مثل كل مرة حين وضعتُ الحناء على كفّي يديّ، وانتشرت رائحته لتملأ المكان من حولي، زارتني صورة عمتي سليمة، تلك الروح الطاهرة التي رحلت وتبعتها رائحة الحناء في رحلتها، ما زلت أتذكر شعرها المصبوغ بالحناء والذي يخفي جميع شعيراتها البيضاء، وأظافرها الحمراء، ويديها المخضبتين بالحناء والورس، وباطن قدميها الذي صُبغ بلون أحمر للقضاء على جميع التشققات.
عشق عمتي سليمة للحناء امتد لمجموعة من أشجار الحناء التي زرعتها في صف طويل، تقطع أوراقها الخضراء في مواسم محددة، ثم تطحنها وتحولها لحناء طبيعي تصبغ بها يديها وحياتها.
منها ورثت حب الحناء بشكل كبير، منذ كنت طفلة صغيرة أجلس في حضنها، تأتي بوعاء دائري صغير تضع فيه الحناء وتخلطه بالماء بخبرة واضحة، تمسك عود الثقاب وترسم على يدي خطوطًا ونقاطًا كثيرة، ثم تحضر الوعاء الآخر الذي كانت قد جهزته منذ فترة وتصبّ عليه ماء ممزوجًا بليمون عماني يابس، وتبدأ بوضعه على باطن قدميّ الصغيرتين وهي تغني أغاني تراثية جميلة، وعندما أستيقظ من نومي تصر على رؤية تفاصيل الحناء على يديّ، تشمه وتقبل يديّ بكل حب وحنان.
في يوم من أيام طفولتي المنصرمة وهي تضع الحناء في قدمي، ضحكت وقالت بكل إصرار: سوف أضع الحناء لك في عرسك!
تبادل الأدوار بدأ بعد أن طالت قامتي، كنت أمسك رجليها وأضع طبقات من الحناء؛ لأقضي على كل تلك التشققات التي بدأت تهاجمها، وأفك ضفائر شعرها وأبدأ بوضع الحناء على تلك الخصل التي بدأ الشيب يغزوها، كانت تساندني بأغانيها الرقيقة، وصوتها الحنون يملأ أجواء الغرفة من حولنا.
تخبرني عمتي بحكايات كثيرة، عن طفولتها القاسية، عن الحناء الذي كانت تزرعه لتغطي تشققات أقدام أحبابها في البيت القديم، وعن البحر الذي غدر بزوجها وابنها الوحيد، وعن دموعها التي لم تنقطع، وعن رائحة الحناء التي تحارب بها كل الخدوش التي ترهق صدرها، وإثر كل حركة يؤلمها خدش وتنساب آلام ممتدة لا تنقطع.
قالت لي: أسميته صالح، كان ابنًا صالحًا بارًا، لم أضع له الحناء في عرسه كما وعدته، غادر الحياة حين كان عمره خمسة عشر ربيعًا، كان طويلا أسمر البشرة، تمنيت لو أنجبت أختًا له كنت سوف أسميها صالحة، وكانت سوف تبقى بقربي، وسوف أضع لها الحناء كل شهر.
وأكملت بحسرة: رحل صالح ولم تأتِ صالحة، وبقيت أتجرع مرارة أيام طويلة كانت بطعم العلقم، ورحلت قطعة عجزت عن تحديد حجمها من جسدي وروحي.
عمتي سليمة رجعت بعد سنوات عجاف للحناء تعجنه وهي تغني، وتضعه وهي تغني، رغم أني شاهدتها تبكي في أيام كثيرة حين تمر بالقرب من البحر، غير أنها حاربت حزنها بالحناء وصناعته، كانت تعشق اللون الأحمر الذي يتركه، وتحب تلك الرائحة التي تظل تعبق في غرفتها لأيام متتالية.
أخبرتني ذات يوم حين أصابني صداع قوي بأن وضع الحناء يساعد في التقليل من الصداع الذي يزورني في فترات متقاربة، ضحكت عليها في سري، وقد أيقنت بأن عمتي وضعت استخدامات كثيرة لتلك الشجرة، وما زلت أتذكر تلك الصفوف الطويلة من أشجار الحناء التي ملأت بها بيتها، أصبحت تصنع أكبر كمية من الحناء وتوزعها على بيوت الأقارب والجيران بنية الصدقة.
