أديس أبابا: التغيير

تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”

المؤتمر التأسيسي

البيان الختامي

منذ فجر الاستقلال وحتى حرب الخامس عشر من ابريل 2023 لم يذق شعبنا طعم العافية؛ وظل يعاني من  فشل حكوماته المتعاقبة في إخراجه من الفقر والامية ومن إشتعال الحروب الاهلية والمناطقية التي أهدرت قواه المادية والبشرية.

كما إرتكبت حكوماته الاستبدادية أبشع الجرائم في حقه إنتهاءاً بالحرب الحالية المدمرة التي اصبح ميدانها هو الشعب وبيوته وممتلكاته وبنيته التحتية على فقرها وبؤسها محدثة أكبر كارثة انسانية يشهدها العالم المعاصر. في ظل هذا الواقع المرير يجي هذا المؤتمر موشوماً بالألم لكنه ايضاً يحمل الأمل؛ بتجاوز المرارات والاثمان الانسانية الباهظة بحثاً عن السلام واستعادة المسار الديمقراطي، ويجعل هذه الحرب البغيضة أخر الحروب ويضع بلادنا في المسارالصاعد المؤسس لعقد إجتماعي جديد.

انعقد المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في الفترة من 27-30 مايو 2024 ، شارك فيه أكثر من 600 عضواً جاءوا من ولايات السودان ال 18 ومن 24 دولة من المهجر، وشكلوا أكبر جبهة مدنية لإنهاء الحرب وتحقيق السلام والمحافظة على وحدة السودان وسيادته واستكمال ثورة ديسمبر المجيدة، وبناء السودان على أسسٍ جديدة.

انخرطت (تقدم) منذ اجتماعها التحضيري المنعقد في أواخر أكتوبر 2023 في عملية تواصل واسع مع القوى والشخصيات المدنية الديمقراطية المناهضة للحرب، للتحضير لانعقاد المؤتمر التأسيسي الذي سبقته 4 ورش عمل حول الحكم المحلي، الترتيبات الدستورية، العدالة الانتقالية، الإصلاح الأمني والعسكري، وصممت (تقدم) عملية قاعدية واسعة لاختيار المشاركين في المؤتمر وفق معايير صارمة لمراعاة الشمول والتمثيل، حيث تشكلت 18 آلية تمهيدية في ولايات السودان من مكوناتها السياسية والمدنية والاجتماعية، واختارت هذه الآليات 250 عضواً من القوى السياسية والمجتمع المدني والأهلي ولجان المقاومة والمهنيين والنقابات، وخصصت لكل ولاية مقاعد تتناسب وثقلها السكاني شكل  مرآة لتنوع وتعدد السودان، كما نشأت آليات تمهيدية للسودانيين في 24 مهجراً اختارت 135 عضواً. لم يقتصر التمثيل على هذه الآليات فحسب، بل شمل 10 فئات نوعية هي المبدعون والمثقفون، المزارعون، الرعاة، الإدارات الأهلية، الكيانات الدينية، اللاجئون والنازحون، ذوو الإعاقة، المجموعات النسوية، أصحاب الأعمال، العسكريون المفصولون تعسفياً. هذه الفئات اختارت ممثليها عبر تشاور واسع وسط مكوناتها وتنظيماتها لتسمي 150 عضواً شكلوا إضافة نوعية لهذا المؤتمر. أضيف لذلك 30 من الشخصيات الوطنية المشهود لها بالمواقف المنحازة للسلام والديمقراطية، كما قبلت (تقدم) طلبات انضمام 40 جهة شارك 20 منهم حضورياً في هذا المؤتمر. كما عملت اللجنة التحضيرية على وضع معايير صارمة لضمان تمثيل النساء والشباب بصورة منصفة، والتعبير عن تنوع وتعدد السودان بصورة شاملة.

عانى بعض المشاركين مصاعب جمة في الوصول للمؤتمر لا سيما القادمين من السودان، ففيهم من سار بالأرجل لأيام، وفيهم من واجه تعسف السلطات الأمنية، وفيهم من قضى الليالي في المطارات، وكل هذه التضحيات جسدت الإحساس الصادق بالمسؤولية الوطنية وضرورة اجتراح طريق يخرج بلادنا من وئلات الحرب.

اتسم الحوار بين المؤتمرين بالجدية والصراحة والجرأة في مناخ ديمقراطي حقيقي أدى لبناء توافق كبير في الرؤى والقرارات التي خرج بها المؤتمر.

