تفكيك ” مكر التاريخ ” بين الحتمية الفلسفية وتأويلات التاريخ…!!
تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT
كتب قيادي محسوب على اليسار وقف منذ اليوم الأول مع تحالف دول العدوان مقالاً ارادهُ أن يكون مقالاً إحتفائياً باستقلال الجنوب (30 نوفمبر) وفسر من خلاله أسباب انتكاسته، وأسباب هزائم وخيبات شرعية العمالة، حيث وظف فيه مقولة فلسفية هيجيلية ” مكر التاريخ “. ويستحق مقاله هذا نقداً وتحليلاً، وسأحاول تفكيكه وفحصه من عدة زوايا.
بدءاً ذي بدء يقدم المقال ” مكر التاريخ ” كما لو كان رؤية فلسفية لمحاولة فهم التناقض الصارخ بين نوايا الفاعلين في التاريخ والنتائج التي تترتب على أفعالهم.
يستند فيه الكاتب إلى مفهوم ” مكر التاريخ ” الهيغلي والماركسي ليقرأ من خلاله أحداثاً تاريخية قديمة وحديثة، مركزاً في النهاية على التجربة اليمنية. وعلى الرغم مما يبدو للقارئ غير المتخصص بأن الكاتب يستخدم فكرة عميقة، وأن لديه جراءة في الطرح، إلا أن المقال يقع في عدة مآزق منهجية وتأويلية تجعل من ” مكر التاريخ ” سردية استعراضية مغلقة أكثر منها أداة تحليلية مفتوحة.
ـ إشكالية المفهوم: قفاز فلسفي على يد أيديولوجية.
المشكلة الأولى تكمن في استخدام المفهوم نفسه. ” مكر التاريخ ” أو ” دهاء العقل ” عند هيجل هو جزء من منظومة فلسفية مثالية معقدة، تهدف إلى تفسير كيف أن ” العقل الكلي ” يحقق ذاته في العالم عبر استخدامه لأهواء ومصالح الأفراد المحدودة، ليصل في النهاية إلى تحقيق ” حرية الروح المطلقة “. هذا المفهوم مجرد في أساسه. لكن المقال يقوم بـ ” تسطيح ” هذا المفهوم وتحويله إلى أداة سحرية لتأويل التاريخ.
الأخطر من ذلك هو تحويل ” مكر التاريخ ” إلى ذريعة أيديولوجية. ففي معظم الأمثلة التي قدمها، خاصة تلك المتعلقة باليمن وسوريا، يبدو ” مكر التاريخ ” وكأنه مجرد تسمية أخرى لـ ” عدالة التاريخ ” أو ” انتصار رؤيتنا السياسية على المدى البعيد “. عندما يُعلن أن (انقلاب الحوثي) ” أحيا قيم الثورة والجمهورية ” أو أن ” برسترويكا ” جورباتشوف كانت ” استسلاماً ” وليست إصلاحاً، فإن ” مكر التاريخ ” هنا لا يحلل، بل يُصدر أحكامًا قيمية مطلقة. إنه الكاتب يمنح نفسه سلطة ادعاء معرفة ” الغايات الخفية ” للتاريخ، معرفة تكرس وعياً زائفاً يتوافق مع موقفه السياسي.
ـ انتقائية القراءة التاريخية: حين يصبح ” المكر ” انتقائياً
يقع المقال في فخ الانتقائية التاريخية. فهو يختار أحداثاً تثبت فرضيته ويتجاهل ما عداها. لماذا كان ” مكر التاريخ ” ضد العباسيين عندما انفتحوا على غير العرب، بينما لا نطبق نفس المنطق على الدولة العثمانية متعددة الأعراق التي استمرت لقرون؟ ولماذا كان ” مكر التاريخ ” مع أمريكا في أفغانستان ثم انقلب عليها، بينما لا نذكر كيف أن هذا ” المكر ” نفسه قد يكون وراء صعودها كقوة عظمى بعد الحربين العالميتين بطرق غير متوقعة؟
هذه الانتقائية تجعل ” مكر التاريخ ” مفهوماً مرناً إلى درجة الإفراط. إنه يشبه ” نظرية المؤامرة ” لكن بفاعل مجرد اسمه ” التاريخ “. أي نتيجة يمكن تفسيرها لاحقاً على أنها ” مكر “، مما يُفرغ التاريخ من سياقه المعقد ومن تداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والصدفة البحتة، ليحل محلها قصة أخلاقية أو سياسية مقصودة سلفاً.
ـ إغفال الإرادة البشرية والمسؤولية: هل نحن مجرد دمى؟
ينجح المقال في تسليط الضوء على فجوة النوايا والنتائج، لكنه يفشل في تقديم مساحة حقيقية للإرادة البشرية والمسؤولية. إذا كان ” التاريخ ” يلعب بنا كبيادق على رقعة شطرنج، فما هي مسؤولية القادة عن أخطائهم؟ ما هي مسؤولية النخب عن فشلها في بناء الدولة؟ تحليل انهيار الوحدة اليمنية أو سقوط الاتحاد السوفيتي عبر ” مكر التاريخ ” يخفف من وطأة المساءلة عن القرارات الخاطئة والإدارة الكارثية، والفساد، والصراعات الشخصية والإرتماء في نهاية المطاف في حضن العمالة والإرتزاق.
إن تحميل ” التاريخ ” مسؤولية الخراب يخلق وعياً زائفاً يكتنفه العجز. بدلاً من أن يكون السؤال: ” أين أخطأنا؟ وكيف نصلح؟ ” يصبح السؤال: ” كيف خدعنا التاريخ؟ وماذا يخبئ لنا من مفاجآت؟ “. هذا تحويل للصراع من مجال الفعل البشري المسؤول إلى مجال القضاء والقدر الحتمي.
ـ ازدواجية التطبيق: المكر عندما يكون معنا وضدنا في نفس الوقت.
تبدو ازدواجية تطبيق المفهوم جلية عند مقارنة المثال السوري باليمني. ففي سوريا، يرى الكاتب أن ” مكر التاريخ ” ربما كان يعد لـ” شروط التحول الجذري ” عبر المعاناة، مما يوحي بأن الدمار الحالي قد يكون مقدمة لنهضة مستقبلية ( وهو تبرير خطير للمأساة ). بينما في اليمن، فإن الدمار نتيجة حتمية لـ” مكر التاريخ ” ضد الحوثيين ومن ” انقلب على الجمهورية ” حسب زعمه.
هذه الازدواجية تكشف أن ” مكر التاريخ ” في هذا المقال ليس قانوناً موضوعياً للتحليل، بل هو إطار خطابي لتأكيد رؤية الكاتب السياسية والأخلاقية ذات الأبعاد الأيديولوجية الواضحة. ما هو ” مكر ” عندما يحدث لخصومنا، يصبح ” منطقاً تاريخياً حكيماً ” عندما يخدم أهدافنا.
وأخيراً يبرز سؤال هل هناك مخرج من المتاهة؟
” مكر التاريخ ” فكرة ثرية إذا ما استخدمت كـتحذير من تعقيدات الفعل البشري وعدم القدرة على التنبؤ بنتائجه، وليس كـتفسير شامل وجامد. الفائدة الحقيقية من مفهوم هيجل ليست في تبني ” العقل الكلي “، بل في إدراك أن أفعالنا تحمل دائماً إمكانية أن تتحول ضد مقاصدنا، مما يستدعي التواضع، والحذر، والمراجعة المستمرة.
للخروج من هذه المتاهة، نحتاج إلى استبدال نموذج ” المكر الحتمي ” بنموذج “. الفعل المسؤول في سياق معقد “. التاريخ ليس مخادعاً بقدر ما هو معقد، تتدافع فيه قوى لا حصر لها. بدلاً من البحث عن ” عقل كلي ” يختبئ خلف الأحداث، قد يكون من الأجدى تحليل البنى الاقتصادية، والتحالفات السياسية، والصراعات على الموارد، وعيوب المؤسسات، ودور الأفراد في صنع اللحظات الحرجة.
في النهاية، يذكرنا المقال بأن التاريخ مليء بالمفارقات، لكن خطورته تكمن في أنه قد يحوّل هذه المفارقات إلى أسطورة تعفي البشر من مسؤوليتهم في صنع تاريخهم، أو الأصح، في خرابه.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ
لم يكن السودان يوماً ساحة حربٍ فقط، بل كان مرآة لتاريخٍ ممتد من وادي النيل إلى قلب إفريقيا. هذا البلد الذي حمل مع مصر ذاكرةً مشتركة منذ مملكة وادي النيل الموحدة، ظل في وعي المصريين جزءاً من عمقهم الجنوبي، كما ظل في ذاكرة السودانيين امتداداً لشمالهم التاريخي. فعندما توحدت مصر والسودان تحت تاجٍ واحد، لم تكن الحدود السياسية سوى خطوط رسمها الاستعمار على الخرائط، أما النيل فكان الشريان الذي لم يعرف انفصالاً.
لكن التاريخ أخذ منحى آخر بعد عام 1954 حين انتهت وحدة "مصر والسودان" رسمياً، لتبدأ مرحلة الدولة السودانية المستقلة التي حملت في رحمها بذور التمزق قبل أن تكتمل ملامحها. ومع كل منعطف سياسي في القاهرة، كان صدى التحولات يصل إلى الخرطوم، والعكس صحيح. فعقب نكسة يونيو 1967، حين اهتزت مصر سياسياً وعسكرياً، كانت الأراضي السودانية ملاذاً آمناً للطائرات المصرية المنسحبة، وكانت الكلية الحربية المصرية تُنقل إلى الخرطوم في مشهدٍ يعبّر عن وحدة المصير لا مجرد تضامنٍ سياسي.
تاريخياً، أدركت القاهرة أن حدودها الجنوبية ليست خطاً على الرمال، بل خط حياةٍ استراتيجي، وأن السودان بعمقه ومساحته يمثل امتداد الأمن المائي والغذائي والإنساني لمصر. ومع ذلك، ظل الاهتمام العربي والإقليمي بالسودان أقل من حجمه الحقيقي، فبينما تُسلّط الأضواء على غزة الصغيرة في الشرق، تُترك السودان، بامتداده الشاسع، للنزاعات القبلية والحروب الأهلية والضغوط الخارجية. إنها مفارقة تُجسد اختلال أولويات الوعي العربي، إذ يتم التعامل مع جغرافيا السودان كمساحةٍ بعيدة، بينما هي في الحقيقة صمام الأمان لمنطقة النيل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.
السودان ليس بلداً واحداً بالمعنى الاجتماعي والثقافي، بل فسيفساء من تسعة أقاليم، لكل منها لغته ولهجته وزيه ودينه وذاكرته الخاصة. هذا التنوع الذي يمكن أن يكون مصدر قوة لو تم احتواؤه سياسياً وثقافياً، تحول بفعل سوء الإدارة إلى صراعات مزمنة. في عهد جعفر نميري مثلاً، حاول النظام أن يمنح الأقاليم نوعاً من الحكم الذاتي الجزئي لاحتواء النزعات الانفصالية، لكنها كانت خطوة مؤقتة لم تعالج جوهر الأزمة، بل رحّلتها إلى المستقبل.
من الجنوب الذي انفصل رسمياً إلى دارفور التي احترقت بنيران الإقصاء، ومن الشرق المهمّش إلى الشمال المثقل بالذكريات، يتبدى السودان كقارة صغيرة تتنازعها لغات وآلهة وتقاليد مختلفة، يجمعها فقط النيل والتاريخ المشترك.
لذلك، فإن أي "هدنة إنسانية" في السودان لا يمكن قراءتها كمجرد توقفٍ مؤقت للقتال، بل كاختبار لإرادة البقاء الوطني في بلد تتقاطع فيه الجغرافيا مع المصالح الإقليمية. الهدنة هنا ليست نهاية حرب، بل فصل من فصولها، تستخدمها الأطراف المتحاربة لترتيب أوراقها سياسياً وعسكرياً، بينما يدفع المدنيون ثمن الدماء والخراب.
من منظورٍ جيوسياسي، تكتسب الأزمة السودانية عمقاً استراتيجياً لا يقل عن أزمات المشرق العربي. فحدود السودان مع مصر تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وهي الأطول والأكثر حساسية في المنطقة، إذ تمر عبرها مصالح الطاقة والنقل والمياه. وإذا ما قورنت بمساحة غزة التي لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، فإن المفارقة تبدو فاضحة: غزة الصغيرة حظيت باهتمامٍ سياسي وإنساني عالمي، بينما السودان الشاسع، الذي يمكن أن يكون سلة الغذاء الإفريقي والعربي، يعاني التجاهل رغم أنه يختزن كل مقومات الانفجار الإقليمي.
إن مأساة السودان لا تختصرها البنادق ولا بيانات الهدنة. إنها مأساة التهميش التاريخي، وسوء استثمار التنوع، وغياب الرؤية التي تدرك أن هذا البلد هو قلب إفريقيا النابض، وأن انهياره يعني زلزلة البنية الاستراتيجية لمصر والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.
فالحرب في السودان ليست فقط حرب سلطة، بل صراع على هوية وطنٍ لم يكتمل. وكل هدنةٍ تُعلن اليوم هي استراحة محاربٍ في معركة طويلة بين المركز والهامش، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الطموح الوطني والتدخل الخارجي.
السودان وسد النهضة… معركة الماء والوجودلا يمكن فصل مستقبل السودان عن معادلة سد النهضة التي تتجاوز ملف المياه إلى معركة بقاء إقليمي. فالسودان يقع في قلب المعادلة بين مصر وإثيوبيا، وهو الجسر الجغرافي الذي يربط المنبع بالمصب. أي اضطراب في السودان يعني مباشرةً اهتزاز توازن الأمن المائي في حوض النيل بأكمله.
إن استقرار السودان ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو شرط لبقاء منظومة الحياة في وادي النيل. فبينما تخوض مصر معركة الدفاع عن حصتها التاريخية من المياه، فإن السودان — إن غرق في الفوضى — سيصبح خاصرة رخوة يمكن لأي قوة خارجية أن تستغلها لابتزاز الجميع.
لهذا، يجب أن يُعاد النظر في السودان لا كدولة جارة فحسب، بل كـ عمق استراتيجي وبيئة حيوية للأمن المصري-الإفريقي المشترك. فكما أن النيل لا يتجزأ، فإن أمن مصر والسودان لا يمكن فصله بالحدود.وإذا كانت غزة الصغيرة تذكّر العرب يومياً بقضية الوجود، فإن السودان الواسع يذكّرهم بمعنى البقاء.
إن الحرب هناك ليست استراحة محارب، بل جرس إنذار لقارةٍ بأكملها. فحين يختنق الجنوب، لا يمكن أن يتنفس الشمال.
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
اقرأ أيضاًعاجل| وزير الخارجية يدين الفظائع والانتهاكات المروعة في مدينة الفاشر السودانية
الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بمنع استخدام أراضيها فى تهريب الأسلحة إلى السودان
كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية: السودان يعيش أصعب أزمة إنسانية في العالم