الهجرة العكسية وانهيار أسطورة إسرائيل
تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT
تُعد الهجرة من إسرائيل إلى الخارج- أو ما يُعرف بالعبرية "يريدا" (ירידה) والتي تعني حرفيا "النزول"- من أكثر القضايا الاجتماعية حساسية في المجتمع الإسرائيلي.
هذه التسمية تحمل في طياتها دلالات عميقة، فهي توحي بالهبوط والتردي، في مقابل "عاليا" (עליה) أو "الصعود" التي ترمز إلى الهجرة إلى أرض الميعاد.
منذ تأسيس الدولة عام 1948، شكلت فكرة "الصعود" إلى إسرائيل حجر الأساس في الهوية الصهيونية، بينما ظلت الهجرة المعاكسة تعدّ نوعا من التخلي عن المشروع القومي، والهروب أو السعي لمطامع شخصية أنانية في دول الغرب، بدلا من المساهمة في الجهد الصهيوني الجماعي الذي يحاول ضمان الطابع اليهودي للدولة ومستقبلها.
ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين هؤلاء المهاجرين في احتفالات يوم الاستقلال عام 1976 بأنه "سقوط الجبناء"، وهو توصيف لا يزال يُعبر عن الموقف الجمعي من هذه الفئة حتى اليوم.
هاجس تحطم أسطورة "الملاذ الآمن"منذ عام 1948، ظل هاجس الأمن المحور الأساس في بناء الوعي الجمعي الإسرائيلي، وفي الخطاب الصهيوني الذي قدم إسرائيل بوصفها "الوطن الآمن للشعب اليهودي" و"الملاذ الأخير" لليهود المطرودين من أوروبا.
غير أن هذه الأسطورة انهارت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع عملية "طوفان الأقصى"، التي زلزلت بنية المؤسسة الأمنية، وأطاحت بالإحساس الجمعي بالأمان داخل حدود الدولة.
في ذلك اليوم، اكتشف الإسرائيليون أن ما رُوِج له لعقود من حصانة استخبارية وجدار ردع مطلق لم يكن سوى وهم جماعي. فاختراق المقاومة الفلسطينية للحدود المحصنة، وتحويل رموز الأمان إلى مشاهد من العجز والارتباك، أسقطا الثقة بين المواطن الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية، بل حوّلا الأزمة من ظرف عسكري مؤقت إلى أزمة هوية وجودية.
ووفقا لتقرير المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (2024)، فإن أكثر من ثلثي المواطنين صرحوا بأن ثقتهم في الجيش تراجعت بشكل حاد بعد الهجوم، فيما عبر أكثر من نصفهم عن "خوف دائم من فقدان الأمان الشخصي حتى في المدن المركزية".
إعلانمن هنا، غدت فكرة "الملاذ الآمن" التي جذبت المهاجرين اليهود من أوروبا والعالم، محل شك وقلق، ودافعا لآلاف العائلات نحو البحث عن "ملاذ بديل" خارج الحدود. لم تعد الهجرة مجرد خيار اقتصادي أو مهني، بل أصبحت آلية نجاة من فقدان الأمان الداخلي.
تسونامي الرحيلإن إسرائيل- الدولة التي تأسست أساسا على مفهوم الهجرة اليهودية إلى "أرض الميعاد"- تواجه للمرة الأولى منذ تأسيسها موجة هجرة عكسية متسارعة، بحيث يفوق عدد المغادرين، عدد الوافدين إليها خلال العامين الماضيين.
وفقا للبيانات الرسمية الصادرة عن مركز البحوث والمعلومات في الكنيست الإسرائيلي (Knesset Research and Information Center)، فقد أصبحت إسرائيل في العامين 2023-2024 "دولة تصدر البشر أكثر مما تستقبلهم"، بعد ارتفاع معدلات الخروج بشكل غير مسبوق منذ السبعينيات.
تُظهر البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي (Central Bureau of Statistics, 2024) بالتوازي مع تقارير دولية مثل وكالة "أسوشيتد برس" وصحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أن الفترة الممتدة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى منتصف 2025، شكلت إحدى أكبر موجات الهجرة الخارجية من إسرائيل، خلال العقدين الأخيرين.
