إشارات وتنبيهات لقراءة الثورات العربية.. مشاتل التغيير (47)
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
من المهم في هذا المقام أن نتبين خريطة المواقف والتشريح المنهجي لفعل الثورات العربية في شكل تنبيهات وإشارات؛ وفيما يخص هذا الشأن لم يجانب الصواب الدكتور عبد الفتاح ماضي في مقاله الضافي "تحولات الثورة المصرية في خمس سنوات"، عندما قال: "ليس لنظام الحكم القائم في مصر أي مستقبل، ليس فقط لأن الحكم العسكري يكاد ينقرض في دول الجنوب وإنما أيضا لأن نمط السلطة الذي يحاول النظام إقامته يقوم على الإقصاء التام والقمع الشامل في مجتمع لا يزال يعيش الحالة الثورية، بل وتعمقت فيه أسباب الثورة من جديد.
وقبل كل ذلك، رفض ومواجهة الأفكار الرائجة لدى فريق من الباحثين في العلوم السياسية الذين يحاولون التهوين من شأن موضوع الثورات، وإطلاق كل أوصاف سلبية تتعلق بالأفعال الثورية، والزعم بأن كل الدارسين للعلوم السياسية يرون أن الثورة عكس الإصلاح، وأنها فعل عنيف متهور غاضب، يتحرك بعواطف جياشة يصعب التحكم فيها، رغم أن هذا الباب في العلوم السياسية من الأبواب المهمة، ولكن في إطار علاقة العالم بالأنظمة السياسية غالبا ما يتغاضى عن ذلك، ضمن نموذج عالم السلطان؛ الجامع بين علماء الدين الذين أفتوا أن الثورات والذين أسهموا فيها في حال تأثيم؛ وبين دكاترة السلطان من "الدولتية" الذين انطلقوا إلى أن الثورات لم تجلب استقرارا واستهدفت الدولة ومؤسساتها؛ بين هذا وذاك كان النظر السلبي للثورات التي تتالت في العالم العربي.
كذلك علينا أن ننبه الى طبيعة التعاطي مع قضايا الثورات العربية بقدر كبير من مربع "الانفعال/ الافتعال/ الإغفال/ التفسير الزائف"، مما أدى إلى إهمال ضرورات العمق المنهجي، ذلك أن الثورات العربية التي اجتاحت عددا من البلدان العربية خلال العقد الماضي والتي اصطلح على تسميتها إعلاميا بـ"الربيع العربي" كانت بمثابة هزة عنيفة زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة، والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية. فعلى الرغم من أن ما حدث في العالم العربي كان نتيجة لعوامل كثيرة فرضت ضرورات التغيير، إلا أنه كان مفاجئا وغير متوقع نتيجة التراكمات داخل المجتمعات العربية جراء الفساد السياسي والعناء الاقتصادي والتهميش الاجتماعي.
ربما هيّأ كل هذا بيئة من إصدار الأحكام الجزافية والمواقف المسبقة والتحليلات المبتسرة والمتحيزة، وكأنها كانت تحاكي الأغراض الشعرية القديمة والاستدعاء الذي لم يكن في حقيقة الأمر مضادا لحقيقة التشريح المنهجي لفعل الثورات العربية والاكتفاء بالمواقف الانفعالية.
وبشكل عام، فإن أهم ما يمكن الإشارة إليه في إطار الاهتمام بموضوع "الثورات عامة والثورات العربية على وجه الخصوص"، كواحد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الساحتين الإعلامية والعلمية، فضلا عن الساحة الثقافية التي امتلأت بندوات ومؤتمرات ومساجلات حول الثورات العربية كأحد أشكال العقلية السجالية و"اغتيال العقل"، كما يعلمنا برهان غليون من عنوان كتابه؛ هو تحول الموضوع إلى "أسطورة برج بابل" التي تشير إلى فوضى الفهم وحدية المواقف، بما فيها من بلبلة الألسن حتى لو تحدث الناس لغة واحدة.
