بوابة الفجر:
2025-05-10@18:52:49 GMT

منى غنيم تكتب: أنبياء كاذبون

تاريخ النشر: 9th, November 2023 GMT

منذ بداية الأحداث في السابع من شهر أكتوبر الماضي، تعلق ذهني بالكامل بذكرى واحدة، واقعة واحدة من عمر الزمن قد لا يكترث لها أحد؛ لأنها مثل معظم الأشياء ليست مميزة؛ بل هي مجرد ومضة ضوئية أنجبت صورة "بولارويد" من مئات الملايين من الصور الفوتوغرافية التي تلخص قصتنا على الأرض.

كنت صغيرة السن - لا يتجاوز عمري الـ١٠ سنوات - حين استيقظت على طرقات سريعة ملهوفة على باب شقتنا تشي بآلام صاحبتها وبالمصيبة المتوقعة، كانت جارتنا الست المصرية "أزهار" تستغيث بوالدتي لأن زوجها الفلسطيني - الذي لم أستطع أبدًا تذكر اسمه - سقط مريضًا وهو في حاجة لمساعدة عاجلة، بطبيعة الحال والشخصية المصرية الخدومة هرولت أمي للطابق الذي يعلونا، وتسللت أنا، لا أعرف إن كان تسلل أم إن كان تم جرّي للشقة العلوية، لكنني أتذكر جيدًا جلوسي أمام الرجل المحتضر على سريره وجهًا لوجه وكأن الزمن تجمد؛ كان يشهق وروحه تتسابق للخروج وينظر لي بثبات، وقد أعياه المرض عن محاولة التجمل أو إخفاء الأصوات أو عدم إخافتي، كان نبيًا صادقًا.

ربماكان ينظر لي مستجديًا النجدة؟ وربما كان منتظرًا للاشىء؟ بينما تمكنت السيدتان بنجاح من طلب الإسعاف، توفي الأستاذ الذي لا أذكر اسمه بعدها بأيام قليلة، أما صورة وجهه فقد حُفرت بذاكرتي للأبد، ربما كان يحاول أن يقول أن الشعب الفلسطيني خُلق ليموت؟

قد يبدو نوع من أنواع التجديف أو الهرطقة الفكرية التي لا تؤمن بعصر المعجزات، ولكنها حقيقة دولية منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" الأخيرة، أعرف أنه نزاع مسلح حول حق واضح وبديهي يبدو مثل وضوح وبديهية عمليات الجمع والطرح في الرياضيات، لكنه استمر - وسيستمر - لعدة أجيال، بل وربما زال بزوال الأرض نفسها.

ما استوقفني في الصراع الأخير كان طوفان "الأنبياء الكاذبين" الذي نزلوا لعالم البشر دون عقيدة، هم يعون أن ليس بيدهم الحل وأنهم لا يقدرون على شىء؛ ومنهم الشركات الكبرى التي حاولت بشكل مثير للضحك التنصل من علامتها التجارية من أجل استمرار المبيعات، ثم حرب الفنانين التي لا طائل منها والتي كان ممكن استبدالها بالكامل بشيك تبرعات أو اعتذار صامت عن عمل ما أو صمت موسيقي جميل، ثم المناقشات الدولية - وما أدراك ما المناقشات الدولية - التي لا تسمن ولا تغني من جوع مع دول رئيسية ومنها قائدة العالم الحر شخصيًا المعروفة منذ ولادة المجرات وفصول السنة بمساندتها للكيان الصهيوني وهي لم تبذل حتى أبسط الجهد لإخفاء ذلك بل تعلنه صراحة حتى في قلب الأزمة المشتعلة كما هو الحال الآن.

وبرغم ذلك يتوهم الأنبياء الكاذبون أن بيدهم مفتاح الحل.

الأنبياء الكاذبون في تعريفي الخاص هم كل من يتوهم أنه يدعو لنصرة الحق وهو لا يقدر على شىء وللأمانة لا يكترث حقًا لكنه الترند، لكنها الهوجة، وهل يعلو صوت فوق صوت الجنون؟

تتذكرون مأساة "سيزيف" عندما ارتقى الجبل وهو يحمل الصخرة ثم لا تلبث الصخرة أن تتدحرج للأسفل مجددًا نحو الوادي؟ ما يحدث الآن هو ملايين "السيزيفات" التي سمحت لها "السوشيال ميديا" بالوجود وجميعهم يحاولون الارتقاء لعنان السماء من أجل أن تسقط صخرتهم على الأرض، عقاب أبدي لكنه جدير بالنبوة الكاذبة.

