المصالح الأميركية في منطقة الإقليم، ومحاولات «اليمين» المهووس في دولة الاحتلال على «إثبات» ما هو «منافٍ» ومعاكس لهذه الواقعة، وهو الأمر الذي أدّى إلى إظهارها وكأنها فعلاً معاكسة للواقع، أو لواقع هذه العلاقة.
في مرحلة جو بايدن كان بالإمكان «السكوت» عن «الهوس» الإسرائيلي، خصوصاً وان علاقات العولمة لم تكن تتطلّب إعادة ضبط مفاهيم ومقولات هذه العلاقة الإشكالية، أما بعد مجيء الإدارة «اليمينية» الجديدة في أميركا، وبعد أن أصبحت «العولمة» الأميركية الجديدة هي عولمة إحكام القبضة الأميركية ليس من موقع الشراكة، مهما كانت هذه الشراكة مجحفة وتسلّطية، وإنما من موقع الإخضاع والتحكّم.
وكان بإمكان حتى هذه الإدارة أن تتغافل قليلاً عن تبجّحات أقطاب «اليمين» الفاشي الإسرائيلي التي غالباً ما كانت «تحرج» أحياناً ترامب والإدارة نفسها، لكن التحوّلات الكبيرة التي طرأت على آراء الجمهور الأميركي إزاء السياسات الإبادية والإجرامية والوحشية الإسرائيلية، والتحوّلات «الحسّاسة والخطرة» التي وصلت إليها هذه التحوّلات داخل البيت «الجمهوري وداخل الأطر الانتخابية لترامب نفسه، أجبرته على إعادة ضبط مقولات ومفاهيم هذه العلاقة الجدلية والإشكالية إلى حد بعيد.
كما أن في جديد هذا الإفصاح الأميركي عن شؤون وشجون هذه «المحمية» أن الفشل الإسرائيلي في حسم ملفات الإقليم الساخنة والحارقة، أيضاً، قد تحول إلى الطريقة التي «يجرجر» بها نتنياهو الإدارة الأميركية إلى أهداف مبهمة وغامضة، وغير محدّدة، ولا ملموسة، والأهم لم تعد قابلة للتحقيق، وأن استمرار الحرب لا يعني سوى خسارة الحزب الجمهوري للانتخابات إذا لم تتوقف بأسرع وقتٍ ممكن، وذلك لأن التأخّر أكثر من ذلك ربما سيعني أن الوقت لوقفها سيصبح بلا فائدة، وسيتعيّن على الإدارة الجمهورية، وعلى ترامب حينها أن يصبح أسيراً للورطة الأميركية في تفاصيل إستراتيجية نتنياهو الهلامية في الآليات، والأكثر هلامية في الأهداف.
أرادت الإدارة الأميركية أن تفصح عن «المحمية» الإسرائيلية حتى تتولّى هي بنفسها الإشراف المباشر على تنفيذ «خطة شرم الشيخ»، وبما يحقق الكثير من التطلّعات الإسرائيلية، ولكن دون تمكّن نتنياهو من الإشراف المباشر على هذه الخطة، لأن الأخير سرعان ما سيحول هذا الإشراف المباشر عليها إلى دهاليز جديدة لاستمرار الحرب البربرية، حرصاً منه على مصالحه الخاصة، وعلى مصالح «الائتلاف الفاشي» قبل حرصه على المصالح الأميركية.
فشل الحكومة الفاشية الإسرائيلية، بل والكيان الكولونيالي أصبح أكبر من المداراة عليه
والجديد في أمر هذه المحمية أن فشل الحكومة الفاشية الإسرائيلية، بل والكيان الكولونيالي أصبح أكبر من المداراة عليه. فقد ثبت بالملموس الآن أن التردّد الإسرائيلي بزجّ قواتها البرّية لغزو واحتلال مباشر لمدينة غزّة لم يكن «تعقّلاً» بقدر ما كان خوفاً حقيقياً من الغرق هناك، ولكن الغرق في هذه المرة كان من دون أي غطاء، لا من الجيش، ولا من المجتمع الإسرائيلي، ولا من أميركا، ولا حتى من بلدان «الغرب» المؤثّرة، وكان الذهاب قُدماً في هكذا عملية في حالة فشله، وكان هذا هو الاحتمال الأرجح حسب كل التقديرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية، فلم يكن سوى الوصفة المضمونة ليس لسقوط نتنياهو، وإنما لسقوط كل المنظومة «اليمينية الفاشية» من المسرح السياسي، إضافةً إلى بعثرة قواه، وتشتّت أطيافه نحو اصطفافات جديدة.
