عودة: وطننا وزنة من الرب لكي نحافظ عليه لكننا منذ عقود لا نرى سوى من يستبيح سيادته
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "سمعنا في إنجيل اليوم كيف وزع السيد الوزنات على عبيده، كل حسب طاقته، دون أن يبخل على أحد. لم يميز الواحد عن الآخر، لكنه عرف قدرة كل عبد، فأعطى الواحد خمس وزنات، والآخر وزنتين، والثالث وزنة واحدة.
أضفا: "الله لا يمنح المواهب بشكل إعتباطي، بل يعرف ما يناسب خلاص كل شخص، وهذا يساعدنا على ألا نستكبر على ذوي المواهب القليلة، وألا نحسد أصحاب المواهب الكثيرة، إنما نشكر الواهب على عطاياه الممنوحة لنا. يقول الرسول بولس: «أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل، ولكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة» (1كو 12: 4-6). بعد ذلك يعدد الرسول أنواع المواهب المتعددة ويخلص إلى القول: «لكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء» (12: 11). يذكرنا الرسول بولس هنا بأن العطية، صغيرة كانت أو كبيرة، هي من المعطي الواحد، الذي علينا أن نشكره دوما على عطاياه. الله لا ينتظر الربح بذاته، ولا يهتم بكميته، بل يهتم بمدى أمانة عبيده أو إهمالهم. لقد اقتنى العبدان الأولان «الأمانة بالوكالة»، فتأهلا لأن يقاما على الكثير. أما العبد الثالث فكان مهملا لأنه أخفى الوزنة وعاش عاطلا عن العمل. إن الربح يجلب ربحا، والخسارة تأتي بخسارة أكبر، فكيف إذا كان هذا الربح أو الخسارة من ناحية العطايا الإلهية؟! كذلك الخطيئة تجلب خطيئة أكبر، الأمر الذي حصل مع صاحب الوزنة الواحدة، الذي، بعدما طمر وزنته وعاش عاطلا عن العمل، قام باتهام سيده بالقسوة والظلم، محاولا طمر خطيئته بخطيئة أبشع، كما فعل بالوزنة. خلال الصوم الكبير نردد صلاة القديس أفرام السرياني القائل: «أعتقني من روح البطالة... والكلام البطال». العبد صاحب الوزنة الواحدة سقط في خطيئة البطالة، وحاول أن ينجي نفسه فسقط في الكلام البطال. يقول القديس يوحنا كرونشتادت: «كل خطيئة تبدو بسيطة وغير هامة تقود إلى خطايا أخطر، لذا علينا مقاومتها في بدايتها وسحقها». كذلك، يحذر بولس الرسول، بشكل غير مباشر، من خطيئة الكسل قائلا: «الويل لي إن لم أبشر» (1كو 9: 16)، أي ويل لمن منح موهبة ولم يفعلها في سبيل خير الجميع".
وتابع: "مكافأة العبد المجتهد كانت قول سيده له: «أدخل إلى فرح ربك»، على عكس ما سمعه العبد الكسول: «إطرحوه في الظلمة الخارجية». جهادنا على هذه الأرض ليس بهدف ربح مادي، بل من أجل الدخول إلى العرس الأبدي لنبقى في الداخل، فلا نحرم من التمتع برؤية الله، النور الحقيقي، ويحكم علينا بالبقاء في الظلمة خارج الباب المغلق، مثلما حدث مع العذارى الجاهلات. يقول القديس يوحنا كرونشتادت أيضا: «إن خدمتنا الأرضية المتنوعة لملكنا ووطننا هي صورة لخدمتنا الرئيسية لملكنا السماوي، هذه التي يجب أن تستمر أبديا، وهذا ما يلزمنا: أن نخدمه بحق قبل الكل... الخدمة الأرضية هي محك، وخدمة بدائية للخدمة السماوية».
