مشكلة الإصلاح:
إن مسألة الإصلاح تمثل تحديا معقدا يتطلب فهما عميقا لطبيعة المجتمعات والعقول البشرية؛ الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالكلمات الرنانة أو الشعارات المثالية، ولا حتى بمجرد الرجوع إلى النصوص الدينية أو الفلسفية، مهما كانت قدسيتها أو أهميتها. الإصلاح يبدأ من بناء نموذج حي يعكس القيم والمبادئ التي يسعى المصلح إلى نشرها.
الانطباعات تشبه خريطة صماء، يمكن أن تُكتب عليها أي فكرة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة. بمجرد أن تترسخ هذه الانطباعات، تصبح بمثابة طباعة دائمة في العقل، لا يمحوها إلا انطباع أقوى أو نموذج حي يعيد تشكيل الرؤية. لهذا السبب، نجد أن الكثيرين ممن ينبهرون بالغرب، على سبيل المثال، لا يسألون عن أصل الأفكار أو الفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية، بل يكتفون بالمظهر الخارجي، بالسلوك الذي يرونه، وبالنتائج الملموسة التي تظهر أمامهم. هذا الانبهار ليس بالضرورة نتيجة تحليل عقلي عميق، بل هو انطباع سطحي يتشكل من خلال المشاهدة والتجربة.
الإصلاح، إذن، لا يمكن أن يتحقق بمجرد خطابات المصلحين أو تلاوة النصوص المقدسة، بل يتطلب وجود نخبة واعية، قادرة على فهم الواقع بعمق، ومؤهلة لبناء نماذج عملية تترجم الأفكار إلى واقع ملموس
إن الإصلاح، إذن، لا يمكن أن يتحقق بمجرد خطابات المصلحين أو تلاوة النصوص المقدسة، بل يتطلب وجود نخبة واعية، قادرة على فهم الواقع بعمق، ومؤهلة لبناء نماذج عملية تترجم الأفكار إلى واقع ملموس. هذه النخبة هي التي تستطيع أن تضع الدليل أمام العقلية الجمعية، فتغير الانطباعات السائدة وتبني رؤية جديدة قائمة على المنطق والعقلانية.
النخبة المثقفة:
لكن، ما هي النخبة المثقفة التي نتحدث عنها؟ في كثير من المجتمعات، يُطلق لقب "المثقف" على أشخاص يمتلكون قدرا من المعلومات العامة، يعرفون شيئا عن كل شيء، لكنهم لا يتعمقون في شيء بعينه، هؤلاء يناقشون القضايا من زاوية معرفتهم السطحية، وقد ينجحون في تشخيص المشكلات بشكل ظاهري، لكنهم نادرا ما يمتلكون القدرة على الغوص في أعماق المشكلة أو تقديم حلول إبداعية؛ المعلومة السطحية قد تقود إلى إدراك جزئي للمشكلة، لكنها لا تكفي لابتكار حلول مستدامة.
هذا النوع من "المثقفين" لا يرتقي إلى مستوى المفكر الحقيقي، وإن أُطلق عليهم هذا اللقب، فهم في أحسن الأحوال متعلمون ومطلعون على ما جاء قبلهم من أفكار ومعارف، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على التجديد أو الإبداع، المشكلة الأكبر تكمن في موقفهم من أنفسهم؛ فهم يعتقدون أنهم بلغوا من العلم مبلغا يجعلهم في غنى عن التعلم، فيتحولون إلى دعاة للجهل بدل أن يكونوا طلابا للمعرفة، ينظرون إلى الأفكار الجديدة بعين الاستخفاف، ويرفضونها دون تفكير عميق أو نقاش جاد؛ بل إنهم قد يلجأون إلى عبارات مثل "لك رأيك ولي رأيي" أو "أحترم رأيك"، وهي عبارات تبدو محترمة ظاهريا، لكنها في الحقيقة تعكس فراغا فكريا وفقدان سبل الإصلاح.
هذه الطريق في التفكير والحوار لا تنتج قيمة حقيقية، بل تظل حبيسة المجالس والنقاشات العابرة التي لا تؤدي إلى موقف أو تغيير، إنها تعكس سطحية في العيش وفي التفكير، حيث يغيب الهدف الأسمى والغاية الكبرى التي يفترض أن يسعى إليها المثقف أو المفكر.
طريق الإصلاح:
بين الفكر والحكم إذا أردنا الحديث عن طريق الإصلاح، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل إصلاح الفكر يسبق إصلاح الحكم، أم أن إصلاح الحكم هو المدخل لإصلاح الفكر؟ في الحقيقة، هذا السؤال لا ينبغي أن يكون مفاضلة بين خيارين، بل هو خيار واحد متكامل؛ إصلاح الفكر وإصلاح الحكم وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن يتحقق أحدهما دون الآخر. إن إصلاح الفكر يتطلب نخبة تفكر بطريقة استراتيجية، تمتلك القدرة على تحليل الواقع بعمق، وتبني نماذج عملية تعكس رؤيتها، وفي الوقت نفسه. لا يمكن لهذه النخبة أن تعمل في فراغ، بل تحتاج إلى بيئة حكم تدعم هذا التفكير وتمكّنه من التطبيق.
لبناء نموذج إصلاحي ناجح، يجب أن تبدأ النخبة بفهم عميق للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، يتطلب ذلك دراسة التحديات والمشكلات بعقلية تحليلية، بعيدا عن الانطباعات السطحية أو الأحكام المسبقة
الأمم الانطباعية، التي تعادي التجديد رغم ندائها به، تحتاج إلى تغيير جذري في طريقة تفكيرها، هذه الأمم تميل إلى رفض الأفكار الجديدة لأنها تخشى التغيير، أو لأنها تعتقد أن التجديد يهدد هويتها، ولكي ينجح هذا التجديد، يجب أن يأتي في صورة نموذج حي؛ انطباع حسن يقنع الناس بجدواه دون أن يثير مقاومتهم. فالمصلح الذي يواجه مقاومة شديدة من المجتمع سيجد نفسه منشغلا بردود الفعل بدلا من التركيز على الإصلاح نفسه.
كيف نبني نموذجا إصلاحيا؟
لبناء نموذج إصلاحي ناجح، يجب أن تبدأ النخبة بفهم عميق للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، يتطلب ذلك دراسة التحديات والمشكلات بعقلية تحليلية، بعيدا عن الانطباعات السطحية أو الأحكام المسبقة. النخبة المطلوبة ليست تلك التي تمتلك معلومات واسعة فحسب، بل تلك التي تمتلك رؤية استراتيجية ورغبة حقيقية في التغيير، هذه النخبة يجب أن تكون قادرة على ترجمة الأفكار إلى واقع ملموس، من خلال مشاريع ومبادرات تعكس القيم التي تدعو إليها.
على سبيل المثال، إذا كان الهدف هو نشر ثقافة العدالة الاجتماعية، فإن النخبة يجب أن تبني نماذج عملية تُظهر كيف يمكن تحقيق هذه العدالة في الحياة اليومية، سواء من خلال برامج تعليمية، أو مبادرات اقتصادية، أو إصلاحات إدارية، هذه النماذج يجب أن تكون ملموسة ومرئية، بحيث تترك انطباعا إيجابيا في أذهان الناس، وتدفعهم إلى التفكير بجدية في تبني هذه القيم.
الخاتمة
في النهاية، الإصلاح ليس مستحيلا، لكنه يتطلب جهدا جماعيا واعيا، يبدأ من نخبة تفكر بعمق وتعمل بإخلاص لبناء نماذج حية. الأمم الانطباعية تحتاج إلى تغيير طريقة تفكيرها، الذي يصل إلى حيث هو بدليل يقنعه، أما الذي يشكل فكره بالانطباعات فلا يصلحه دليل وكلمة، ويتحول إلى الازدواج عندما يزعم أنه ملتزم بعقيدة أو فكر، وهؤلاء الأكثرية في منظومة تنمية التخلف، فلا بد من تحويل الأفكار إلى واقع.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الإصلاح فكرة نخبة تفكير تغيير فكر إصلاح تغيير تفكير نخبة مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یمکن أن لا یمکن یجب أن
إقرأ أيضاً:
خبير استراتيجي: الوضع في السودان يتطلب "خطًا أحمر جديدًا" ودارفور تعيش "لعنة جغرافية"
أكد الدكتور خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن ما يحدث في السودان بات يتطلب رسم خط أحمر جديد لحماية الأمن الإقليمي، محذرًا من أن سقوط مدينة الفاشر يمثل تطورًا بالغ الخطورة على وحدة الدولة السودانية.
وأوضح "عكاشة" خلال حواره مع الإعلامي نشأت الديهي ببرنامج "المشهد" المذاع عبر فضائية "TeN"، مساء الأربعاء، أن الفاشر تُعد آخر نقطة كانت تمارس فيها الدولة السودانية سيادتها داخل إقليم دارفور، الذي وصفه بأنه مساحة هائلة تعادل نصف مساحة مصر تقريبًا، وتاريخيًا هو مركز للصراعات المسلحة وعدم الاستقرار.
وأشار إلى أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) ارتكب مجازر في دارفور خلال فترة حكم البشير، وهو ما يعكس استمرار دوامة العنف التي لم تنجح الدولة السودانية في احتوائها.
وقال: “دارفور لم تمتد إليها يد الدولة لتحديثها أو تطويرها بسبب ضعف الإمكانيات، وهو ما شجع الميليشيات على التمرد والانقضاض على مؤسسات الدولة”.
وأضاف أن إقليم دارفور يعيش ما يمكن تسميته باللعنة الجغرافية، إذ تحيط به دول هشة تعاني من سيولة سياسية وأمنية، مما جعل الإقليم ساحة مفتوحة للصراعات والتدخلات الإقليمية.
وأوضح أن هذه العوامل “حولت دارفور إلى بؤرة توتر مزمنة يصعب السيطرة عليها دون تدخل إقليمي منظم ورسم خطوط واضحة تحمي الأمن القومي العربي والإفريقي”.
اقرأ المزيد..