النجومية معنى ثقافي ثابت ومتموج في آن فهو يلوح كفرصة متاحة، ولكن لمن وكيف ولماذا وما الأثر الناجم عن النجومية وهل الأثر سابقٌ عليها بحيث يحركها أم هي صناعة الأثر؟ وهذه أسئلة تقتضي الوقوف عندها والأهم هنا هو أن النجومية حال ثقافية وليست حالةً هشة أو عديمة المعنى، ووصفها بالتفاهة كما هو شائعٌ يحرمنا من قراءة هذه الظاهرة التي يؤكدها وجودها الطاغي والبارز، ولذا فهي ليست للاستسهال والسخرية، فهي أولاً مسألةً ذوقية، وهذا سبب انتشارها، مما يعني أنها تنطوي على إغراء ما، وهي ليست هشةً لا للنجم ولا لغيره ونحن لا نعرف النجم إلا حين يصبح نجماً أي حين تحدث لشخص أو مجموعة ما.


والثقافة في جوهرها معنى سلوكيًّ لا يقف عند الخاص بل يعمّ كافة حالات التفاعل، ومن هنا فالنجومية هي إحدى العلامات الثقافية وربما هي أقوى العلامات من حيث الظهور السريع، وهي إما فرديةً على نجم محدد وهذا معنى يتصل بالذائقة الجمعية وتقبلها للنجم، وتكشّف ذلك مع الظهور المبكر لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ظهور الراديو ونستطيع استعادة ذاكرتنا مع أم كلثوم وكيف طغى صيتها عبر المذياع، حيث كان العرب كل العرب يسهرون أمام الراديو لسماع أغنية جديدة لأم كلثوم، وكنت من هؤلاء حيث كنت أتناول القهوة في الليل لأظل يقظاً لسماع جديدها، ومرة غلبني النوم وأحسست بالقهر صباح الغد، حين ضجت الأحاديث عن أغنيتها الجديدة، وأنا (مثل الأطرش في الزفة) محتقراً نفسي حيث حرمتني من مشاركة التحدث عن جديد أم كلثوم الضارب على كل خبر غيره، وعادةً يحدث خلافٌ في تذوق جديد أم كلثوم، لأن ذواكرنا مربوطةٌ مع تعودنا على قديمها، ولذا احتجنا مثلاً لبعض الوقت لتذوق أغنية (فكروني)، وهي أول تجربة لها ولسميعتها مع محمد عبدالوهاب، وأخذنا وقتاً لننسجم مع الجو الجديد الذي أدخلتنا فيه أم كلثوم عام 1966.
هذه حالةٌ من حالات النجومية مع نجم محدد يظل نجماً دون أن يفقد مقامه في الذوق، حتى مع تغير مرحلي سينتهي بتوافق يحمي مقام النجم في الذاكرة، وهذا يصح مع حالة المتنبي بوصفه نجماً ثقافياً راسخاً، ليس عبر ديوان شعره، وإنما هي نجومية تأتي عبر اقتباسات محددة لأبياتٍ للمتنبي تنفصل عن مجمل شعره، وتهرب من الديوان لتسكن ألسنة الناس بإجماعٍ لم يحظ بمثله ودرجته أي شاعر عربي آخر من حيث رسوخ المتنبي الفذ.
ولكن ومع انفجار وسائل التواصل انفجرت النجومية بصيغة مختلفة جذرياً، فقد ظهرت نجومية متموجة ما إن يتصدرها نجمٌ معينٌ حتى تنحسر عنه لا لتسقط النجومية ذاتها بل ليسقط النجم المعين ويحل محله نجمٌ آخر، وهو تموج يشترك فيه مجموعة نجومٍ يجري لهم كلهم نهوض وسقوط في تتابع مستمر، وهذا يعني أن في الثقافة رغبات لم تشبعها النصوص المؤسسية وتطلب بديلاً يرضي متعتها، ويظل البديل في حالة تموج مستمر لا يركد إلا ليثور ثانيةً، وهذا تحولٌ حرٌّ وغير موجه، وكلٌّ يتمناه ويطرق أضواءه لكنه مراوغٌ ويختار بدوافع غير مقيدة بأي شرط سابق، لأنه تحوّل مربوط بذائقة حرة تدور في فضاء الثقافة، وحرية هذا التحرك هي التي تربك النقد المؤسسي، الذي يبادر للنكران وقد يلجأ لبكائيات وكأنه ينعى مظلوميته الثقافية أو ذائقته التي يركن إليها، وهذا ما يجعل النقد المؤسسي يعجز عن قراءة الظواهر وكيف تتقلب الأذواق وحالات التقبل والرفض.
وهذا يكشف ما قلته من قبل في كتابي الثقافة التلفزيونية حول (سقوط النخبة وبروز الشعبي) وليس الشعبوي، وبينهما فرق جذري فالشعبي فطري وتلقائي، بينما الشعبوي طبقي وعنصري ومخطط بوعي انحيازي، ولا شك أن المتعة قيمةٌ بمثل ما العقلنة قيمة، غير أن النجومية ليست عقلنةً، وإنما هي متعةٌ، والمتعة تصدر عن ذائقة حرة وغير مشروطة وتتصرف وكأنها حالةٌ جنونية.
أما وظيفة الناقد هنا فليست بفرض قواعده، وإنما بتتبع تحولات المعني والذوق وصناعة الأثر وبيدِ من، ولا بد من التساؤل هنا عن حال النخبوية وهل مازالت قيمةً أم أصبحت حالة عمى ثقافي تغلق الرؤية. ومن ثمَّ فالنجومية اليوم علامةٌ ثقافية تكشف تغيرات معنى الإمتاع ووظيفة المتعة في حياة البشر، وحالات الإقبال والعزوف وهما أخطر صيغ نظرية التلقي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الدفاع عن النفس.. الخدعة الثقافية د. عبدالله الغذامي يكتب: تغيير نظام الوعود