فوفقا لتقديرات مكتب الإحصاء المركزي، غادر إسرائيل ما بين 82 ألف شخص و85 ألفا خلال عام 2023، وهو أعلى معدل سنوي منذ الانتفاضة الثانية.
وتُشير وكالة أسوشيتد برس إلى أن الأشهر الأولى من عام 2024 شهدت ارتفاعا بنسبة 59٪ في أعداد المغادرين، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
أما صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، فذكرت في تقريرها الإحصائي أن عدد العائدين إلى إسرائيل انخفض بنسبة 21٪ خلال النصف الأول من 2024، ما يعكس تحولا واضحا في ميزان الحركة الديمغرافية بين "الخروج" (Yerida) و"العودة" (Aliyah).
يمثل هذا التراجع في معدلات العودة إلى الداخل الإسرائيلي مؤشرا واضحا على تآكل جاذبية "الملاذ الآمن" في الوعي الجمعي الإسرائيلي، إذ لم يعد قرار الهجرة يُفسر في إطار اقتصادي أو مهني فحسب، بل أصبح أيضا استجابة أمنية للأحداث المتسارعة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع اتساع رقعة التوترات الإقليمية وتزايد الشعور بانعدام الاستقرار، بدأت هذه الأرقام تأخذ شكل تحول بنيوي طويل الأمد في ديمغرافيا الدولة، ما يطرح تساؤلات حول مستقبلها الاجتماعي والاقتصادي خلال العقد المقبل.
وتُظهر الإحصاءات سالفة الذكر أن هذه الموجة من الهجرة لم تكن متجانسة زمنيا، بل مرت بمرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى (أكتوبر/تشرين الأول 2023- مارس/آذار 2024):وهي مرحلة "الصدمة الجماعية"، التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى"، حيث تزامن الخوف الأمني مع التعبئة العسكرية الواسعة، وشعور الأسر بعدم الاستقرار.
خلال هذه الفترة، كانت الهجرة ذات طابع دفاعي مؤقت؛ أي "هجرة وقائية" تهدف إلى الابتعاد عن التوتر المباشر.
المرحلة الثانية (أبريل/نيسان 2024- صيف 2025)وهي مرحلة "الاستقرار النسبي"، حيث تحول الخروج إلى خيار إستراتيجي لدى بعض الفئات، خصوصا المهنيين والعائلات الحضرية.
هنا لم يعد السفر مجرد هروب من الخطر، بل هو بحث عن نمط حياة أكثر استقرارا، وفرص عمل وتعليم في الخارج.
إعلانهذه المعطيات تُشير إلى تحول بنيوي طويل الأمد في ديمغرافيا الدولة، لا سيما مع تصاعد الشعور بانعدام الاستقرار الإقليمي، وتراجع الثقة بالمؤسسات.
وقد وصف النائب جلعاد كريف (Gilad Kariv) الظاهرة بأنها "تسونامي من الإسرائيليين الذين يختارون مغادرة البلاد". وهو توصيف ورد في تقرير "تايمز أوف إسرائيل" بعنوان: (Hidden Cost of War: 125,000 Israelis Emigrated between 2022 and 2024) (Times of Israel, 2025)
من هم المغادرون؟تشير البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي (CBS, 2024) إلى أن أكثر من 80 ألف إسرائيلي غادروا البلاد في عام واحد، معظمهم من الفئة العمرية ما بين 25- 40 عاما، وهي الفئة التي تشكل العمود الفقري للقوى العاملة في القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية.
ويرى أندرو شاين (Andrew Schein) في دراسته المنشورة بمجلة "شؤون إسرائيل" (Israel Affairs)، أن هذه الهجرة تمثل نزيفا بشريا اقتصاديا خطيرا، إذ تؤدي إلى تقلص قاعدة الضرائب، وارتفاع تكاليف العمالة المحلية (https://doi.org/10.1080/13537121.2024.2422157)
في تقرير نشره موقع "تايمز سراييفو" بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2024 بعنوان: "مغادرة الإسرائيليين للبلاد بأعداد كبيرة: نزوح غير مسبوق، ومعظمه من الأفراد في سن الخدمة العسكرية"، أشار إلى أن إسرائيل تشهد موجة هجرة متصاعدة بين الفئات الشابة المنتجة.