كما يذكرني كل هذا بقصة "جدل بيزنطة" الذي ظل أهلها يتجادلون في مسألة لا طائل من البحث فيها، والعدو على أبوابهم، فدخلوا في غفلة تنازعهم على لا شيء. كما يذكرني هذا بمناقشات كلامية اتسم بها علم الكلام في مرحلته المتأخرة، حينما تحول عن وظيفته الأصلية في مواجهة "الزنادقة" إلى مساجلات تنازُع لا تورث إلا الفشل، ويذكرني ذلك أخيرا بنمط مواقفنا في خطاباتنا حول قضايا تمس الكيان والبنيان، بنمط التأليف التقليدي والنظم الشعري الذي يحاكي عناصر مضى أوانها ضمن أغراض شعرية متنوعة، وبدت الثورات موضوعا لكل هؤلاء.
وضمن خطابات السجال التي لا تفيد؛ فهذا يتناول الثورات ضمن أغراض "المدح" التي تبالغ في مدح الثورات إلى الحد الذي يضفي صفات عليها ليست فيها بل ربما تحمل داخلها نقيض ذلك، وفي مقابل ذلك يتصدر كل من يحسن أغراض الهجاء الشعرية التي تحول أدنى الخلاف إلى حالة من الخصومة التي لا تندمل أو تستدرك؛ إنه غرض يتأسس على الإسقاط، فهو لا يشعر بقوة الذات إلا عبر هجاء الخصم، ويتأجج الخلاف الصغير حتى يتحول إلى عناصر انقسام واستقطاب خطيرة لأسباب يغلب عليها التسييس أو عالم الأيديولوجيا والأحكام المسبقة. تتكامل الصورة بغرض شعري آخر وهو الفخر والزهو بالفعل الثوري بمبالغات في تضخيم الذات، خاصة مع سقوط رؤوس الأنظمة، ولا بأس بغرض الغزل الصريح والعفيف في للثورات، فحبك للشيء يعمي ويصم، وها هو الغرض الذي تكتمل به خريطة الأغراض الشعرية في معلقات الثورات وشبابها؛ ولم يخلُ ذلك من أغراض الحماسة من دون النظر الى ما تحتاجه الثورات من ضرورات حمايتها واستئناف استراتيجياته في عمليات التغيير استكمالا واستئنافا؛ برز ذلك في إطار حركات عنترية فرضت خطوات أو سياسات أقرب ما تكون للتهور منها إلى الشجاعة والإقدام.
ويأتي الغرض الذي تفتتح به القصائد في نظم الشعر في العصر الجاهلي وهو البكاء على الأطلال، وربما يحسن أن نختتم به قصائدنا على الأرض، فبينما الثورات تعبر عن حالات وخبرات تتحرك صوب عمل وتعبر عن عملية.
هذه الأغراض لم تعكس في الحقيقة إلا عقلية منقسمة وخطابا سجاليا وحوارا أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان. في هذا المقام تأتي الثورات كما هي القضايا الكبرى والمفصلية لتقدم حالة نموذجية ضمن سياقات لدراسة الخطاب حولها. فهل يمكننا أن نتخلى وقد أتت علينا الثورات كفعل مرشح للتغيير ونحن في أضعف حال وأوهن مقام، أن نتخلص من "جدل بيزنطة"، أو أعراض "برج بابل"، أو "علم كلام الثورات" أو أغراض شعرية تعبر عن حالة الانفعال الكاذب؟ وهل لنا أن نتخلى عن أنماط التفكير التي طالما نتعامل وتعاملنا بها مع عالم المفاهيم والقضايا الكبرى؟
التفسير المؤامراتي الذي شكل في حقيقته أقسى صور الإحباط تتمثل في أن تعود دول الثورات العربية وشعوبها من الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد إلى ما دون المربع الأول؛ فتتمنى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق بعد أن كانت تراه جحيما لا يُطاق. إنها دوّامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلام تائهة تلفّها الحيرة، وقد تزايدت تصورات المؤامرة وتفسيراتها من الجانبين المؤمنين بالثورة والكارهين لها.