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: عبدالله الغذامي الغذامي أم کلثوم

إقرأ أيضاً:

باحث برازيلي لـ صدى البلد: المتحف المصري الكبير ولادة جديدة لحضارة علمت العالم معنى الخلود

مع اقتراب الافتتاح الرسمي المنتظر للمتحف المصري الكبير، أحد أضخم المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، تتجه أنظار العالم نحو مصر من جديد، حيث يلتقي التاريخ العريق بالتكنولوجيا الحديثة في صرح يُجسّد عبقرية الحضارة المصرية القديمة بروح معاصرة.


وفي هذا السياق، أجرى صدى البلد حوارا خاصا مع الباحث البرازيلي في علم المصريات هيكتور إلياهو، الذي يدرس حاليًا في جامعة برشلونة المستقلة، ويُعد من أبرز الوجوه الشابة المهتمة بتاريخ مصر القديم وعلاقاته بالحضارات المجاورة.


يتحدث إلياهو في هذا الحوار عن جذوره المصرية التي شكّلت وعيه الأكاديمي، وعن التطور المذهل الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة في دراسة التاريخ المصري، كما يكشف رؤيته لأهمية المتحف المصري الكبير في تعزيز الهوية الثقافية لدى الأجيال الجديدة، ودوره في تقديم مصر إلى العالم بصورة تليق بعظمتها الحضارية.


كيف بدأت علاقتك بعلم المصريات، ومتى اكتشفت شغفك بالحضارة المصرية القديمة؟


بدأ اهتمامي بمصر القديمة منذ الطفولة، حين أهداني والدَي لعبة إلكترونية تُسمّى فرعون تدور حول بناء المدن في مصر القديمة. كانت تلك اللعبة الشرارة الأولى التي أشعلت فضولي تجاه التاريخ المصري، ثم تحوّل هذا الفضول إلى شغف حقيقي استمرّ معي حتى اليوم.


هل كان لأصولك العائلية المصرية تأثير في ارتباطك بالحضارة المصرية؟


بالتأكيد. فجدي وجدّتي وُلدا في الإسكندرية، وأشعر دائمًا أن مصر جزء من تكويني الشخصي والثقافي. جذوري العائلية جعلتني أنظر إلى مصر ليس فقط كحضارة عظيمة، بل كوطن روحي أرتبط به وجدانيا.


رغم أنك تعمل محاميا في البرازيل، فإنك اخترت دراسة علم المصريات أكاديميًا. كيف جمعت بين المجالين؟


درست القانون في جامعة Faculdades Metropolitanas Unidas (FMU) وأعمل حاليًا محاميًا، لكن شغفي بالتاريخ لم يتوقف. حصلت على دبلوم دراسات عليا في التاريخ القديم والوسيط من جامعة ولاية ريو دي جانيرو، ثم التحقت بدراسة الماجستير في علم المصريات بجامعة برشلونة المستقلة. أرى أن دراسة الماضي تمنحنا نظرة أعمق إلى الحاضر، حتى في مجالات تبدو بعيدة مثل القانون والسياسة.