الخلاص لن يأتي إلا بالوحدة، وكيف تنتظر الشىء من غير معطيه؟ كيف تتوقع الوحدة والاتحاد من مجموعة من المتناحرين داخليًا وخارجيًا وعلى كافة الأصعدة، يمزقهم النصب والفساد الذي يسري في الأوردة وفي الضمائر وفي الواقع المشوه، والمصالح الفردية، والغيرة، وقانون الغاب، بل والتنمر القبلي الذي قد يكون حلًا جيدًا لو كنا في سوق عكاظ.

النصر مشروع جاد، ولكن هل نحن جادون؟ تذكرت شخصية "سمارة بهجت" في رائعة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"؛ الفتاة الوحيدة الجادة وسط مجموعة من المنحلين المدمنين، ترى هل يمكن تطبيق تجربتها الكاملة على عالمنا الناقص؟ أم يجب "المهادنة" وترقيع الحقيقة بالكذب؟ الساسة يكذبون حين ينادون بوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن، ما يريدونه حقًا أن تنجلي الأزمة بعصا سحرية وأن يحيا أولاد العمومة الثلاثة المتجاورين معًا في انسجام تام، كانسجامنا في الأيام الغابرة مع جارتنا، نصعد إلى شقتهم وينزلون إلى شقتنا.

آلهة المنتجات الاستهلاكية الحديثة يكذبون؛ لا أحد مهتم بتحرير الأقصى بقدر اهتمامه بسب هؤلاء الغزاة الخنازير من أجل ثمن زجاجة مياة غازية بالتأكيد لن يتقاسمون ريعها مناصفة مع غزة، أما القنوات التليفزيونية - العربية والغربية - لا تكترث سوى لنسب المشاهدات، ترى هل يمكن وجود واقع لا تشوبه "الواقعية السحرية" بل تشوبه المعطيات والنتائج؟ أم أنه مجرد خيال قارىء؟!

من يريد النصر فعليه بالقوة؛ النبوة الكاذبة ليست سوى مرآة للضعف، ولا تعكس سوى ضحكات السخرية العالمية المستترة وراء كاميرات التصوير التي قد تشجب أو تدين فقط، على حسب الموديل.

((هل هو أمر طبيعي أنني لا أتذكر سوى اسم السيدة جارتنا؟ أم هي مفارقة كونية مقصودة؟))

لا حرية ولا كرامة إلا بالوحدة، وإن كانت مشروع خيالي في مخيلة بعض القراء الرومانسيين مثلي فقط، أما الباقي فتحصيل حاصل.

أما الباقي فنظرة الخواء في عين الأستاذ المتوفي رحمه الله الذي لم أفك شفرتها حتى الآن.

((أكانت استغاثة أم استجابة للمصير؟ ))

المصدر: بوابة الفجر

إقرأ أيضاً:

التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا

في منتصف تسعينات القرن المنصرم كان الباعة الصينيون يقفون قبالة الشوارع الرئيسية في العاصمة السودانية الخرطوم، يعرضون دهان الفيكس الرخيص بلا ثمن يذكر، حتى بدا وكأن ذلك نوع من التسول اللطيف، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا مجرد طليعة كشفية لأنماط الثقافة الشرائية، هنا وفي معظم البلدان الإفريقية، أو بالأحرى مستعمرون جدد تزحف خلفهم مطامع اقتصادية بلا حدود.

وإن كانت تلك الشركات الصينية أمثال عمالقة النفط “سينوبك” و”كيونت” و”هاير” والمصانع المزدهرة في مقاطعة شاندونج وعلى ميناء غوانزو، وكذلك شركات الأسلحة والمسيّرات الصينية تستعمل استراتيجية تسويق عابرة للحدود، فإنها تسعى وبقوة لالتهام القارة السمراء بالكامل عما قريب.