وقال: "وطننا وزنة أعطيت لنا من الرب كي نحافظ عليه، وننميه، ونفعل طاقاته، ونفتح لها أبواب العمل والإثمار والإبداع، ولكي نجعل منه وطن العدالة والقانون وحقوق الإنسان، والأخوة والتسامح والتفاعل . لكننا منذ عقود لا نرى سوى من يستبيح سيادة الوطن ويجعله مطية إما لمطامعه أو لأطراف تستغله لمصالحها، حتى أصبح ورقة مساومة في يد الأقوياء، يستعملونها لما يناسبهم. كما نرى من يسخر خيرات الوطن لخيره، أو من يستبيح كرامة أبنائه لغايات، ومن يغتال مفكريه وأحراره، ومن يقحمه في حروب رغم إرادة معظم أبنائه. أليس هذا طمرا للوزنة التي أعطيت لنا وتجاوزا لمشيئة الرب المانح الوزنات؟ يرمز صاحب الوزنات الخمس للمؤمن الذي يقدم كل حواسه لسيده السماوي، مقدسا إياها بواسطة استخدامها في خدمة أخيه الإنسان. أما صاحب الوزنتين، فيشير إلى المؤمن الذي امتلأ قلبه بمحبة أخيه في الرب، الذي فيه يصير الإثنان واحدا. لهذا قدم السامري درهمين لصاحب الفندق علامة على محبته للمجرح، والأرملة قدمت فلسين دلالة على محبتها لله ولإخوتها المحتاجين. لهذا أيضا وجد ملاكان عند قبر المسيح إشارة إلى المحبة التي تربط السماويين بالأرضيين، فصار الكل جسدا واحدا في الرب يسوع المصلوب والقائم. أما صاحب الوزنة الواحدة فهو كل إنسان متقوقع على نفسه، وأناني، يدفن المحبة بدلا من مشاركتها مع أخيه الإنسان".
أضاف: "بلدنا يحوي الكثيرين من أصحاب الوزنات، لكنهم إما يدفنون وزناتهم يأسا من الأوضاع التي آلت إليها بلادنا، أو يوضعون في غير الأماكن المناسبة لهم فلا يتمكنون من تثمير وزناتهم فينكفئون، أو يهاجرون ليستثمروا وزناتهم خارج أرضهم. بلدنا يحتاج كل ذي موهبة، كما يحتاج إلى تفعيل جميع المواهب حتى يصار إلى إخراج الشعب من الهوة العميقة التي حفرت له. ولا شك في قدرات أبناء أرضنا وسعة جهادهم في سبيل الخروج وإخراج الكل معهم، إلا أن ذوي السلطة يجتهدون في تحطيم المواهب، وإيصالهم إلى اليأس والموت النفسي والروحي، بعدما أمعنوا في قهرهم وسد جميع الطرق أمامهم وإغلاق جميع الأبواب. لذا نحن بحاجة إلى رئيس يتولى مع حكومته بناء المؤسسات، وتعيين الأكفاء في مراكز القيادة، دون محاباة أو محسوبية، لكي يقوم كل مسؤول بواجبه من أجل المصلحة العامة".
وختم: "دعوتنا اليوم هي إلى شكر الرب على عطاياه، الصغيرة قبل الكبيرة، وإلى تفعيل المواهب المعطاة لنا، كل في اختصاصه ومجاله، دون التعدي على مجالات الآخرين «في طهارة... في محبة بلا رياء، في كلمة الحق، في قوة الله» كما سمعنا في الرسالة. بهذا يتناسق البنيان، لأن المحبة تكون أساس العمل، فيسير الجسد كله بتناغم، ويعمل كل عضو عمله بدقة، فنصل إلى الخلاص المنشود".
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
فخري عودة.. أيقونة العطاء والوفاء
د. سيف بن سالم المعمري
فقدت الساحة الثقافية العربية والخليجية الإعلامي الكويتي القدير فخري عودة بدر غانم التميمي بعد حياة حافلة بالعطاء والوفاء امتدت لسبعة عقود ونصف العقد.
وُلِدَ التميمي بالكويت في الرابع من يناير عام 1950م ووافاه الأجل المحتوم في السادس من مايو 2025، وترك سيرته الإنسانية النبيلة التي تجسدت فيها أبلغ معاني الوفاء لزوجته التي توفيت في عام 2003م، كما ساهم في إثراء المكتبة العربية والخليجية بأعماله الثقافية والإعلامية المتعددة، منها في مجالات الشعر والنثر والدراما والفنون المسرحية، وتقلد عدداً من المناصب الإدارية في وزارة الإعلام الكويتية قبل أن يصبح مستشارًا في مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربية، منذ عام 2005م، ومن أبرز أعماله الخالدة، كتابته للمسلسل الكرتوني "عدنان ولينا" والأداء الصوتي لشخصية "علام" في نفس المسلسل.
عُرف عن التميمي وفاءه لزوجته "ملك" التي أصيبت بالشلل بسبب حادث السير الأليم، الذي تعرضت له-رحمها الله تعالى- في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وظل ذاكرا مناقبها وكل اللحظات السعيدة التي رافقته فيها، وتمسك بالوفاء لها حتى بعد رحيلها.
وعلاقتي بالتميمي بدأت في الخامس عشر من يوليو من عام 2009؛ حيث التقيت به- لأول مرة- في مطار الملك خالد الدولي بالرياض في طريقنا للمشاركة بقافلة الإعلام الخليجي التي نظمتها الهيئة العامة للسياحة والآثار آنذاك بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة (15-31 يوليو 2009) بمشاركة 60 إعلاميًا يمثلون مختلف وسائل الإعلام الخليجية.