وربما أن أحد الأسباب التي تكمن في خلفية الإفصاح عن أحوال المحمية الأميركية، هو خوف الإدارة من هروب وتهرّب نتنياهو من المضيّ قُدماً في المرحلة الثانية من «اتفاق شرم الشيخ»، ولهذا تريد الإدارة الأميركية أن تذكّر نتنياهو أن إعاقة تطبيق الاتفاق من شأنه أن يؤدّي إلى ضعضعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وهو ما سيؤدي بترامب للوقوف بقوة خلف «المعارضة» الإسرائيلية.
واضحٌ أن الإدارة الأميركية هي التي ستتولّى الهجوم السياسي الغاشم والشامل على الشعب الفلسطيني بعد الفشل الإسرائيلي المفضوح لحسم الصراع في قطاع غزّة.
هذا الهجوم السياسي المغلّف بالوعود الأميركية حول مرحلة «الازدهار» هو الأخبث والأخطر، لأنه سيحظى بدعمٍ «غربي» عالمي، وبدعمٍ أوروبي مباشر بسبب التبعية الأوروبية من جهة، وبسبب الرفض الإسرائيلي المطلق لأي نوع من إعادة الاعتبار لوحدة القطاع مع الضفة الغربية، ولأيّ إحياء لفكرة الكيانية الوطنية الواحدة والموحّدة.
إن ما سيزيد من حجم الضغوطات على الشعب الفلسطيني من خلال هذه الخطط الخبيثة والخطيرة هو الفشل العربي والإسلامي في الربط ما بين المرحلة الثانية والثالثة من «خطة شرم الشيخ»، وما بين الدخول المباشر في الحقوق الوطنية الفلسطينية، ومن بينها، وربما على رأسها مسألة قيام الدولة الوطنية الفلسطينية على كافة الأراضي الفلسطينية حسب معايير القانون الدولي التي تقع تحت الاحتلال، خصوصاً بعد سلسلة الاعترافات الدولية الأخيرة بدولة فلسطين.
ولهذا فإن العلاقة بين الإدارة الأميركية والدولة الصهيونية في هذه المرحلة الآن، وفي المرحلة الحسّاسة القادمة ستتحدّد ــ لجهة الانسجام من عدمه بين الإدارة «الترامبية» و»الائتلاف الفاشي» الحاكم في دولة الاحتلال، ستعتمد بالضبط على هذه المسألة بالذات.
فإذا انتقل ترامب بعد نهاية المرحلة الثانية نحو اعتبار هذه النهاية هي بداية لمرحلة الحلّ على مستوى الإقليم، وفي القلب منها مسألة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني فإن الحكومة الفاشية الإسرائيلية ستتمرّد على هذه النتيجة، ولن تتردّد في قلب طاولة الإقليم، بما في ذلك شنّ حرب، أو حروب جديدة، وستعتبر أن «التوجّهات الجديدة» تلحق ضرراً إستراتيجياً بالأمن «القومي» الإسرائيلي، أما إذا بقي ترامب، وأبقى القطاع منطقة خاصة تابعة للوصاية الدولية الخاصة، دون تحوّلها إلى جزء أصيل من الولاية السياسية والجغرافية الوطنية للفلسطينيين، فإن دولة الاحتلال ستعتبر أنها حققت أهدافها، بل وأكثر منها، أيضاً.
وهنا نخلص الى أن ما تبقّى لهم، أي لأميركا، ولدولة الاحتلال هو أن يعودوا للاستثمار في الجانب العربي والإسلامي من جديد.
فإذا رضخ العرب والمسلمون لمفهوم المنطقة بأحكام «خاصة»، وهو الاسم الحركي لفرض الانتداب والوصاية على القطاع، وتحويل المرحلة الثالثة من «خطة شرم الشيخ» والتي هي مرحلة الإعمار إلى آلية فرض هذا الواقع، فستكون دولة الاحتلال قد نجحت بتحقيق جزء كبير من أهداف هذه الحرب الهمجية، أما إذا فشل هذا الذي تبقّى لهم فليس أمامهم سوى التسليم بالحقوق الفلسطينية، مهما «عنفص» «اليمين الفاشي».
لو كانت الحالة الوطنية الفلسطينية صحية، لضمنت لكم منذ الآن أن ما تبقّى لهم لن يكون مصيره إلّا الفشل، والفشل الذي سيكون أكبر من أي فشل سابق، أما وإن الحالة الوطنية ليست كما نتمنّى ونرغب فإن العملية كلّها ستبقى برسم التطوّرات.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الاحتلال ترامب نتنياهو غزة نتنياهو الاحتلال ترامب خطة ترامب سياسة عربية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإدارة الأمیرکیة دولة الاحتلال هذه العلاقة شرم الشیخ
إقرأ أيضاً:
خرق الهدنة في غزة.. الرسائل الإسرائيلية وصمت الوسطاء
في خرق فج لاتفاق الهدنة المعلن قبل أيام شن جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 129 غارة جوية على مناطق متفرقة من قطاع غزة أسفرت حتى لحظة كتابة هذا المقال عن استشهاد 46 فلسطينيا بينهم أطفال ونساء وإصابة 132 آخرين في تصعيد يوصف بأنه الأعنف منذ بداية الجولة الحالية من المواجهات.