تميز المؤتمر بعقد لقاءات نوعية لفئات الشباب، النساء، المزارعين، الرعاة، المثقفين، المبدعين، الإعلاميين، والإدارات الأهلية، والشخصيات الدينية، وأصحاب الأعمال، ناقشت اللقاءات الأدوار المنتظرة من هذه الفئات في وقف الحرب وتحقيق السلام. وخلال هذه اللقاءات إلتزم المبدعون بإطلاق حملة شاملة ضد الحرب وتضميد الجراحات عبر إبداعاتهم.

أكد المؤتمر على أن الاولوية القصوى والملحة هي الوقف الفوري غير المشروط لهذه الحرب التي أوصلت البلاد إلى الانهيار وقتل فيها عشرات الالاف من المدنيين والعسكريين وتسببت في أكبر حالة نزوح في العالم؛ حيث هجرت أكثر من 8 مليون نازح وأكثر من 2 مليون لاجئ، وهددت المجاعة ما يزيد عن 25 مليون، وأخرجت 19 مليون طفل من النظام التعليمي وفقد الناس مصادر دخلهم وممتلكاتهم ومنازلهم الي جانب المآسي الكثيرة التي لازالت تتزايد يوماً بعد يوم.

شملت أجندة المؤتمر قضايا العون الإنساني وأوضاع السودانيين نازحين ولاجئين، وآثار الحرب على حياة الناس، ومحاربة خطاب الكراهية وسبل تفادي نذر الحرب الأهلية الشاملة، وخلصت لرؤية سياسية لإنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية واستكمال ثورة ديسمبر المجيدة، وناقشت قضايا الحكم المحلي والترتيبات الدستورية، الإصلاح الأمني والعسكري والعدالة الانتقالية إضافة للنظام الأساسي والهيكل التنظيمي لـ(تقدم).

ادان المؤتمر فشل طرفي الصراع في الجلوس للتفاوض لوقف اطلاق النار وإعاقة مسارات توصيل الاغاثة للمتضررين في كافة أنحاء البلاد، وادان المؤتمر استخدام الغذاء كسلاح في الحرب.

ناشد المؤتمر المجتمع الدولي للتدخل والضغط الجاد على طرفي الصراع لإعادتهم إلى منبر التفاوض، وإقرار آليات لحماية المدنيين وتوصيل المساعدات الانسانية.

أدان المؤتمر بأشد العبارات الإنتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والمليشيات والحركات المتحالفة معهما، وطالب بالتحقيق الدولي في هذه الانتهاكات والجرائم ومحاسبة المتورطين فيها.

ناقش المؤتمر خطاب الكراهية والعنصرية والذي فاقمته الحرب وزاد من أوارها، ومزق النسيج الاجتماعي وشوه الوجدان الوطني، وأدان المؤتمر تورط طرفي الحرب في تصعيد خطاب الكراهية ونتائجه الكارثية. وقرر المؤتمر إطلاق حملة شاملة لمواجهة هذا الخطاب، بما يتطلبه من إصلاح قانوني وتربوي وثقافي ومجتمعي.

أجاز المؤتمر رؤية سياسية لـ”إيقاف وانهاء الحرب وتأسيس الدولة وإستكمال الثورة”، ترتكزعلى الأسس التالية وهي وقف وإنهاء الحرب وإعادة الامن والاستقرار وعودة النازحين، وحدة السودان شعباً وأرضاً، إقامة دولة مدنية ديموقراطية تقف على مسافة واحدة من الأديان والهويات والثقافات وتعترف بالتنوع وتعبر عن جميع مكوناتها بلا تمييز، إقرار أن المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات، الاعتراف بالتنوع التاريخي والمعاصر، تأسيس وبناء منظومة عسكرية وأمنية إحترافية ذات عقيدة قتالية وطنية، إنشاء نظام حكم فدرالي حقيقي عماده الاعتراف بالحق الأصيل لجميع الأقاليم في إدارة شؤونها ومواردها عبر مجالسها التشريعية وسلطاتها الإقليمية.

ولتحقيق هذه الاسس فقد قرر المؤتمر الشروع الفوري للتحضير لمائدة مستديرة لكل السودانيين من قوى الثورة والتغيير، والقوى الرافضة للحرب والمؤمنة بالتحول الديمقراطي، عدا المؤتمر الوطني المحلول ووجهاته، حتى لا تكون العملية السياسية مدخلاً لاعادة احياء النظام البائد وقبر ثورة ديسمبر المجيدة وتفادياً لمحاولات لإغراق السياسي.