وبين التقرير أن متوسط عمر المهاجرين الذكور بلغ 31.6 سنة، بينما بلغ لدى الإناث 32.5 سنة، موضحا أن الأفراد في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم يشكلون نحو 40% من إجمالي المهاجرين، رغم أن نسبتهم السكانية لا تتجاوز 27%.
وتُبرز هذه الأرقام- وفق التحليل الإحصائي- أن إسرائيل تخسر شريحة مركزية من القوى العاملة المؤهلة، الواقعة في سن التعليم الجامعي، والانخراط المهني، والخدمة العسكرية، وهو ما يُنذر بتداعيات اقتصادية وبشرية بعيدة الأمد.
كما أورد التقرير أن 48% من الرجال و45% من النساء المهاجرين غير متزوجين، في حين انتقل 41% برفقة شركاء حياتهم، ما يشير إلى أن جزءا كبيرا من هؤلاء يهاجرون بشكل دائم لا مؤقت.
أما من حيث المنشأ، فقد وُلد 59% من المهاجرين في الخارج، بينما 41% منهم مولودون داخل إسرائيل، وقد جاء 80% من المولودين في الخارج من أوروبا، غالبيتهم العظمى (72%) من دول الاتحاد السوفياتي السابق، وهي فئة كانت قد حصلت سابقا على دعم حكومي واسع شمل الإسكان المدعوم، والقروض العقارية، قبل أن تعيد استثمار مكاسبها من بيع تلك العقارات في الخارج (Sarajevo Times, 2024).
تشير هذه الأرقام إلى أن إسرائيل تفقد النخبة الشابة المنتجة والمثقفة، وهي الفئة التي تمثل أساس القوى العاملة والتعليم والخدمة العسكرية؛ ما يُنذر بتداعيات بشرية واقتصادية طويلة الأمد.
فلم يعد الشباب في إسرائيل يرون في الدولة مشروعا جماعيا وطنيا ذا أفق، بل موقعا محفوفا بالتهديد، "أسيرة واقع الصراع المستمر".
نزيف العقولبرز في السنوات الأخيرة اتجاه موازٍ لهجرة الشباب، يتمثل في خروج متزايد للأكاديميين والعاملين في مجالات التكنولوجيا والطب والهندسة.
ووفق جلسة خاصة عقدتها لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست في مايو/أيار 2024، أشار مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست (Knesset Research and Information Center, 2024) إلى أنه لا تتوافر بيانات رسمية دقيقة بعد، لكن التقديرات الأولية تشير إلى أن نحو 12% من المغادرين عام 2024 كانوا من حملة درجات علمية متقدمة (ماجستير أو دكتوراه)، ما يعكس نزيفا حادا في رأس المال البشري المؤهل داخل إسرائيل (Knesset Press Release, 2025).
من جهتها، كشفت منظمة ScienceAbroad- وهي شبكة دولية تربط الباحثين الإسرائيليين العاملين في الخارج- في تقريرها السنوي لعام 2024 أن أكثر من 3500 عالم وباحث إسرائيلي انتقلوا إلى جامعات في أوروبا وأميركا الشمالية، منذ اندلاع حرب غزة، مقارنة بنحو ألفَي باحث فقط في العامين السابقين مجتمعين، ما يمثل تضاعفا لوتيرة "هجرة العقول" في أعقاب الصراع العسكري والسياسي (ScienceAbroad Annual Report, 2024).
إعلانوفي سياق مماثل، يؤكد الباحث ياغيل ليفي من الجامعة المفتوحة في إسرائيل، أن هذه الظاهرة تمثل شكلا من أشكال "النزيف المعرفي" (Knowledge Drain) الذي يهدد البنية التحتية للاقتصاد الإسرائيلي القائم على الابتكار والبحث العلمي، محذرا من أن استمرار فقدان الكفاءات الأكاديمية والتكنولوجية، سيُحدث فجوة يصعب تعويضها في المديَين؛ المتوسط، والبعيد (Haaretz Report, 2025).