على مدى أكثر من أربعة عقود تقريباً رقصت قاعة الشعب العظمى في بكين على وقع خطابات حكام الصين الشيوعيين، وكانت هذه الخطابات تترافق مع تصفيق مجازي للقائد ماو تسي تونغ، مدير الدفة العظيم، والملهم الأزلي للتجربة، وشيئاً فشيئاً فقدت قاعة الشعب بريقها الاشتراكي، ليظهر جيل جديد لا تستهويه الروح الأيديولوجية بأي حال، فكل ما يهمه الخروج إلى العالم وتأمين الازدهار الاقتصادي الكبير. كما لا يجب إغفال ملاحظات الاصلاحي دينغ زياوبينغ في بداية التسعينيات، حول عدم إمكانية الصينيين أن يصبحوا أثرياء جميعاً علامة سياسية مهمة، معتبرًا اللامساواة كثمن للتقدم، وقد أدرك دينغ أن القوة والثراء لا يتحدران ببساطة من داخل الحدود الوطنية للصين، فأطلق العنان لشركات بلاده لتقوم بالمهمة.
لبكين وبقايا مكونات الماركسية الماوية المحسنة أكثر من مدخل للتعامل مع الدول الإفريقية، فهى تختار صداقاتها بعناية، وتبني علاقتها مع دكتاتوريات قابضة، وعلى قطيعة مع العالم الليبرالي، مثل الرؤساء المتهمين بقمع المعارضة وانتهاك حقوق الإنسان، ضيوف محافل الإدانات السنوية في مجلس الأمن، وهؤلاء بالنسبة للصين صيد سهل التعامل معه. فهي من جهة تملك امتياز استخدام الفيتو لصالحهم، ومن جهة أخرى تمثل لهم طوق نجاة اقتصادي، فتنعم على الحكومات الإفريقية بالقروض الميسرة، والتسهيلات الائتمانية ومشروعات التنمية، من موانئ وسكك حديدية ومطارات، لكن ما هو المقابل؟

لا بد عن إلقاء نظرة قصيرة حول ما تقوم به الصين من نشاط اقتصادي هائل في أفريقيا. فهى تستثمر في كل شيء تقريبًا، وقد وصل حجم التبادل التجاري بينها والقارة الأفريقية نحو ثلاثمائة مليار دولار في العام 2015، فيما تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط في الصين من امتلاك حصصٍ ضخمة في إفريقيا، تصل إلى 40% من مؤسسة النيل الأعظم للنفط، التابعة للحكومة السودانية، خلافاً لاستثمارات نفطية مُشابهة في جنوب أفريقيا، أثيوبيا، وأنغولا، وقد رفع منتدى التعاون الصيني الإفريقي الأخير وتيرة طموحات الرؤساء الأفارقة، والذين يواجهون مشاكل اقتصادية جمة، ولربما جعل منهم المنتدى منطلق لغزوات جديدة في أوطانهم، تعبر الصين فوق أحلامهم الصغيرة إلى حلمها الكبير.

إذًا وكما يبدو فإن الرباط الخانق الذي تضعه أمريكا والدول الأوربية حول رقاب الرؤساء الأفارقة، تحاول الصين بخبث حماية مدى إحكامه، دون تخليصهم منه نهائياً، حتى تحتفظ بهم تحت رحمتها، على الدوام، وفي حالة خوف ورغبة بالتنازل عن كل شيء مقابل الحُكم الأمن، وهنا يمكن للصين أن تحصل على ما تريد بسهولة.

بينما لا أحد يعلم بالضبط كم هى ديون الصين على الحكومة السودانية مثلاً، فالأرقام تتفاوت ما بين 5 إلى 7 مليار دولار، لكن ثمة جدل حول جدولة تلك الديون، وفشل في الإيفاء بها، أرغم حكومة الخرطوم للإذعان لكل شروط التسديد من جهة الصين، وذلك بعد زهاء عقود من التعاون الغامض، وابتداع آلية النفط مقابل المشروعات.

بمجازفة قليلة في الظن، يمكن القول أن تلك الديون مقصودة في حد ذاتها، وأن إغراق دول إفريقية بها هو هدف للوصول إلى هدف أكبر، غالباً بجعلها رهينة لإمداد نفطي دائم، وامتلاك أراضي استثمارية واسعة، قد تتحول بسببها إفريقيا في يوما ماء إلى أملاك إقطاعية خاصة بالتنين الصيني، أو مستعمرة تحت عيون الصين.