وفي هذا السياق فقد رحب المؤتمر بالمبادرة الامريكية السعودية عبر منبر جدة ومبادرتي الاتحاد الافريقي والايقاد، كما رحب بالجهود المبذولة من جمهورية مصر الشقيقة ودول الجوار لوقف الحرب وتحقيق السلام.

أجاز المؤتمر مبادئ وأسس عملية تأسيس وبناء جيش قومي مهني واحد لا يتدخل في السياسة والاقتصاد، وأعتبر المؤتمر هذه الأسس بداية طريق الاستقرار بوقف الحروب واغلاق طرق الانقلابات العسكرية.

صمم المؤتمر تصوراً للعدالة الانتقالية يهدف الي عدم الإفلات من العقاب ومحاسبة المتورطين في كافة الجرائم بما في ذلك جرائم الحرب والتطهير العرقي في جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور، ومجزرة اعتصام القيادة العامة، وحرب أبريل ٢٠٢٣ وجرائمها البشعة، وجرائم العنف الجنسي والموجهة ضد النساء خاصةً وصولاً الي مجتمع خال من الكراهية والعنصرية.

ناقش المؤتمر الترتيبات الدستورية وقضايا الحكم المحلي والاقاليم وقرر بناءاً على ذلك تشكيل لجنة خبراء لإحكام الصياغة وتطويرها وفق الأسس المهنية.

أجاز المؤتمر النظام الأساسي والهيكل التنظيمي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، ووضع الضوابط اللازمة للتمثيل واتخاذ القرار حيث أقر النظام الاساسي نسبة 40% للنساء ونسبة 40% للشباب، وأختار الهيئة القيادية الجديدة، وإنعقدت الهيئة القيادية وإختارت الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً لها.

هذا المؤتمر حدث تاريخي يحدث لاول مرة في تاريخ البلاد؛ من حيث عدد المشاركين وتنوعهم وشمول تمثيلهم وشمول القضايا والمناخ الديمقراطي الذي ساد فيه وأدى لتجاوز جميع الخلافات وبناء توافق كبير، ومن حيث أن (تقدم) تعبر الان عن أوسع تحالف مدني ديمقراطي شارك في مؤتمرها التأسيسي ممثلين من القواعد والمراكز بشكل عكس التنوع الذي يمزج بين القوى الحزبية وغير الحزبية والمكونات الاجتماعية المجتمعية الحديثة والتقليدية، ومن حيث حضور وفود من الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، والمؤتمر الشعبي والاتحادي الديمقراطي الاصل كمراقبين؛ وقد أستقبل هذه الوفود بحفاوة بالغة من المؤتمرين تعكس رغبتهم الصادقة بالعمل المشترك.

شكر المؤتمر دولة اثيوبيا وشعبها على تيسير إنعقاد المؤتمر بعاصمتها اديس ابابا، كما شكر الداعمين الاقليميين والدوليين الذين جعلوا قيام هذا المؤتمر ممكناً.

أديس ابابا – 30 مايو 2024

الوسومأديس أبابا إثيوبيا السودان بناء جيش قومي تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية- تقدم خطاب الكراهية د. عبد الله حمدوك مصر

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أديس أبابا إثيوبيا السودان تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية تقدم خطاب الكراهية د عبد الله حمدوك مصر القوى الدیمقراطیة المدنیة المؤتمر التأسیسی خطاب الکراهیة هذا المؤتمر

إقرأ أيضاً:

الفكرة لا تموت: تأملات في تشظي الدولة واستدعاء الوطن

23 مايو 2025


يدخل السودان عامه الثالث من حرب ضروس مزقت أوصال الوطن، منذ أن اندلعت أولى طلقاتها في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وما كان يُظن في بداياته صراعًا محدودًا على النفوذ العسكري، سرعان ما انكشف عن جرح غائر في الجسد الوطني، أعمق بكثير من معركة جنرالات. اليوم، يبدو المشهد السوداني خلاصة لعقود طويلة من الفشل البنيوي: فشل في بناء دولة قادرة على إدارة التنوع، وفشل في صيانة العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين، وفشل في تجاوز ثقافة الاستبداد العسكري والسياسي التي حكمت السودان منذ الاستقلال. لم تكن الحرب انفجارًا مفاجئًا؛ بل نتيجة مسار طويل من التآكل، حيث ظل السودان يتعايش مع أزماته المتراكمة كما يتعايش الجسد مع ورم خبيث، إلى أن فقد المناعة والسند.