فنظرية المؤامرة تريح من يتبناها من عناء البحث عن الأسباب واستقصاء الأفكار والمعلومات والتعقيدات التي تحيط بالتقنية موضع الحديث، وأنها تعطي الذات ما يزيد عن حقيقتها. وفي واقع الأمر إن الحديث عن نظرية المؤامرة الذي يتسم بحالة من البساطة وربما التبسيط في التعامل مع عالم الأحداث وتشابكاته، إنما يستدعي ومن أقرب طريق أنماط تفكير يسميها البعض "غير علمية" من قبيل: التفكير الخرافي، والتفكير الغيبي، وهو نوع من التجاوز في ربط التفكير الغيبي بالخرافي من ناحية، فضلا عن وضعهما ضمن عناصر التفكير غير العلمي من ناحية أخرى.
فهل لنا أن نتعلم درس الثورات والتحديات المتعلقة بعمليات التغيير المرتبطة بها، أم سيكون التغيير القادم علينا وليس لنا؟! ونحن نتجادل في علم كلام عقيم وسجال مقيم؛ فإن أهم درس في الثورات هو في القدرة على معرفة عناصر مناهج التفكير والتغيير والتسيير والتدبير والتأثير العليلة والكليلة، والتي استمرأنا التعايش معها زمنا وصارت ضمن معامل الاستقطاب؛ والتي قد تكون فوتت فرصة الاستثمار الفاعل والعادل لها. هذه الأحوال جميعا ومناهج التفكير المختلة ميزانا وفعلا ربما تكون أهم أسباب تراجع تلك الثورات؛ إنِ التعلم في مشاتل التغيير من السلبي فنعتبر من خبراته أو الإيجابي فنستثمر في قدراته.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه العربية الثورة التغيير خطابات ثورة عرب خطاب تغيير مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورات العربیة
إقرأ أيضاً:
الرجل الذي حطم بي بي سي
استقالات تهزّ الـBBC وتكشف عمق الأزمة
استقالة المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية تيم ديفي، ومديرة الأخبار ديبورا تورنِس؛ بسبب تعديل في برنامج بانوراما على خطاب للرئيس الأميركي دونالد ترامب يعود إلى عام 2021، أدخلت هيئة البث الوطنية في المملكة المتحدة في واحدة من أعمق الأزمات في تاريخها.
لكن الفضيحة لم تبدأ ببرنامج واحد أو بخطأ واحد في التقدير. فالقريب من مركز هذه الأزمة هو روبي غيب، الرجل الذي أمضى أكثر من عقد يشكّل تغطية BBC السياسية، متنقلا بين الهيئة وحكومة المحافظين، بينما يدفع بمشروعه الحزبي الخاص الذي شوّه صحافة المؤسسة في قضايا بريكست، وترامب، وفي نهاية المطاف غزة.
لقد كان روبي غيب شخصية مؤثرة تقف في ظلال الحياة العامة في المملكة المتحدة لوقت طويل، حتى إن مجرد تسميته اليوم علنا ومناقشته يبعث على الارتياح. فحتى فضيحة بانوراما والاستقالات التي فجّرتها، نادرا ما خضع للتدقيق خارج الدوائر السياسية والإعلامية. أما الآن فقد أصبح فجأة في صدارة العناوين وموضوعا لنقاش محتدم على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يحاول الناس فهم كيف تمكن شخص غير منتخب من امتلاك كل هذا النفوذ.
روبي غيب: نفوذ خفي يعيد تشكيل الإعلام والسياسة البريطانيةومن الصعب العثور على شخص آخر مارس تأثيرا واسعا على الحياة العامة في بريطانيا دون أي مساءلة، ومن داخل مكتب رئيس الوزراء رقم 10 ومن داخل الـBBC. فقد كان غيب، على الأرجح، اليد الخفية الأكثر تأثيرا – وإن كانت مخفية- في سياسات البريكست، وحزب المحافظين، وإسرائيل، بينما كان يتنقل بين اثنتين من أهم مؤسسات البلاد: رئيس فريق Westminster فيBBC، ثم رئيس الإعلام في مكتب رئيس الوزراء، ثم أصبح عضوا محوريا في مجلس إدارة BBC يؤثر مباشرة في أخبارها.