هذا التصعيد الذي جاء رغم الجهود الإقليمية التي قادتها كل من مصر وقطر وتركيا للوصول إلى تهدئة مؤقتة يطرح تساؤلات جدية حول جدوى هذه الوساطات ومدى فعاليتها في كبح جماح الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتاد على التعاطي مع اتفاقات التهدئة باعتبارها أدوات تكتيكية وليست التزامات سياسية أو قانونية.
تبريرات الاحتلال الرسمية كالعادة جاءت تحت ذريعة “الرد على خروقات من طرف المقاومة” لكن كثافة الغارات وطبيعة الأهداف المدنية التي طالتها والمناطق السكنية التي دمرت فوق رؤوس ساكنيها تشير إلى أن الأمر يتجاوز رد الفعل المحدود ويقترب أكثر من محاولة توجيه رسائل عسكرية وسياسية. أولى هذه الرسائل موجهة للفصائل الفلسطينية مفادها أن الاحتلال لا يعترف بتوازن الردع وأنه مستعد لاختراق أي تهدئة حين يرى ذلك مناسبا لمصالحه الأمنية أو السياسية.
أما الرسالة الثانية فهي موجهة للوسطاء الإقليميين أنفسهم وتفهم على أنها اختبار لقدرتهم على ضبط الفصائل من جهة وامتناعهم عن الضغط الحقيقي على تل أبيب من جهة أخرى. إذ يبدو أن إسرائيل تعول على غياب ردود فعل حقيقية من هذه الأطراف وهو ما بدا واضحا اليوم مع غياب الإدانة الصريحة من القاهرة أو الدوحة أو أنقرة رغم أن الهدنة الأخيرة وقعت بضماناتها.
في السياق السياسي الأوسع قد يفهم التصعيد الإسرائيلي أيضا في إطار حسابات داخلية فالحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو تواجه ضغوطا متزايدة داخليا خاصة في ملفات تتعلق بالأسرى والاحتجاجات ضد السياسات الأمنية والضغوط القضائية. في مثل هذه الأوقات يلجأ السياسيون الإسرائيليون غالبا إلى “تصدير الأزمة” عبر جبهة غزة باعتبارها الساحة الأسهل للتصعيد دون تكلفة دبلوماسية كبيرة.
غياب الموقف الدولي الواضح تجاه هذا الخرق يساهم في توفير غطاء غير مباشر لتصرفات الاحتلال. فحتى الآن لم تصدر مواقف غربية حازمة تدين التصعيد الإسرائيلي أو تطالب بوقفه في استمرار واضح لسياسة الكيل بمكيالين حيث تستنفر عواصم العالم عند كل تحرك فلسطيني بينما تقابل الغارات الإسرائيلية الواسعة بالصمت أو التبرير.
أما على الأرض فإن فصائل المقاومة الفلسطينية لا تزال تتعامل مع الموقف بحذر وتحاول تجنب التصعيد المباشر على الأقل في هذه المرحلة. لكنها في ذات الوقت تدرك أن استمرار القصف وارتفاع عدد الشهداء خصوصا بين المدنيين سيجعل من ضبط النفس خيارا صعبا أمام جمهورها وأمام مسؤوليتها الوطنية.
في المحصلة ما جرى اليوم في غزة لا يمكن قراءته كحادث عابر أو خرق عرضي بل هو مؤشر خطير على هشاشة الاتفاقات وعلى أن الهدنة في السياق الإسرائيلي لا تعني وقف العدوان بل إدارة وتيرة القتل بما يخدم الأجندة الإسرائيلية. في المقابل، فإن صمت الوسطاء الإقليميين يعمق شعور الفلسطينيين بأن دمهم ليس فقط مستباحا بل أيضا غير مكفول بأي ضمانات حقيقية.
إذا لم يتم كبح هذا النهج ولم يحاسب الاحتلال على خروقاته فإن كل اتفاق تهدئة مستقبلي سيكون مجرد هدنة مفخخة مؤقتة، تمهد لجولة أكثر دموية. وفي كل مرة سيكون المدنيون هم الوقود وستكون غزة مرة أخرى، هي من تدفع الثمن.