في جوهرها، الحرب الحالية هي الانعكاس الأخير لسياسة طال أمدها، سياسة تأسيس مراكز قوة مسلحة خارج الجيش الوطني، بغرض إدارة التوازنات السياسية لا حماية الوطن. لقد نشأ الدعم السريع بوصفه ذراعًا أمنية لنظام البشير، ثم تضخم حتى أصبح جيشًا موازيًا يحمل أجندته الخاصة. كانت هذه السياسة امتدادًا لارث طويل من تسليح القبائل، وتشجيع المليشيات، واستبدال الرؤية الوطنية بحسابات الولاء الشخصي والجهوي. وهكذا، حين انكشفت المظلة السياسية، وجد السودان نفسه أمام واقع تعدد الجيوش، حيث السلاح سابق على الشرعية، والمليشيا أقوى من المؤسسات.


وعلى الجانب السياسي، لم تكن القوى المدنية أقل إخفاقًا. منذ سقوط النظام القديم، فشلت قوى الثورة في بناء مشروع سياسي جامع، ينقل الصراع من ميادين السلاح إلى مؤسسات الدولة الشرعية. بدل أن تخلق قوى مدنية قادرة على فرض شروطها على العسكريين، انغمست في معارك داخلية على المناصب والتمثيل والسلطة الرمزية. غابت الرؤية الوطنية، وغاب معها التخطيط الاستراتيجي، ليصبح المشهد أشبه بساحة مفتوحة للصراعات التكتيك القصير على حساب المصير البعيد.


لحظة ما بعد الثورة كانت لحظة تأسيسية مهدرة. كان المطلوب مشروع مقاومة مدنية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين الشعب والدولة، وتفرض دمقرطة حقيقية للمؤسسات. بدلًا من ذلك، وجدت القوى المدنية نفسها منقسمة بين مؤيدين لهذا الجنرال أو ذاك، فاقدة القدرة على رسم طريق ثالث مستقل. ترك هذا الفراغ السياسي ساحة الحرب دون معارضة موحدة، فاندفعت الأطراف المسلحة إلى صراع دموي بلا أفق.


ولعل التجربة المأساوية لانفصال جنوب السودان تقدم درسًا بالغ الأهمية في قراءة الحاضر السوداني. فمنذ ما قبل الاستقلال، كان التعامل مع الجنوب قائمًا على الإنكار السياسي والاستعلاء الثقافي، ما أدى إلى اندلاع أولى الحروب الأهلية عام 1955. ثم تكررت النزاعات، وتراكمت المظالم، وساد منطق المعالجة العسكرية بدلًا من السياسية. وحتى بعد اتفاقية السلام الشامل عام 2005، ظلت الجذور العميقة للأزمة دون علاج، ليأتي انفصال جنوب السودان عام 2011 بمثابة الإعلان الرسمي عن فشل المشروع الوطني السوداني في استيعاب تنوعه الداخلي. واليوم، يعيد السودان إنتاج ذات المسار: إنكار للأزمة البنيوية، تعدد للجيوش، تحالفات انتهازية، وحروب لا تفتح إلا على مزيد من التفتت.


وفي هذا الفراغ القاتل، عادت الأشباح القديمة لتطفو على السطح. الإخوان المسلمون، الذين حكموا السودان بقبضة من حديد لعقود، لم يغيبوا عن المشهد. بل استثمروا الفوضى المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفهم، متسللين عبر التحالفات العسكرية والسياسية، ومجددين خطابهم بأقنعة جديدة. هدفهم لم يكن يومًا حماية الوطن أو بناء الدولة، بل الحفاظ على منظومة سلطوية تتغذى على الانقسامات وعلى هشاشة المجتمع. اليوم، لم تعد الحرب السودانية مجرد معركة بين جيشين كبيرين. لقد تحولت إلى شبكة معقدة من المليشيات القبلية، والقوات الخاصة، وعصابات التهريب المسلح، مما جعل الخريطة الوطنية أقرب إلى فسيفساء دامية تتنازعها المصالح الجهوية والإقليمية. كل ذلك وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة: المدارس مغلقة، المستشفيات مدمرة، الأسواق مشلولة، والطرق أصبحت إما مقطوعة أو تحت سيطرة مسلحين.