ولم يطرأ تغيير كبير على دوافعه أو أسلوب عمله بين هذه المناصب؛ إذ كان مدفوعا بقناعة راسخة مفادها أنه وحده القادر على الوقوف بوجه ما يراه “نخبوية مستيقظة” يسارية وليبرالية مهيمنة داخل BBC، وضمان الحياد. لكنه، وهو يحاول ذلك، دمّر أي مفهوم حقيقي للحياد، ما أدى إلى الأزمة الحالية في BBC، والمعركة التي تبلغ قيمتها مليار دولار مع ترامب، والانهيار الحاد في مصداقية تغطيتها لغزة.
لا يعرف أحد سوى غِيب ما إذا كان قد تعمّد دفع الـBBC إلى الوضع الذي تواجه فيه الآن دعوى قضائية قد تصل قيمتها إلى مليار دولار من رئيس أميركي حالي، لكن تأثيره وتحالفاته كانا في قلب سلسلة القرارات التي قادت إلى ذلك
تآكل الحياد داخل الـBBC وتداخل النفوذ الحزبيبصفتي رئيس تحرير قناة Channel 4 News بين عامي 2012 و2022، كانت لي خبرة مع غيب منذ اللحظة التي عُيّن فيها سكرتيرا صحفيا في مقر رئاسة الوزراء رقم 10 عام 2017. فقد كان ميله لإدارة التغطية السياسية بطرق تخدم مشروعه السياسي الخاص واضحا منذ البداية. فمنذ اللحظة الأولى، قام بتقييد وصول Channel 4 News إلى وزراء الحكومة بشكل كبير، في حين ظل هذا الوصول متاحا بحرية للـBBC، وهو ما عكس العلاقات الوثيقة التي بناها خلال سنوات قضاها مشرفا على أجزاء من التغطية السياسية في القناة. كان غيب معروفا داخل الـBBC بدعمه الممتد منذ سنوات طويلة للبريكست، وهي قضية دافع عنها منذ عمله في حزب المحافظين بين عامي 1997 و2002. ولم يكن سلوكه في مقر رئاسة الوزراء تجاه الـBBC مختلفا كثيرا عن سلوكه خلال سنواته في القناة؛ فقد استبدل السيطرة المباشرة على المحتوى بالمساومة على الوصول، بما سمح له بالاستمرار في تشكيل السياسة البريطانية. وكان يمتلك أرقام كل العاملين في القسم السياسي في BBC على الاتصال السريع.
إعلانوتدهورت العلاقات عام 2018 عندما أصبحت Channel 4 News أول محطة تبث تغطية لفضيحة “ويندراش”. فقد تبيّن أن مئات المواطنين البريطانيين السود، الذين وصل معظمهم من منطقة الكاريبي قبل أكثر من 50 عاما، قد جرى اعتقالهم خطأ، وترحيلهم، وحرمانهم من حقوقهم القانونية.
وكانت الفضيحة نتيجة سياسات نفذتها تيريزا ماي في دورها السابق كوزيرة للداخلية. ومع استمرارنا في تغطية الأعداد المتزايدة من الضحايا المسنين، كان ردّ غيب عنيفا. فقد منع Channel 4 News من إجراء مقابلات مع رئيسة الوزراء وغيرها من الوزراء، وقيل إنه أخبر مساعديه بأننا “نثرثر بلا توقف حول شيء لا يهتم به أحد”.