رفضت عمتي دخول الحناء الصناعي إلى بيتها، غضبت بشدة حين شمت رائحته القوية، ورفضت فكرة كل تلك المكونات الصناعية التي تدخل في تركيبه، تجدها تغير من قوامه ولونه، وتجعله كيانًا زائفًا غير طبيعي.
في يوم رأيتها تبكي وهي تزيل إحدى شجيرات الحناء التي أصابها الجفاف، تعجبت من تصرفها وازددت تعجبًا حين قالت: كلما رحلت شجيرة زرعتها بيدي، رحل شيء من روحي، أبكيها لأنها قطعة مني، مثل ولدي صالح ربيته ورحل، والحناء غرستها وسقيتها ورحلت بهدوء.
تحمل الشجيرة بصمت، وبعد أيام تزرع شجيرة جديدة مكانها غير أن قطعة من روحها التي رحلت لا تعود لجسدها أبدًا.
ذات عيد لم تعجن الحناء الذي جهزته مسبقًا، وضعته في كيس في المخزن القديم، كانت صديقتها صبيحة قد ماتت، بكتها لأسبوع كامل، لم تكن صبيحة صديقة فحسب، بل كانت قلبًا وروحًا أخرى لعمتي سليمة، حين دخلت عليها قالت لي ودمعة كبيرة تسقط من عينيها: «اليوم بعد فقدت قطعة أكبر من روحي»!
بعد وفاة صبيحة هاجم الضعف عمتي سليمة، كبرت سنوات عدة دفعة واحدة، صار لون شعرها أبيض بلون القطن، انحناء ظهرها أصبح أكثر بروزًا، حتى شجيرات الحناء أهملتها، تقضي السواد الأعظم من يومها في حوش الدار، فوق الحصير الذي اعتادت أن تجلس فيه مع صبيحة، أصبح حديثها مقتصرًا على حياة صالح وصبيحة، حين حدثتها عن الحناء تنهدت ورفعت رأسها نحو السماء، شعرت بالخوف حين أخبرتني أنها اشتاقت لصالح وصبيحة، وأن القطعة الصغيرة المتبقية من قلبها لن تسعفها لإكمال المسير.
أصبحت عمتي سليمة تجلس فوق الحصير صامتة أغلب وقتها، حاولت إغراءها بالحناء وبرغبتي في وضعه على يدها، ردت بعلامة من رأسها تدل على رفض قاطع.
أكلت التشققات قدميها، وطالت شجيرات الحناء ثم تداخلت مع بعضها وبدأت في الذبول، حدثتها عن وعدها لي بوضع الحناء في قدمي في ليلة الحناء، صمتت هذه المرة دون رد، شعرت بأن عمتي سليمة تذبل بسرعة هذه الأيام، أصبح حتى كلامها وطعامها يتناقص بطريقة واضحة، وتحدق في السماء معظم الأحيان.
بعد ثلاثة أيام من حديثي معها، وجدتها تجهز الحناء وتسكب عليه ماء الليمون المجفف، كانت تعجنه بحماس، وقالت لي: اليوم ضعي لي الحناء.
وضعتُ لها الحناء فوق كل تلك التشققات التي برزت بأشكال مختلفة، ووضعتْ رأسها على الوسادة، قبلتُ يديها بكل حنان، وقبّلتْ يديّ بحرارة، وأمسكتني لتتأمل ملامحي لدقيقة كاملة.
في الصباح ذهبتُ لأسألها عن الحناء الذي وضعته، تعجبتُ حين شاهدتُ باب غرفتها المغلق، فتحته بسرعة، وتحت الضوء المنبعث من المصباح وجدتُ جسد عمتي كما تركته بالأمس، رفعتُ الغطاء عنها بقلب مرتجف، هززتها عدة مرات، ما زالت رائحة الحناء تنتشر في أرجاء الغرفة، وقطعتي القماش تغطي قدميها، بينما نظراتها مصوبة نحو سقف الغرفة بكل صمت وسكون.
أمل المغيزوية قاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحناء التی الحناء فی
إقرأ أيضاً:
باشات: ثورة 30 يونيو كانت نقطة الانطلاق نحو الجمهورية الجديدة
قال اللواء حاتم باشات، عضو أمانة الدفاع والأمن القومي بحزب الجبهة الوطنية، إن ثورة 30 يونيو ستظل لحظة فارقة في التاريخ الحديث للدولة المصرية، حيث عبرت عن إرادة شعبية خالصة واجهت خطر اختطاف الدولة على يد جماعة الإخوان الإرهابية، التي حاولت تغيير هوية مصر الوطنية والحضارية لصالح مشروع مشبوه، لا يؤمن بالدولة ولا بالحدود، و أنقذت الوطن من براثن الفوضى والانهيار، واستعادت الدولة المصرية هويتها الوطنية من جماعة حاولت خطفها لحساب مشروع أيديولوجي دخيل على المجتمع المصري.
وأكد باشات، في تصريحات له اليوم، أن ما يحدث في المنطقة أثبت أن هذه الثورة العظيمة كانت وستظل الحصن المنيع للهوية المصرية والحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية ونقطة الانطلاق للجمهورية الجديدة.
وأضاف باشات ، أن ما حدث في 30 يونيو كانت ثورة شعبية، ساندتها كل قوى الوطن، وفي مقدمتها القوات المسلحة المصرية، التي انحازت بإرادة وطنية خالصة لإرادة الشعب، من حكم الجماعة التي لم تؤمن يوما بالدولة الوطنية، وسعت بكل وضوح لتفكيك مؤسساتها لصالح ولاءات تنظيمية وأيديولوجية متطرفة و منذ وصولها للسلطة، بدأت فورا في تنفيذ مخطط "التمكين"، من خلال السيطرة على مفاصل الدولة الحيوية، وتصفية الكفاءات، وتكريس خطاب تكفيري إقصائي هدفه تفكيك المجتمع، وبث الفرقة بين أبنائه، في مشهد غير مسبوق من العبث بمستقبل وطن يمتد تاريخه لآلاف السنين.
ونوه إلى أن جماعة الإخوان الإرهابية حاولت بعد ثورة 30 يونيو ضرب استقرار الدولة ، من خلال تنفيذ عمليات تخريبية تستهدف مؤسسات الدولة ورجال الجيش والشرطة والمواطنين، في محاولة يائسة لإسقاط الوطن إلا أن الدولة المصرية نجحت في التصدي لهذا الإرهاب الأسود بفضل تماسك مؤسساتها ويقظة أجهزتها الأمنية.
وأشار إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان له دور محوري في الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، وتعزيز وحدة الصف الوطني، حين اختار الانحياز للشعب، وتحمل مسؤولية تاريخية في وقت كانت فيه كل السيناريوهات مفتوحة، مشيرا إلى أن شجاعة القرار وصدق النية والرؤية الواضحة أعادت مصر إلى مسارها الوطني، ووضعت أساس الجمهورية الجديدة التي تقوم على التنمية والاستقرار وبناء الإنسان.
وأضاف باشات، أن خطورة المرحلة لم تكن فقط في محاولات اختطاف القرار الوطني، بل في تهديد استقلالية الدولة المصرية ومحاولة دمجها في مشروع إقليمي تديره قوى خارجية لا ترى في مصر سوى ساحة نفوذ يجب إخضاعها، وكانت الجماعة الإرهابية هي الأداة لتنفيذ هذه الأجندة الخارجية والتي تسعى لتغيير خريطة المنطقة بالكامل، وهو ما جعل ثورة 30 يونيو ضرورة وجودية لا خيارا سياسيا.
وأكد باشات ، أن ما تحقق منذ 30 يونيو في ملفات البنية التحتية، وتطوير مؤسسات الدولة، وتعزيز السياسة الخارجية المصرية، واستعادة الدور الإقليمي، كل ذلك يعد شهادة حية على أن الثورة لم تكن لحظة فقط، بل بداية مشروع وطني كبير ما زلنا نقطف ثماره، داعيا إلى ضرورة ترسيخ وعي الأجيال الجديدة بهذه الحقبة الفارقة، حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، ويبقى الوطن عصيا على الاختطاف.
وشدد باشات علي أن ثورة 30 يونيو ستظل علامة مضيئة في تاريخ مصر الحديث، لأنها لم تكن فقط ثورة على حكم فاشل، بل كانت ثورة من أجل بقاء الدولة، واستعادة مكانتها، وتمكين الإرادة الشعبية من صناعة المستقبل، مشددا على أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان – ولا يزال – قائدا وطنيا حمى البلاد من الانهيار، ويمضي بها بثقة نحو الجمهورية الجديدة.