“العالم بأسره مسرح، وكل الرجال والنساء يؤدون دورهم فحسب” كانت تلك استعارة لائقة لشكسبير، ولكنها لن تحد من رغبة الصين في احتلال هذا المسرح الاقتصادي لأطوال فترة في المستقبل، وقد أدارت، أي الصين، عجزًا تجاريًا هائلاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أنها تمتص بشراهة مواد أولية ونصف منجزة، وتركز بصورة أساسية على النفط والعقود الطويلة في إفريقيا والشرق الأوسط.

ذلك التوسع التجاري والسيطرة على اقتصاد العديد من الدول النامية، يمكن في يوماً ما أن يحول بكين إلى حلقة حاكمة في السياسة الدولية، وبينما تحدثت صحيفة “لوموند” الفرنسية قبل أعوام عن تجسس الصين على مقر الإتحاد الإفريقي لم تعبأ بكين بذلك ونفته، رغم أنه قد يكون صحيحاً، فهو أيضاً تسريب مفهوم في سياق التنافس الشره بين فرنسا والصين، وشعور الأولى بخسارات مستعمراتها القديمة من خلال الزحف الصيني عليها. لكنها مع ذلك لم تسفر الصين عن دوافع ظاهرة للهيمنة، فقط تسعى لتمكين شركاتها، وكل ما يهمها أن يتخلى أصدقائها الجدد عن تايوان، العدو اللدود، ولذا قطعت معظم الدول الإفريقية علاقتها بتايوان لضمان وصلها ببكين.

يحب القادة الأفارقة الصين، وتحبهم الصين بقسوة، فهي على الأقل لا تقض مضاجعهم بكوابيس مطالب “التداول السلمي للسُلطة”، كما أنها لا تبدو مشغولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تتدخل في شؤون الحكم والسياسات الداخلية، ما يعني أنها النموذج المريح للتعامل، والذي لا يكسر بخاطر أحد، ومن هنا تقريباً تخلقت وشائج المنافع المتبادلة، كلغة وحيدة للتفاهم.

ولعل الصين التي تعتمد على إفريقيا في توفير ثلث مواردها النفطية طرحت نفسها كعاشق بديل، يبذل في سبيل مصالحه كل ما يمكن أن يداوي جراح صندوق النقد الدولي، والعقوبات الأمريكية، وتحاول أيضاً أن تغطي على كوارث الاستعمار القديم، بما يمكن أن يمنح الشعوب الإفريقية شعوراً بالزهو والتحرر، ولتحقيق ذلك عاودت فتح ممرات طريق الحرير القديم عبر المحيطات، كما لو أنها تبحث عن سلالة مينغ التي تزاوجت مع قبائل إفريقية قبل مئات السنين.

من المهم إدراك أن أكثر ما ينمي مشاعر القلق أن أفريقيا أصبحت مكباً للبضائع الصينية الرديئة، بينما خطوط الإنتاج الأولى تبقى من نصيب شمال الكوكب، والتي تعبر بخفة مقاييس الجودة والمواصفات، حتى أنه يمكن لجهاز آلكتروني أن ينفق في يدك خلال ساعات، دون أن تتوقف عمليات الشراء. وتحولنا نتيجة لذلك إلى مستهلكين شرهين، نؤمن حاجة الصين إلى خطوط إنتاج جديدة وفرص عمل لشعبها كل يوم، دون أن نعبأ بخساراتنا المديدة، وهذا باختصار مزعج بعض ما يمكن أن يقال عن اللعبة الاقتصادية الصينية.

عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم
  • الحبل الأميركي الذي قد يشنق نتنياهو
  • حمدان بن محمد: على خطى محمد بن راشد تعلمنا أن المجتمع المتماسك هو الذي يبني الأمل
  • التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا
  • الفاتيكان يختار أول بابا أمريكي عبر التاريخ.. وهذ اللقب الذي سيحمله
  • لمياء شرف تكتب: الأمر لم ينتهِ.. انهض.. الفشل جزء من النجاح
  • ماذا يعني اسم سيندور الذي أطلقته الهند على عمليتها ضد باكستان؟
  • د. شيماء الناصر تكتب: صورة المرأة المصرية في الدراما بين الترويج السلبي والإيجابية المفقودة
  • كان منزلنا في قلب الحصار الذي فرضته مليشيا الجنجويد، المدججة بالأسلحة والمركبات
  • منال الشرقاوي تكتب: ناصر 56