في الختام، تشير هذه المؤشرات الديمغرافية الراهنة إلى أن إسرائيل تقف على أعتاب مرحلة تحول بنيوي عميق وطويل الأمد.
فالهجرة المتزايدة للشباب والمتعلمين لا تُعد مجرد ظاهرة سكانية عابرة، بل تمس جوهر المجتمع الإسرائيلي وتركيبته العمرية والمهنية.
إذ يفضي استمرار هذا النزيف البشري إلى خلل متنامٍ في الهرم العمري للقوى العاملة، وتراجع في القطاعات الحيوية كالتكنولوجيا والبحث العلمي، التي شكلت على مدى عقود القلب النابض للاقتصاد الإسرائيلي الحديث.
تتجاوز انعكاسات هذه الظاهرة البعد الاقتصادي لتطول النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة؛ فالمغادرون لا يرحلون فقط بحثا عن فرص أفضل، بل عن شعور مفقود بالأمان والاستقرار، بينما يبقى في الداخل من يربط وجوده بالأرض بدوافع دينية، أو قومية مُتخيلة.
وهكذا يتعمق الانقسام بين من يرى البقاء واجبا وطنيا، ومن يعد الرحيل خلاصا إنسانيا مشروعا.
على المدى البعيد، يبدو أن هذا المسار قد يقود إلى تراجع النمو السكاني والإنتاجية، وإلى إعادة تعريف هوية الدولة نفسها. فالنموذج الصهيوني الذي قام على فكرة "الملاذ الآمن" يواجه اليوم اختبارا وجوديا؛ إذ تتآكل رمزيته أمام واقع جديد تتراجع فيه الثقة بالمؤسسات، وتغيب فيه القدرة على طمأنة الأجيال القادمة.
وفي ظل هذا التحول، قد يتحول مفهوم "العاليا"- الذي كان يوما مرادفا للحلم الجماعي بالصعود إلى "أرض الميعاد"- إلى ذكرى رمزية لماضٍ مضى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أکتوبر تشرین الأول 2023 الملاذ الآمن أن إسرائیل فی الخارج أکثر من إلى أن أن هذه
إقرأ أيضاً:
«ناسا» تطلق التحدي: سباق لتطوير أسرع الطائرات الصوتية
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / متابعات:
أخيراً، أطلقت وكالة الطيران والفضاء الأميركية «ناسا» طائرة «إكس – 59» الأسرع من الصوت التي حلقت بهدوء في سماء بالمديل، كاليفورنيا، ثم هبطت بنجاح بعد بضع دقائق. وتعد هذه الطلعة الأولى التي انطلقت في 28 أكتوبر (تشرين الأول)، بمثابة اختبارٍ للأنظمة الأساسية وصلاحية الطيران في ظروف سرعات لم تتجاوز سرعة الصوت. كما تُمثل هذه الرحلة الخطوة قبل الأخيرة نحو إحياء رحلات الركاب الجوية الأسرع من الصوت.
تصاميم أميركية وصينية مطورة
وتُمثل هذه الرحلة أيضاً بداية سباقٍ لمعرفة أيّ من أفكار ومخططات الطائرات الأسرع من الصوت الثلاثة سيفوز، ليُصبح التصميم السائد في القرن الحادي والعشرين.
وقد طرحت شركة «لوكهيد مارتن» من جهتها، تصميم «إكس ـ 59» X-59، التي تُشبه شكل السهم، والتي جرى تطويرها لتجنب دوي الانفجار الصوتي.
بعد ذلك، لدينا طائرة «إكس بي – 1 بوم سوبرسونيك»Boom Supersonic’s XB-1، التي لا تهدف إلى تجنب دوي الانفجار الصوتي، بل إلى منعه من الوصول إلى الأرض، وذلك بفضل حسابات كمبيوترية والاستخدام الذكي لفيزياء الغلاف الجوي.