في رأيك إلى أي مدى غيرت التكنولوجيا الحديثة طرق دراسة التاريخ المصري القديم؟


التكنولوجيا غيّرت كل شيء. اليوم نستطيع اكتشاف مواقع أثرية جديدة وتحليل المواد باستخدام تقنيات متقدمة مثل التأريخ الرقمي والمسح ثلاثي الأبعاد. كما تمكّنا من إعادة بناء المعابد والمقابر ووجوه المومياوات رقمياً، وهو ما منحنا فهمًا أكثر دقة لتفاصيل الحياة في مصر القديمة. التكنولوجيا جعلت علم المصريات أكثر حيوية من أي وقت مضى.


ما الجانب الأكثر إثارة بالنسبة لك في الحضارة المصرية القديمة؟


أكثر ما يثير إعجابي هو قدرة المصريين القدماء على التوازن بين الأصالة والانفتاح. رغم احتكاكهم المتواصل بثقافات أخرى، ظلّوا محافظين على هويتهم الخاصة، يطورونها دون أن يفقدوها. كذلك يدهشني الفكر الديني والفلسفي العميق الذي قادهم لبناء مفهوم الخلود، وهو ما جعل حضارتهم باقية حتى اليوم.


كيف تنظر إلى افتتاح المتحف المصري الكبير وما الذي يمثله بالنسبة لمصر والعالم؟


أراه حدثًا حضاريًا عالميًا بكل المقاييس. المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل مشروع وطني وإنساني يُعيد تقديم مصر للعالم من منظور جديد. هو جسر يربط الماضي بالمستقبل، ويعبّر عن رؤية مصر الحديثة في الحفاظ على تراثها وتقديمه بروح علمية ومعاصرة.


في رأيك، كيف يمكن للمتحف أن يؤثر على الأجيال الجديدة داخل مصر وخارجها؟


سيمنح المتحف الأجيال الجديدة فرصة فريدة للتفاعل مع التاريخ بطريقة قريبة وحية. الأطفال والطلاب الذين يزورونه لن يروا فقط التماثيل والمومياوات، بل سيشعرون بعظمة من صنعوها. هذه التجربة قادرة على بناء وعي ثقافي وفخر وطني حقيقي، وهو ما تحتاجه الشعوب لتصون هويتها.


ما أبرز المفاهيم الخاطئة التي تراها منتشرة حول الحضارة المصرية القديمة؟


من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعا فكرة أن المصريين القدماء كانوا غامضين أو غارقين في الخرافة. الحقيقة أنهم كانوا عقلانيين للغاية، أصحاب فكر هندسي وعلمي متقدم سبق عصرهم بقرون. كما أن صورتهم في الثقافة الغربية تأثرت كثيرًا بالخيال السينمائي، لا بالحقائق العلمية.


هل ترى أن هناك اهتماما متزايدا من الشباب حول العالم بدراسة علم المصريات؟


نعم، الاهتمام يتزايد بشكل واضح، خاصة بعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في تبسيط التاريخ ونشر الاكتشافات الأثرية لحظة بلحظة. الشباب اليوم يريد أن يفهم الحضارة المصرية بلغته وبأدواته، وهذا ما يجعلنا أمام جيل جديد من الباحثين أكثر تفاعلًا وانفتاحا.


أخيرا، ما الرسالة التي تود توجيهها للمهتمين بالحضارة المصرية؟


أن يتعاملوا معها بروح الباحث لا السائح. مصر ليست فقط معابد وتماثيل، بل فكر وإنسان وحضارة إنسانية عميقة. كل من يدرسها بصدق سيجد نفسه أمام مرآة للحياة، لا للتاريخ فقط.

طباعة شارك المتحف المصري الكبير باحث برازيلي علم المصريات قدماء المصريين الحضارة المصرية

مقالات مشابهة

  • عبد السلام فاروق يكتب: هنا تتكلم الحضارة
  • مصطفى بكري: مصر أم الدنيا وعلمت العالم معنى الوطنية والبقاء والتنمية
  • باحث برازيلي لـ صدى البلد: المتحف المصري الكبير ولادة جديدة لحضارة علمت العالم معنى الخلود
  • طرق ممتعة للاحتفال مع أطفالك بافتتاح المتحف المصري الكبير
  • 6-7 الكلمة الغامضة التي حيّرت المعلمين والآباء تتصدر قواميس عام 2025
  • محمد ماهر يكتب: من خارج الخط
  • معنى قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب.. وهل يفيد إثبات جهة معينة لله؟
  • معنى اللعن وحكمه في القرآن الكريم والسُنة
  • التنمية تكشف عن المعايير الأساسية لتصنيف الجمعيات