يدفع المدنيون الثمن الأفدح، ليس فقط بغياب الأمن والغذاء، بل بتآكل الإيمان بفكرة الدولة نفسها. أكثر من نصف سكان السودان يواجهون اليوم خطر المجاعة الحادة، وفق تقارير الأمم المتحدة، بينما تتزايد أعداد النازحين بلا أمل في العودة، وتنهار أنظمة التعليم والرعاية الصحية والاقتصاد. لم تعد الأزمة أزمة موارد فقط، بل أزمة معنى وكيان، إذ تفقد الدولة يومًا بعد آخر قدرتها على توفير أبسط مقومات البقاء لمواطنيها. تتحول الجغرافيا الوطنية إلى فسيفساء من الجيوب المسلحة، وتنكمش سلطة القانون أمام منطق القوة والسلاح، وكأن السودان يعود إلى زمن ما قبل الدولة الحديثة. في هذا المشهد، يصبح السؤال الحقيقي ليس كيف نوقف الحرب فقط، بل كيف نعيد تأسيس فكرة الوطن المشترك، بعد أن مزقها القتال والانقسامات العميقة. لم تعد الحلول الجزئية كافية؛ لا يمكن لصفقة بين الجنرالات أن تصنع سلامًا، ولا لتسويات فوقية أن تعيد البناء على أرضية مهترئة. السودان بحاجة إلى مشروع إنقاذ وطني شامل، ليس خيارًا ترفيًا بل شرط وجودي لاستمراريته كدولة وكهوية جامعة.


هذا المشروع لا يمكن أن يولد إلا من رحم القوى المدنية الحقيقية: تلك التي لم تتورط في تحالفات الدم، ولم تساوم على المبادئ من أجل مكاسب عابرة. المطلوب اليوم هو تحالف وطني عابر للطوائف والجهات والقبائل، يُعيد الاعتبار لفكرة العقد الاجتماعي، ويُحاصر منطق الحرب من جذوره، بتفكيك المليشيات، وإعادة بناء الجيش الوطني تحت مظلة مدنية خالصة، واستعادة المؤسسات من الفوضى لصالح قيم الديمقراطية والعدالة والشفافية.


قد يبدو هذا الحلم بعيدًا وسط رماد الحرب، لكن الحقيقة أن السودانيين أمام مفترق طرق تاريخي لا يحتمل إلا خيارين: إما مواصلة الانحدار نحو هاوية التفكك الشامل كما حدث لدول أخرى قبلنا، أو تحمل المسؤولية الجماعية للإنقاذ، مهما كان الطريق صعبًا وطويلًا. على المثقفين، والنشطاء، والنقابات، والمهنيين، أن يدركوا أن اللحظة لا تحتمل الحياد أو الانتظار. إنهم مدعوون إلى الخروج من دائرة النقد السلبي إلى مربع الفعل الواعي والمنظم، لبناء جبهة مقاومة مدنية شاملة، تضع في مقدمة أهدافها حماية ما تبقى من نسيج الوطن، وترميم الثقة، وإعادة الاعتبار لفكرة الدولة التي تخدم جميع مواطنيها. لأن البديل بات واضحًا وفادحًا: مزيد من الحروب الصغيرة، مزيد من الموت المجاني، ومزيد من ذوبان السودان كحلم وكواقع. كل تأخير في استعادة زمام المبادرة يعني اقتراب نهاية الحلم الوطني الذي ظل يراود أجيال السودانيين منذ فجر الاستقلال. السؤال لم يعد: كيف وصلنا إلى هنا؟ بل أصبح: هل نملك الجرأة والرؤية والإرادة الجماعية لكسر هذه الحلقة وكتابة فصل جديد، أكثر عدلًا وكرامة، في قصة وطنٍ تعب الانتظار ولكنه لا يزال يملك شيئًا من الأمل؟



كاتب وصحافي من السودان
‏2025 ©️ ultra جميع الحقوق محفوظة ل الترا صوت



https://ultrasudan.ultrasawt.com/الفكرة-لا-تموت-تأملات-في-تشظي-الدولة-واستدعاء-الوطن/طلال-نادر/رأي

 

مقالات مشابهة

  • المصافحة التي لم تتم.. خلافات عميقة تعوق التوصل لاتفاق في غزة برعاية أمريكية
  • السودان وفروقات الوعي السياسي
  • في ختام مؤتمرها.. الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي توجّه برقية شكر للرئيس السيسي دعمًا لمسيرة التنمية
  • مقاربات تاريخية في تجارب فترات الانتقال السياسي في السودان
  • الحرب على كرسي السلطة الخالي
  • على غير المتوقع، هزيمة الصالحة كانت قاصمة الظهر للمليشيا
  • من الفرق الإنجليزية التي تأهلت لدوري أبطال أوروبا بعد ختام البريميرليغ؟
  • هل ينجح كامل إدريس في فتح الأفق السياسي بالسودان؟
  • وهم اسمه السودان !
  • الفكرة لا تموت: تأملات في تشظي الدولة واستدعاء الوطن