وظلت العلاقة بيننا متواصلة خلال ست عشرة سنة الماضية عبر وسائل الاتصال الحديثة، تارة بالمهاتفة، وتارة أخرى بالرسائل النصية، والواتساب في المناسبات الدينية والوطنية، وكانت آخر الرسائل النوعية التي خصني بها هي تهنئته القلبية الصادقة لي بمناسبة التخرج والحصول على درجة الدكتوراه، وذلك من خلال نشره لمقطع فيديو في حسابه الشخصي على الانستجرام، وأرسله لي عبر الواتساب، بتاريخ السادس من ديسمبر 2024، قال فيها- رحمه الله تعالى: "أهنئ صديقي العزيز من سلطنة عُمان الشقيقة، دكتور سيف بن سالم بن سيف المعمري على حصوله على شهادة الدكتوراه بالفلسفة، وأقوله دكتور: أنت نموذج للشاب المكافح الطموح، الساعي دوماً لما هو أفضل، أحنا نفتخر فيك، افتخارك بما حصلت عليه، ودائماً ندعي لك بكل ما فيه الخير، عسى الله يوفقك، ويُحقق طموحاتك، ولله الحمد والشكر".
وفي العام 2020، أرسل لي تعازيه القلبية ومواساته الصادقة لي، وللشعب العُماني في فقيد الوطن والأمة السلطان قابوس بن سعيد-طيب الله ثراه-، وقد كان دائم التقدير والثناء على جلالته، وإجلاله لما قدمه لعُمان وشعبها وللعالم، وقد أتيح له التعبير عن حزنه العميق لوفاة السلطان قابوس من خلال الاتصال الهاتفي في البرنامج الذي كانت تبثه إذاعة الوصال تزامناً مع فترة الحداد على فقيد عُمان الخالد، وذلك مع الزميل القدير محمد العلوي.
لقد ظل المستشار فخري عودة نهرا دفاقا بالعطاء والوفاء، ولم يثنه سنه عن التفاعل والمشاركة في خدمة وطنه وأمته، فبعد السنوات الطويلة التي قضاها متنقلا بين الأعمال الكتابية والفنية، ومثريًا المكتبة العربية والخليجية بخبراته الثقافية والإعلامية، تعهد محبيه وجمهوره بالتواصل الدائم، وظل موثقا ليومياته يبث من خلالها رسائله النبيلة والتي ينشر فيها فضائل إنسانية خيرة ومنها حب الخير للآخرين والشكر الدائم لنعم الله على عباده، ولطفه بكل من حوله من الناس، دون التقليل من أي شخص، فكان يتعامل مع عمال منزله كأبنائه، بل تعدى لطفه الإنسان إلى اهتمامه وعنايته وإطعامه للحيوانات الأليفة في منزله.
وكانت آخر رسائله النبيلة التي نشرها في حسابه بالانستجرام بتاريخ: الثامن من يناير 2025، وقال فيها: "ثق تمامًا أن ألمك من كلام الناس، إذا شعرت إنك مظلوم، أهون من عذاب ضميرك- إذا كان حيًا- إذا كنت ظالمًا، فدائمًا، فكر إنك ما تكون الظالم، دائمًا، قُل الله يجعلني مظلومًا أحسن مما أكون ظالمًا أو مخطئًا بحق غيري- وإن شاء الله- والله يهدي الجميع، لا تكون ظالمًا ولا مظلومًا، لأن هداية الناس لما فيه الصلاح والإصلاح نعمة من رب العالمين، له الحمد والشكر بكل الأحوال".
رحل فخري عودة التميمي، وترك أثره الخالد في مكتبته المرئية في حسابه على الانستجرام وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، وقد تجاوز محتواه المرئي أكثر من 13 ألف مادة قيمة، كلها شاهدة عن نبله وعطائه ووفائه، وفيها الكثير من الرسائل النبيلة والإنسانية.
لقد ترك رحيل (العم أبو علي)- كما كان يحلو لي مخاطبته- غصة في قلوبنا، لكنَّ عزاءنا الوحيد، هو التسليم المطلق لإرادة الله في خلقه، وإننا جميعًا إليه راجعون، مبتهلين للعلي القدير له الرحمة والمغفرة، ولأبنائه وأسرته ولجميع محبيه الصبر والسلوان، وأن يجزيه الله خير الجزاء عما قدمه لوطنه الكويت ولأمتيه العربية والإسلامية.
وداعًا.. فخري عودة.. أيقونة العطاء والوفاء.
رابط مختصر