ثم مدّد هذا الحظر ليشمل مؤتمر حزب المحافظين، مانعا إيانا من المشاركة في جولة المقابلات التقليدية مع رئيس الوزراء، وهي ممارسة استمرت لعقود. وقد وقّع كل المذيعين الآخرين، بما في ذلك BBC، رسالة تحذّر من أن هذا الحظر يخلق سابقة خطيرة. وقد اقترب مني زميل سابق لغيب من الـBBC خلال المؤتمر ليقول: “إنه يغلي غضبا، إنه في قمة استيائه”.
وقد أخبرني العديد من صحفيي BBC في ذلك الوقت بأن غيب كان لا يزال، عمليا، يوجّه أجزاء من التغطية السياسية للـBBC من داخل مقر رئاسة الوزراء، مستخدما نفوذه وعلاقاته الممتدة منذ سنوات لتحديد ما يتم تغطيته، ومن يُسمح له بالحصول على الوصول.
وقال كثيرون إنهم واجهوا صعوبة في التمييز بين غيب في BBC وغيب في مقر رئاسة الوزراء؛ لأنه واصل التأثير على القرارات الجوهرية. وكانت إحدى أهم ميزات وجوده في مقر رئاسة الوزراء، هي تأثيره على تغطية الـBBC لفترة ما بعد البريكست.
فقد اختارت BBC ألّا تنظر إلى الوراء ولا تحقق فيما حدث خلال الاستفتاء، على عكس Channel 4 News التي طاردت تحقيقات “Vote Leave” و”Cambridge Analytica”. وأخبرني عدد من زملاء BBC لاحقا بأن هذا التردد في التدقيق في الاستفتاء لم يكن جديدا، بل كان يعكس الطريقة التي كان غيب يعمل بها في الزمن الحقيقي عندما أشرف على المحتوى السياسي للـBBC أثناء الحملة نفسها.
في عام 2019، حصلنا على رسائل بريد إلكتروني بين آرون بانكس، المموّل الأكبر لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبين غيب، أُرسلت قبيل الاستفتاء. أظهرت الرسائل أن بانكس اشتكى لغيب من تحقيق تُجريه الـBBC حول محاولات الاتحاد الأوروبي بناء دعم داخل المجتمعات اليمينية المتطرفة على الإنترنت، وطلب من غيب التدخل. وبعد أن أثار بانكس مخاوفه لدى غيب، تم إسقاط التحقيق. وقالت الـBBC إن القصة لم تستوفِ المعايير التحريرية، لكن بعد أسابيع، نُشر التحقيق نفسه في صحيفة صنداي تايمز.
كما أخبر آرون بانكس في ذلك الوقت غيبَ بأن نايجل فاراج لا يظهر بما يكفي على الـBBC. وفي الأشهر التي سبقت الاستفتاء، بدأ فاراج يظهر مرارا وتكرارا عبر مختلف منصات البث في المؤسسة.
في عام 2019، وبعد مغادرة غيب مكتب رئيس الوزراء رقم 10 مع تيريزا ماي، عيّنه بوريس جونسون عضوا في مجلس إدارة الـBBC، وهو منصب مؤثر لا يُفترض به التدخل في القرارات التحريرية اليومية. ومع ذلك، ظهرت ادعاءات عديدة بأنه استمر في فعل ذلك، بما في ذلك محاولات عرقلة التعيينات، وزياراته المتكررة لغرف الأخبار، وتدخله المستمر في الشؤون التحريرية.
إعلانوفي عام 2020، استحوذ على حصة مسيطرة في صحيفة "جويش كورينكل"- أقدم صحيفة يهودية في العالم، والتي لطالما عُدَّت صوت الجالية اليهودية في بريطانيا-وذلك نيابة عن ممولين لم يُكشف عن هويتهم، ثم انحازت الصحيفة بشكل حاد نحو اليمين. وقد استقال عدد من أبرز صحفييها وسط مزاعم بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يؤثر في تغطيتها.
حدث كل ذلك بينما كان غيب، بصفته صاحب الخبرة التحريرية الكبرى في مجلس إدارة الـBBC، يمارس- وفقا للادعاءات – نفوذا متزايدا وهيمنة واضحة، على الرغم من القواعد التي تحظر على أعضاء المجلس التدخل المباشر في التحرير. وفي حالة غيب، يبدو واضحا أن العادات القديمة لا تموت بسهولة.