وأخيراً، لا يمكن أن نغفل أن الصين تُشارك هي الأخرى في هذا السباق، بتصميم يبدو أنه يمزج أفكاراً من كل من «إكس ـ 59» و«إكس بي ـ 1».
طائرة بلا دويّ صوتي
وتكمن أهمية طائرة «إكس-59» في تدارك تصميمها للفشل الذريع الذي مني به تصميم طائرة «كونكورد»؛ فرغم كونها معجزة تكنولوجية، فإن دويّها الصوتي المزعج المحطم لطبلة أذن الإنسان أثار استياءً شعبياً، مما أدى إلى حظر الطيران الأسرع من الصوت فوق المناطق المأهولة بالسكان عام 1971، في خطوة أضعفت جدواها التجارية، واتبعتها الجهات التنظيمية في جميع أنحاء العالم. والآن، ورغم رفع إدارة ترمب لهذا الحظر داخل الولايات المتحدة، فإنه لا يزال سارياً في بقية أرجاء العالم.
وهنا، جاء تصميم «إكس-59» لإلغاء جميع صور الحظر عالمياً. وهو يهدف إلى إثبات أن الطائرة النفاثة الأسرع من الصوت يمكنها التحليق دون إحداث دويّ مزعج، بل تُولّد صوتاً هادئاً لا يزيد في ضوضائه عن صوت إغلاق باب سيارة.
وفي هذا الصدد، أخبرني ديف ريتشاردسون، مدير برنامج طائرة «إكس-59» لدى شركة «لوكهيد مارتن»، العام الماضي، عند الكشف عن النموذج الأولي الفعلي: «يكمن الاختراق الحقيقي للطيران الأسرع من الصوت، في القدرة على التحليق فوق الأرض مرة أخرى. ولديك تلك المسارات الطويلة التي تكون فيها تلك الرحلة الأسرع من الصوت أكثر فائدة».
الخدعة السحرية تكمن في شكل التصميم
يذكر أن طائرة «إكس-59» جرى تصنيعها من أجزاء مُعاد تدويرها، مُثبتة في هيكل جذري على شكل رأس سهم، مما يجعلها تبدو أشبه بسلاح أكثر منها بمركبة بحثية. وفي الواقع، تبدو الطائرة أشبه بإبرة طويلة وحادة بشكل لا يُصدق.
وفي هذا التصميم تحديداً تكمن الخدعة السحرية. وبحسب ريتشاردسون، فإن سر رحلتها الهادئة ليس مادة أو محركاً جديداً غريباً. وأوضح قائلاً: «لا توجد تكنولوجيا جذرية في الطائرة نفسها. الأمر برمته يرتبط في الواقع مجرد شكل الطائرة».
وُلد هذا الشكل – بمقدمة تُشكل ثلث طول الطائرة، وقمرة قيادة دون نافذة أمامية، ومحرك مثبت على ظهرها – من رحم قوة حاسوبية هائلة. وأتاحت النمذجة المتقدمة للمهندسين محاكاة كيفية تصرف موجات الصدمة، أي العملية التي كانت تتطلب في السابق التجربة «مئات أو آلاف المرات بتكلفة باهظة» داخل نفق رياح.
يعتمد تصميم شركة «لوكهيد مارتن» على إعادة تشكيل فيزياء دوي الانفجار الصوتي بشكل جذري. وبدلاً من السماح لموجات الصدمة الناتجة عن حركة الطائرة عبر الهواء بالاندماج في دوي انفجار ضخم ومتفجر، صُمم الشكل النحيف لطائرة «إكس ـ 59» لإبقاء تلك الموجات منفصلة. وعن ذلك، قال ريتشاردسون: «نريد أن نكون قادرين على التمدد وإدارة الصدمات المختلفة على طول الطائرة».
وبالفعل، جرى وضع كل عنصر بدقة لدعم هذا الهدف. إذ يقع مدخل هواء المحرك أعلى جسم الطائرة، مما يدفع موجة الصدمة للانتقال لأعلى، بعيداً عن الأرض. ويستعين الطيار بـ«نظام رؤية خارجية» عالي الدقة، بدلاً من النافذة، مما يزيل الانتفاخ الذي يشبه المظلة الذي من شأنه أن يُحدث موجة صدمة قوية.
ولا يتمثل الهدف النهائي هنا في بناء طائرة ركاب جديدة، بل في جمع البيانات. وتهدف مهمة «كويست» (QueSST) (تكنولوجيا الأسرع من الصوت الهادئة)، من «ناسا»، إلى تحويل دوي طائرة «كونكورد» البالغ 105 ديسيبل – ما يكافئ صوت منشار كهربائي – إلى صوت ارتطام بقوة 75 ديسيبل. وهذه نقطة البيانات الحاسمة.
وتُعد طائرة «إكس ـ 59» أداة تجريبية مصممة للتحليق فوق التجمعات السكانية، وطرح سؤال بسيط: هل هذا الصوت الخافت مقبول؟ ومن المقرر تجميع التعليقات من الأشخاص على الأرض، في قاعدة بيانات تتاح أمام الهيئات التنظيمية (القانونية) الأميركية والدولية، مما يوفر الأدلة التي يحتاجونها لإعادة صياغة قواعد الطيران الأسرع من الصوت.
اختبار نوع جديد من الطائرات
كانت هذه الرحلة الافتتاحية التي قادها نيلز لارسون، مجرد بداية لعملية اختبار صارمة. وعلى مدار الأشهر المقبلة، ستحلق طائرة «إكس ـ 59» بشكل أسرع وأعلى تدريجياً، لتتجاوز في النهاية سرعة 1.4 ماخ على ارتفاع 55 ألف قدم. وبمجرد التحقق من أدائها، ستبدأ الطائرة رحلاتها فوق التجمعات السكانية عبر العديد من المدن الأميركية. وإذا ما جاء رد الفعل العام إيجابياً ودعمت البيانات التوقعات، فسيكون الطريق ممهداً أمام انطلاقة أكبر.
وفيما يتعلق بمصنعي الطائرات التجارية، صرّح ريتشاردسون بأن الشركة تستطيع «البدء فوراً» في تطوير جيل جديد من الطائرات الهادئة الأسرع من الصوت بمجرد إلغاء القوانين الراهنة. والآن، يعتمد مستقبل أوقات السفر الأقصر بشكل كبير على أداء هذه الطائرة الفريدة والغريبة.
من جهتها، وفي هذه الأثناء وبعد اختبار طائرة «إكس بي ـ 1» بنجاح، تواصل شركة «بوم سوبرسونيك» العمل على طائرة «أوفرتشر»، أول طائرة تجارية لها. وإذا استمرت الشركة في تطويرها بالوتيرة الحالية، فقد تصبح الفائزة في هذا السباق الصامت للطائرات الأسرع من الصوت.
وقد أخبرني برايان شول، الرئيس التنفيذي للشركة، قبل بضعة أشهر أن طائرة «أوفرتشر» مصممة لتناسب البنية التحتية الحالية للمطارات. وستكون الطائرة قادرة على العمل من البوابات والمدرجات الحالية، مما يجعلها عملية للاستخدام التجاري. في المقابل، عبر عن اعتقاده بأنه سيكون من المستحيل لطائرة مثل «إكس ـ 59» أن تتطور إلى حجم طائرة ركاب، لأنها ستكون طويلة للغاية بشكل لا يُصدق، ويستحيل أن تتناسب مع المطارات الحالية دون إعادة تصميم أو بناء بوابات جديدة.
ومع ذلك، يبقى من السابق لأوانه التنبؤ بما سيحدث، إذ لا يزال يتعين على «إكس ـ 59» البدء في وإتمام حملة الاختبارات بنجاح، كما يتعين على «أوفرتشر» أن تتجسد على أرض الواقع. وينطبق الأمر نفسه على التصميم الصيني. أما الآن، فمن الممتع رؤية كل هذه الآلات الرائعة تُقلع… وتكتب التاريخ.
* مجلة «فاست كومباني»
ـ خدمات «تريبيون ميديا»