كيف تدخلت المخابرات الأمريكية لضرب زراعة الأفيون في أفغانستان؟
تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT
نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تحقيقًا سريًا يكشف عن برنامج سري نفذته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" خلال حرب أفغانستان، تمثل في إسقاط مليارات البذور المعدلة فوق حقول الخشخاش بهدف تقليل إنتاج مادة الأفيون المستخدمة في تصنيع الهيروين، في محاولة غير معلنة لإضعاف تجارة المخدرات التي موّلت طالبان لعقود.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، إنه على مدى أكثر من عقد من الزمان، نفذت وكالة المخابرات المركزية برنامجًا جريئًا وسريًا للغاية للتلاعب سرًّا بمحصول الخشخاش المربح في أفغانستان، حيث غطت حقول المزارعين الأفغان ببذور معدلة خصيصًا تنبت نباتات لا تحتوي على أي من المواد الكيميائية التي يتم تكريرها إلى هيروين، وفقًا لما علمته صحيفة واشنطن بوست.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذا البرنامج، الذي لم يُكشف عنه سابقًا، يمثل فصلاً غير معلن من حرب أفغانستان بين عامي 2001 و2021، ومن تاريخ طويل متقلب لمحاولات واشنطن مكافحة المخدرات عالميًا.
ويأتي الكشف عن البرنامج يأتي في وقت تعود فيه "الحرب على المخدرات" لتتصدر أجندة الأمن القومي، إذ أعلن الرئيس دونالد ترامب حربًا على الكارتلات في نصف الكرة الغربي، وأمر بضربات قاتلة ضد قوارب يُشتبه في تهريبها المخدرات، وصنّف الكارتلات جماعات إرهابية، كما منح وكالة الاستخبارات الأمريكية صلاحيات واسعة لتنفيذ عمليات سرية ضد المهرّبين وداعميهم.
وتواجه هذه الجهود الجديدة مصيرًا غامضًا، كما حدث مع محاولات القضاء على تجارة الأفيون في أفغانستان قبل عقدين، حيث كان نمو تجارة الأفيون يعرقل أهداف واشنطن في هزيمة طالبان، وتثبيت الحكومة المدعومة غربياً، فيما غذّى الهيروين الفساد وساهم في تمويل أسلحة طالبان، وشكّل معظم إمدادات الهيروين عالميًا.
وذكرت الصحيفة أن الحلفاء الغربيين والوكالات الأمريكية اختلفوا بشدة حول الاستراتيجيات، بين رش المبيدات جواً أو شراء المحصول كاملاً وتحويله إلى أدوية. لكن، من دون علم معظمهم، كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تدير برنامجًا سريًا خاصًا بها عبر مركز مكافحة الجريمة والمخدرات، حيث بدأت عمليات إسقاط البذور المعدّلة في خريف 2004، وتوقفت لاحقًا، وانتهت قرابة عام 2015.
وقامت الطائرات البريطانية من طراز سي-130 بتنفيذ رحلات ليلية لتفادي الرصد، وأسقطت مليارات البذور فوق حقول واسعة في ولايتي ننغرهار وهلمند، وهما مركزا زراعة الخشخاش. ولم تكن البذور معدّلة وراثيًا بتقنيات حديثة، بل جرى تطويرها عبر سنوات من الانتقاء والتزاوج مع بذور طبيعية، بهدف إنتاج نبات ضعيف التركيب الكيميائي؛ حيث كان الهدف أن تتزاوج هذه النباتات مع الأصناف المحلية وتصبح السلالة المهيمنة بمرور الوقت، مما يضعف قوة المحصول ويقلل من فعاليته في إنتاج الهيروين.
وقالت الصحيفة إن تفاصيل البرنامج بقيت سرية، بما في ذلك ميزانيته وعدد الرحلات، حتى إن بعض كبار المسؤولين في البنتاغون والخارجية خلال عهد بوش وأوباما لم يعرفوا عنه سوى عبر شائعات.
وأوضحت الصحيفة أن وكالة الاستخبارات المركزية حصلت على تفويض سري من بوش يُعرف بـ"فايندينغ" منحها غطاءً قانونيًا، فيما لم تُبلّغ حكومة كرزاي بالبرنامج ولم يعلّق على الأمر، كما رفضت الـ"سي آي إيه" ومتحدثون باسم الإدارتين والسفارة البريطانية التعليق.
"تفكير خارج الصندوق"
ووفق الصحيفة فقد باءت الحملة العامة لمكافحة المخدرات في أفغانستان بالفشل، إذ أضعفتها الخلافات بين الوكالات الأمريكية، والتوتر مع الحلفاء مثل بريطانيا، والدعم المتذبذب من حكومة كرزاي، إضافة إلى تجذّر زراعة الخشخاش في الثقافة والاقتصاد الريفي.
وقد رفض البنتاغون مرارًا التورط بعمق في حرب المخدرات، معتبراً أنها تصرفه عن مواجهة طالبان والجماعات المتشددة. بينما أكد مسؤولون سابقون أن برنامج الـ"سي آي إيه" لإضعاف قوة محصول الخشخاش نجح لفترة محدودة لكنه كان مكلفاً للغاية واستنزف ميزانية مركز مكافحة الجريمة والمخدرات، التي بقيت سرية، فيما دُمج المركز لاحقًا في إدارة ترامب الثانية مع مركز الوكالة لشؤون نصف الكرة الغربي.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمريكي سابق قوله إن البرنامج بدا ناجحًا في البداية لكنه فقد فعاليته مع الوقت، واعتُبر مثالاً على "تفكير خارج الصندوق" لمعالجة المشكلة بوسائل غير عسكرية؛ بينما قلل آخرون من قيمة النتائج، معتبرين أنه لم يترك أثراً دائماً على إنتاج الأفيون، بل ساعد إدارة بوش على تجنّب قرارات صعبة؛ فقد صدر تقرير عام 2018 عن المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، خلص إلى أن أي برنامج لمكافحة المخدرات لم يحقق خفضاً دائماً في زراعة الخشخاش أو إنتاج الأفيون.
وأفادت الصحيفة أن الولايات المتحدة أنفقت منذ 2001 نحو 9 مليارات دولار لمحاولة وقف تدفق الهيروين من أفغانستان، حيث تراجع المحصول بين 2007 و2011 قبل أن يرتفع مجدداً ويبلغ ذروته بعد 2016، فيما استفادت طالبان من تجارة الهيروين لسنوات، رغم خلاف المسؤولين الأمريكيين حول مدى مركزية هذه التجارة في تمويلها.
الحرب على الرش
وذكرت الصحيفة أن الولايات المتحدة أمضت عقودًا في مكافحة المخدرات عالميًا عبر مصادرات واعتقالات وعمليات استخباراتية، وفي عهد ترامب اعتُبرت المخدرات تهديدًا للأمن القومي فسمح باستخدام القوة ضد مهربين في البحر وهدد حوافز تجارية للصين لوقف تصدير مواد خام للفنتانيل، إجراءات وصفها بعض الخبراء بأنها قد تنتهك القانون الدولي.
ومع النباتات المزروعة من أجل المخدرات، جربت واشنطن عدة أساليب. ففي كولومبيا؛ مولت واشنطن رش مبيد الأعشاب الغليفوسات على نطاق واسع من الجو فوق مزارع الكوكا، المستخدمة في صنع الكوكايين. ادعى المسؤولون الأمريكيون أن البرنامج نجح في تقليل المحصول. في بيرو، اختبرت وكالات مكافحة المخدرات الأمريكية حبيبات تحتوي على مبيدات الأعشاب، لكنها لم تُلقى أبدًا، حسبما قال مسؤول أمريكي سابق.
وفي أفغانستان، دعا مكتب مكافحة المخدرات الدولية وإنفاذ القانون التابع لوزارة الخارجية الأمريكية إلى رش مبيدات الأعشاب جواً بشكل مكثف على غرار النموذج الكولومبي، وهو ما عارضه البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية والحكومة البريطانية عملية الرش، بحجة أنها ستضر بالجهود الرامية إلى كسب تأييد الشعب الأفغاني ضد طالبان. كما عارضها كبار المسؤولين الأفغان، الذين قالوا إن المواد الكيميائية قد تلوث المياه الجوفية في مجتمعهم الذي يعتمد بشكل كبير على الزراعة.
وشهدت عملية الرش شدُّا وجذبًا بين الإدارة الأمريكية تحت قيادة بوش وحكومة كرزاي، حيث حاول السفير الأمريكي في أفغانستان ويليام وود، إقناع حكومة كابول بالرش بشكل ملح، حتى أنه بات يُعرف باسم ”بيل الكيميائي“، كما قال بوش لكرزاي في إحدى المؤتمرات المرئية: ”أنا رجل الرش“، كما يتذكر أحد كبار المسؤولين السابقين في إدارة بوش، فيما رد الرئيس الأفغاني: ”ليس في أفغانستان“.
وأفادت الصحيفة أنه مع استمرار الجمود حول مسألة الرش، بحثت إدارة بوش عن استراتيجيات مكافحة غير تقليدية؛ حيث كانت بعض المقترحات غريبة، فقد ناقش مسؤولو وزارة الخارجية استخدام السموم الفطرية، وهي سموم تنتجها الفطريات، حسبما قال مسؤولان سابقان، ولكن كانت هناك مشكلة: قد تقتل السموم عن غير قصد ليس فقط الخشخاش، بل المحاصيل الغذائية الأفغانية أيضًا، مما يؤدي إلى المجاعة.
وقال جون والترز، مدير مكتب السياسة الوطنية لمكافحة المخدرات في عهد بوش: ”لم نتمكن من استخدام مسببات أمراض غير آمنة؛ فهذه حرب بيولوجية“. ورفض والترز، الذي يشغل حاليًا منصب رئيس معهد هدسون، التعليق على برنامج بذور الخشخاش الذي نفذته وكالة المخابرات المركزية.
حصاد قاتم
وأشارت الصحيفة إلى أن برنامج وكالة الاستخبارات المركزية السري استمر رغم الجدل حول رش المبيدات، حيث بدأت عمليات إسقاط البذور عام 2004 بعد سنوات من أبحاث زراعية سرية، موضحة أن البذور زُرعت أولاً في الولايات المتحدة، ثم جرى تهجينها مع نباتات خشخاش طبيعية قبل إنتاجها بكميات ضخمة.
وكان توقيت الإسقاط في أواخر الخريف، بالتزامن مع موسم زراعة الفلاحين الأفغان، مع الحرص على ألا يثير الأمر شكوكهم، وفي الوقت نفسه ضمان أن تصبح هذه النباتات السلالة المهيمنة بمرور الوقت. وكانت النباتات الأمريكية شبه خالية من المورفين، لكنها أُنتجت لتزهر مبكرًا وتُظهر أزهارًا حمراء زاهية تجذب المزارعين، على أمل أن يعيدوا زراعتها وينشروا بذورها في الأسواق المحلية.
وأضافت الصحيفة أن المناطق التي خضعت للإسقاط استُهدفت مجددًا في سنوات لاحقة لترسيخ هيمنة هذه السلالة، فيما جرى تقييم التقدم عبر صور جوية وأقمار صناعية، ورصد إلكتروني لمحادثات المزارعين، وحتى زيارات ميدانية متخفية.
وأوضحت الصحيفة أن العملية استمرت بعد تولي أوباما الحكم عام 2009، وناقشتها اجتماعات رفيعة المستوى في البيت الأبيض. لكنها انتهت لاحقًا بسبب أزمة مالية، إذ حاولت الـ"سي آي إيه" إقناع وكالات أخرى بتمويلها، بينما تكفلت وزارة الخارجية في سنواتها الأخيرة بتكاليف الوقود والصيانة دون تنفيذ عمليات إسقاط.
وأفادت الصحيفة أن شائعات سرت بين المزارعين الأفغان على مدى عقدين بأن الأجانب أفسدوا محاصيلهم عبر رش سري أو تلويث الأسمدة أو نشر الأمراض، وتبيّن أن هذه الشكوك لم تكن بلا أساس.
ولفتت الصحيفة إلى أنه عند انسحاب القوات الأمريكية والـ"سي آي إيه" عام 2021، شكّلت تجارة الأفيون ما بين 9 و14 بالمئة من الناتج المحلي لأفغانستان، أي ما بين 1.8 و2.7 مليار دولار وفق مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. وبعد عودة طالبان للسلطة، حظرت إنتاج الأفيون، فانخفضت الزراعة بنسبة 95 بالمئة بحلول 2023، لكنها عادت لترتفع بنسبة 19 بالمئة العام الماضي وانتقلت إلى شمال شرق البلاد بعيداً عن المناطق التقليدية التي استهدفتها الـ"سي آي إيه".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية الأفيون طالبان افغانستان طالبان المخابرات الأمريكية الأفيون سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وکالة الاستخبارات المرکزیة مکافحة المخدرات فی أفغانستان الصحیفة أن سی آی إیه إلى أن
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: اقتصاد أفغانستان يتعثر
كراتشي (وكالات)
أخبار ذات صلةأكدت الأمم المتحدة، أمس، أن التعافي الاقتصادي في أفغانستان يتدهور، مشيرة إلى أن تسعة من كل 10 أسر، باتت تضطر إلى تقليص عدد وجباتها أو بيع مقتنياتها، أو اللجوء إلى الاستدانة من أجل العيش، مضيفة أن العودة الجماعية للأفغان أدت إلى تفاقم الأزمة.
وكشف تقرير أممي أن نحو واحد من كل 10 أفغان، يعيشون في الخارج أُجبروا على العودة إلى وطنهم، حيث عاد أكثر من 4.5 مليون منذ 2023، مما أدى لزيادة عدد السكان بنسبة 10%، مضيفاً أن الزلازل والفيضانات دمرت 8000 منزل وأثقلت، إلى جانب الجفاف، كاهل الخدمات العامة. وكشف مسح، شمل أكثر من 48 ألف أسرة أفغانية، أن أكثر من نصف العائدين إلى البلاد اضطروا إلى التخلي عن الرعاية الطبية من أجل شراء الطعام، وأن 45% من هؤلاء العائدين يعتمدون على مصادر مياه غير آمنة مثل الينابيع أو الآبار غير المحمية. وأشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن نحو 90% من الأسر العائدة تعاني من ديون تتراوح بين 373 و900 دولار.