الأزمة تتفاقم: من البريكست إلى غزة وبانوراما وترامببعد الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة لمدة عامين، والذي دمّر معظم القطاع الفلسطيني وقتل أكثر من 70 ألف شخص، بينهم 20 ألف طفل، أخبرني عدد من المصادر بأن غيب، بصفته الصوت التحريري الأقوى داخل مجلس إدارة الـBBC، كان يمارس ضغوطا على قسم الأخبار في الهيئة بشأن تغطيتها لإسرائيل منذ اليوم الأول.
وقد بلغت هذه الضغوط ذروتها في فبراير/شباط، عندما بثّت الـBBC ، ثم سحبت، فيلم غزة: كيف تنجو من منطقة حرب. عقب ذلك، قامت الـBBC بتأجيل تحقيقنا حول تدمير إسرائيل منظومة الرعاية الصحية في غزة، ومقتل أكثر من 1500 من العاملين الطبيين. وقدّمت الهيئة سلسلة من المبررات، قبل أن تعترف في النهاية بأنها لن تبث التحقيق، بينما تراجع الفيلم الآخر.
لقد كان قرارا استثنائيا وغير مسبوق، أدى فعليا إلى إسكات وتخفيف تغطيتهم للموضوع. وبعد أن كشفنا الأمر للعلن، جرى بث فيلم غزة: أطباء تحت الهجوم، ولكن ليس على الـBBC ، بل على قناة Channel 4 News.
قيل لي إن مجلس الإدارة، تحت تأثير غيب، دفع تيم ديفي وديبورا تيرنيس عمليا إلى إخفاء موقفهما من فيلمنا أولا، ثم مطالبتنا بإجراء تغييرات جوهرية عليه، قبل أن يبلّغانا في النهاية بأن الـBBC ستبث فقط ثلاثة مقاطع مدة كل منها دقيقة واحدة من تحقيقنا الذي تبلغ مدته 65 دقيقة، عبر منصاتها الإخبارية.
كان هذا الفيلم يتناول قصف المستشفيات وإخلاءها، واستهداف وقتل الأطباء والمسعفين وعائلاتهم، واعتقال وتعذيب المئات غيرهم. وقد سبق أن حصل على الموافقة التحريرية داخل الـBBC، ثم بُثّ لاحقا على Channel 4 News، وكذلك على منصة مهدي حسن الجديدة Zeteo من دون تسجيل أي شكاوى.
ومنذ ذلك الحين، رُشّح الفيلم للعديد من الجوائز، وبدأ الآن في الفوز بها بالفعل.
في النهاية، يبدو أنّ ديفي وتيرنيس لم يسقطا لا لأنهما وقفا في وجه غِيب، بل لأنهما تعاملا ببطء شديد مع الأزمة التي ساهم عالم غِيب في صنعها. فبعد سنوات من الضغط المتواصل بشأن تغطية غزة، وتزايد الشكاوى من التحيّز، جاء المونتاج المضلِّل لحلقة بانوراما عن خطاب ترامب، واستجابتهما المترددة للهجوم القانوني والسياسي الذي أعقبه، لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.
ولا يعرف أحد سوى غِيب ما إذا كان قد تعمّد دفع الـBBC إلى الوضع الذي تواجه فيه الآن دعوى قضائية قد تصل قيمتها إلى مليار دولار من رئيس أميركي حالي، لكن تأثيره وتحالفاته كانا في قلب سلسلة القرارات التي قادت إلى ذلك.
والآن، بينما يختبئ غِيب، يمكن أخيرا رؤية مهمته الممتدة لعقود لإعادة تشكيل هيئة الإذاعة الوطنية وفق أجندته السياسية الخاصة، متخفّية تحت شعار "الدفاع عن الحياد" كما هي حقا: كارثة مطلقة على الـBBC وعلى الجمهور الذي وُجدت لخدمته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline