الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة.. عشرة ابتكارات ستغير العالم
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
في المستقبل القريب، ووفقا لأفكار خبير الذكاء الاصطناعي أندرو نغ، فإن كل صناعة ستتأثر بالذكاء الاصطناعي، ومن يفهمه ويطبقه أولا سيكون في موقع القوة، وهذا بالضبط ما نعيشه في عام 2025، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية عابرة، بل أصبح فئة جديدة كليًا من التكنولوجيا التي تعيد تعريف طريقة إدارة الأعمال وتفاعُل البشر مع الآلات.
من أتمتة المهام الروتينية المملة إلى فتح آفاق جديدة تماما، يدفع الذكاء الاصطناعي العالم نحو الثورة الصناعية الرابعة، حيث يرتكز كل شيء على الكفاءة، والقابلية للتوسع، وقبل كل شيء اتخاذ القرار الذكي.
في هذا المقال، نستعرض عشرة من أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي لعام 2025، ونكشف كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تغير قواعد اللعبة ليس فقط في عالم الأعمال، بل في كل جانب من جوانب حياتنا.
التطبيقات العشرة للذكاء الاصطناعي في 2025 تطوير اللقاحاتشهد تطوير لقاحات كوفيد-19 السريع عدة عوامل أساسية. سنوات من الأبحاث على الحمض النووي الرسول (mRNA)، وإرادة سياسية هائلة، وتدفق كبير للأموال.
لكن لتقليص الجدول الزمني من 15 عامًا إلى 12 شهرًا فقط، اعتمد العلماء أيضا على أدوات الذكاء الاصطناعي، التي ساعدت في كل شيء بدءًا من تفسير الجينوم وحتى تنظيف بيانات التجارب السريرية.
ويقول تيموثي إندي، رئيس برنامج تحالف الاستعداد للأوبئة (CEPI): "يمكن أن يكون لدينا تصميم لقاح جديد في غضون أيام قليلة". ويهدف هذا البرنامج إلى تطوير ونشر لقاح جديد خلال 100 يوم، ويضيف إندي "أعتقد أننا على وشك الوصول إلى هذا الهدف".
العلاقات بين البشر والآلاتأصبحت العلاقات بين البشر والآلات أمرًا شائعًا، حيث يتجه ملايين الأشخاص إلى روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتأدية دور يمزج بين الصديق والمعالج النفسي والشريك الرومانسي.
إعلانإحدى منصات تمثيل الأدوار بالذكاء الاصطناعي "كاركتير إيه آي" (Character.AI)، لديها الآن 20 مليون مستخدم نشط شهريًا، نصفهم من الإناث، والنصف الآخر ولد بعد عام 1997.
تقول كيت دفلين، أستاذة في كلية كينغر بلندن "بالنسبة لكثير من الناس، هو ترفيه ممتع يستفيدون منه كثيرا". وترى أن رفقة الذكاء الاصطناعي مفيدة طالما أن الناس يفهمون أنه ليس كائنا واعيًا، لكنها تحذر من استغلال الفئات الضعيفة، مثل الأطفال أو من يعانون مشكلات نفسية.
مراقبة الحياة البريةلمتابعة الحياة البرية، يستخدم العلماء شبكة من الكاميرات التي تعمل بالحركة في مناطق نائية، غير أن التدفق الكبير من الصور التي تلتقطها هذه الكاميرات قد يستغرق أسابيع عدة لفرزها والبحث عن مشاهد مهمة.
وهنا يأتي دور أداة "وايد لايف إنسايت" (Wildlife Insights)، التي نشأت من تعاون بين الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) وغوغل، إذ تقوم بمسح ملايين الصور وتحديد الحيوانات بدقة تصل إلى 99.4%.
وبهذه الطريقة، يصبح بمقدور الباحثين توفير وقتهم وجهدهم للتركيز على "أعمال أكثر أهمية"، بحسب ما وضحته آبي هيماير، رئيسة برنامج الصندوق العالمي للطبيعة.
وفي مارس/آذار، تم إطلاق الأداة كمصدر مفتوح، مدربة على 65 مليون صورة، بحيث يمكن للعلماء الحفاظ على البيئة في أي مكان استخدمت.
التعليمبينما تسعى المؤسسات التعليمية لفهم وضبط استخدام الذكاء الاصطناعي، أصبح اعتماده واسع الانتشار داخل المدارس والجامعات.
ففي يوليو/تموز، تعاونت اتحادات المعلمين في الولايات المتحدة مع "أوبن إيه آي" و"مايكروسوفت" و"أنثروبيك" ضمن مبادرة تهدف إلى تدريب 400 ألف معلم ومعلمة على استخدام التقنية خلال السنوات الخمس القادمة.
وفي خطوة موازية، أعلنت "أوبن إيه آي" في أغسطس/آب عن شراكة مع الحكومة الهندية لتوزيع تقنيتها على المدارس على مستوى البلاد، ما يعكس التوسع العالمي للذكاء الاصطناعي في التعليم.
في هذا السياق، توضح روز لوكين، أستاذة في كلية جامعة لندن، ذات الخبرة العميقة في الذكاء الاصطناعي والتعليم، أن استخدام الطلاب الواسع لهذه التقنية أدى إلى تعطيل أنظمة كانت فعلا تكافح لإعدادهم للمستقبل.
ومع ذلك، ترى لوكين أن هذه التحولات تحمل فرصا جديدة، لكنها تؤكد ضرورة التنظيم وفهم حدود الذكاء الاصطناعي لحماية الفئات الضعيفة.
إعادة التدوير الدائرييتم إنتاج أكثر من 350 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنويًا، لكن الإنزيمات المصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكنها تحويل البلاستيك مرة أخرى إلى المركبات الكيميائية التي صنع منها.
وفقا ليعقوب ناثان، مؤسس ومدير شركة "إيبوك بيو ديزاين" (Epoch Biodesign)، "هذا يفتح إمكانيات لا نهائية لإعادة التدوير لكل المواد التي ترسل اليوم إلى المدافن أو الحرق".
وقد صمّمت الشركة إنزيمات للأنواع الثلاثة الرئيسية من البلاستيك باستخدام التعلم الآلي، ومن المتوقع أن تكون منشأتها الإنتاجية الأولى قادرة على معالجة 150 طنًا من النفايات سنويًا.
إعلان التشخيص الطبيأصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيا من أنظمة الرعاية الصحية في العالم، حيث تساعد في تشخيص السكتات الدماغية، والسرطانات، وحالات طبية أخرى.
على سبيل المثال، تستخدم شركة "كيور إيه آي" (Qure.ai) الذكاء الاصطناعي لتفسير الصور التشخيصية مثل الأشعة السينية والموجات فوق الصوتية، ويطبق نظامها في أكثر من 4500 موقع في العالم. كما تستخدم خوارزميات "فيز إيه آي" (Viz.ai) في أكثر من 1800 مستشفى في الولايات المتحدة وأوروبا.
من جهة مماثلة، تُظهر أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضا فائدة كبيرة كمرافقة سريرية. ففي تجربة أُجريت بواسطة "بندا هيلث" (Penda Health) و"أوبن إيه آي"، ساعد النظام في تقليل الأخطاء الطبية في التشخيص بنسبة 16%، مما يعكس إمكانات كبيرة لتحسين الرعاية الصحية على نطاق عالمي.
ألعاب الأطفالتعد ألعاب الذكاء الاصطناعي سوقا ناشئة وسريعة النمو، حيث تقدم شركات مثل "كوريو" (Curio) دُمى محشوة بالذكاء الاصطناعي تتحدث مع الأطفال بلغة مناسبة لأعمارهم، بينما صُمّم "ميكو 3" (Miko 3) كروبوت تفاعلي يساعد الأطفال على التعلم والاستماع.
وفي يونيو/حزيران، دخلت "أوبن إيه آي" في شراكة مع شركة الألعاب "ماتل" (Mattel)، ومن المتوقع الإعلان عن أول منتج مشترك قريبًا.
في هذا السياق، تحذر آن صوفي سيريه، المديرة التنفيذية لمبادرة "إفريوان إيه آي" (Everyone AI)، من تأثير الألعاب على مراحل التطور الحرجة للأطفال إذا لم تتوافر الضوابط اللازمة.
وأكدت أن "المعايير والإرشادات والتواصل الاستباقي مع الشركات المصممة أمر بالغ الأهمية، فبمجرد أن يكون الدب الصغير تحت شجرة عيد الميلاد، يصبح من الصعب جدا استرجاعه".
رسم خرائط الأرضفي يوليو/تموز، أعلنت غوغل عن نظام ذكاء اصطناعي يعمل كـ "قمر صناعي افتراضي"، يجمع البيانات البصرية والحراريّة والرادارية والمناخية لتوصيف الأراضي اليابسة والمياه الساحلية بدقة عالية.
ويوضح كريستوفر براون، مهندس أبحاث أول في "غوغل ديب مايند": "توافر مجموعة البيانات الموحدة الناتجة فهمًا متسقًا للكوكب على مستوى العالم للعلماء والباحثين".
تمكن هذه الخرائط عالية الكفاءة، التي تستخدمها فعلا أكثر من 50 مؤسسة، كالحُكومات والشركات والمنظمات غير الربحية والأكاديميين من أداء مجموعة واسعة من المهام، بدءًا من رسم خرائط النظم البيئية وسلاسل التوريد وصولا إلى تحليل التغيرات البيئية مع مرور الوقت.
ويعرب براون عن تفاؤله، أن إزالة الحواجز للوصول إلى هذه البيانات قد تؤدي إلى "انفجار في علوم الأرض".
أتمتة المصانعبينما كانت الروبوتات الصناعية جزءا من خطوط الإنتاج منذ الثلاثينيات، أصبحت الآن مزودة بعقول ذكية تمكنها من اتخاذ قرارات وتحسين أدائها بنفسها.
على سبيل المثال، تدير شركة "شاومي" الآن ما يعرف بـ "المصنع المظلم" في بكين، وهو مصنع آلي يمكن تشغيله بإضاءة منخفضة، وينتج هاتفا ذكيا رائدا كل ست ثوانٍ مع إشراف عدد قليل فقط من الفنيين.
أيضا، تتصدر شركة "سيمنس" (Siemens) تطوير مساعدين صناعيين مدعومين بالذكاء الاصطناعي، يساعدون المهندسين على توجيه الروبوتات باستخدام اللغة الطبيعية واكتشاف المشكلات الميكانيكية تلقائيا، ما يزيد الكفاءة بنسبة تصل إلى 30%، بحسب بيتر كورت، كبير مسؤولي التكنولوجيا والإستراتيجية.
ويضيف كورت أن تأثير الذكاء الاصطناعي في المستقبل يعتمد إلى حد كبير على تحويل العالم الصناعي: "فبعد كل شيء، إنه يمثل غالبية الاقتصاد".
الطائرات العسكرية ذاتية القيادةكان فقدان الإشارة، غالبا نتيجة للتشويش المتقدم، يعني في السابق سقوط الطائرة بدون طيار. لكن أثناء "عملية شبكة العنكبوت" في أوكرانيا، تولى الذكاء الاصطناعي القيادة عندما توقفت بعض الطائرات من بين 117 طائرة عن العمل، وفقا لجهاز الأمن الأوكراني.
إعلانويقول ميخاليو فيدوروف، وزير التحول الرقمي في أوكرانيا وقائد مبادرة "بريف 1" (Brave1) "تعدّ هذه العملية التي دمرت 12 قاذفة روسية، المثال الأكثر وضوحا بقدرات الذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة".
ويضيف فيدوروف أن الطائرات الحالية يمكنها تتبع أهداف محددة مسبقا، بينما النماذج المستقبلية ستتجه نحو مزيد من الاستقلالية.
مع كل هذه التطبيقات الواعدة للذكاء الاصطناعي، تظل هناك تحديات أساسية يجب مراعاتها، مثل حماية الخصوصية، وتجنب الاعتماد المفرط على التقنية، وتقليل الأخطاء المحتملة. فهم هذه المخاطر والتعامل معها سيكون مفتاح الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي في المستقبل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الذکاء الاصطناعی فی بالذکاء الاصطناعی فی المستقبل أوبن إیه آی أکثر من کل شیء
إقرأ أيضاً:
حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقوب صاحبه: ما هو حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين في بيئة العمل؟ وهل يجوز أن يمتد ذلك إلى تتبع خصوصياتهم خارج نطاق الوظيفة؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.
وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.
الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي
بالنظر إلى الحكم الشرعي لاستعمال هذه التقنيات، فإنَّ الأصل في استخدام الذكاء الاصطناعي هو الإباحة، ما لم يندرج في صورةٍ مُحرَّمةٍ شرعًا، وذلك عملًا بالقاعدة الفقهية المقررة أن "الأصل في الأشياء الإباحة".
قال العلامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (3/ 568، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أنَّ الأصل في الأشياءِ كلِّها سوى الفروج الإباحة] اهـ.
وقال الإمام الزُّرقَاني في "شرح مختصر خليل وحاشية البناني" (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت النهي] اهـ. وينظر: "الأشباه والنظائر" للإمام الحافظ السُّيُوطي (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية)، و"مطالب أولي النهى" للعلامة الرُّحَيبَاني (6/ 218، ط. المكتب الإسلامي).
ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل
استخدام الذكاء الاصطناعي وإن كان مباحًا من حيث الأصل لما تقرر، إلا أنه تابعٌ في الحكم لمقصوده، فمتى كان وسيلة لأمر مشروع أخذ حكم المشروعية، ومتى كان وسيلة لأمرٍ منهيٍّ عنه أخذ حكمه؛ لما تقرَّر في الشرع الشريف من أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد"، كما في "قواعد الأحكام" للإمام عز الدين بن عبد السلام (1/ 53، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
ومن ثَمَّ فإنَّ استخدامَ تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل يَختلف حكمه باختلاف الغرض والكيفية منه، فإذا كان الاستخدام داخل بيئة العمل لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية بيانات الشركة، وصيانة مصالح العمل والعملاء، ونحو ذلك، فهو جائزٌ من حيث الأصل لما تقدَّم، على أن يلتزم بجملة ضوابط؛ أهمها:
- إعلام الموظفين مسبقًا بهذه الرقابة؛ تحقيقًا لمبدأ الشفافية.
- ألَّا يتجاوز النظامُ حدودَ العمل إلى الحياة الخاصة واتباع العورات.
- أن يقتصر على القدر الضروري لتحقيق المصلحة للعمل ومقتضياته.
حكم استخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع الخصوصيات والحياة الشخصية للموظفين
أمَّا إذا كان الاستخدام لتتبع خصوصيات الموظفين خارج نطاق العمل، أو الاطلاع على حياتهم الشخصية وما لا صلة له بأداء وظائفهم، فهو أمرٌ محرَّمٌ شرعًا؛ لاشتماله حينئذ على عدة محظورات، من أبرزها: انتهاك الخصوصيات والتعدي عليها، والتجسس على الناس، وتتبع عوراتهم.
ومن المقرَّر في الشريعة الإسلامية صونُ حرمة الحياة الخاصة للأفراد، واعتبارها من الحقوق الشرعية التي لا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها بغير مسوِّغ شرعي.
ومن أبرز مظاهر ذلك: ما قرره الشرع الشريف من وجوب الاستئذان في دخول البيوت؛ حفظًا لخصوصية الإنسان في هيئته وشؤونه؛ ذلك لأن المرء في بيته غالبًا ما يكون في صورة غير التي يقابل بها الناس، فحفظ الإسلام له ذلك الحق، وأمر المسلمين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم إلا بعد أن يستأذنوا، بل ويشعروا بالاستئناس بهم أيضًا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: 27].
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (19/ 149، ط. مؤسسة الرسالة): [إن الاستئناسَ الاستفعالُ من الأُنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرًا بذلك مَن فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم] اهـ.
كما قررت السُّنة النبوية قاعدة عامة في صيانة خصوصيات الناس وترك التدخل فيما لا يعنيه، فعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِن حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ» أخرجه الإمامان: الترمذي، وابن ماجه.
كما نهى الشرع الحنيف عن التجسُّس وتتبع عورات الناس، وتحسُّس أفعالهم وأقوالهم، وحذَّر أيَّما تحذيرٍ من الإقدام على أيٍّ من هذه الأفعال، حتى وإن كان الهدفُ إنكارَ المنكر؛ لما في ذلك من تعدٍّ على حُرمة الآخرين، وإفسادٍ للعلاقات الطيِّبة بينهم، وجلبٍ للكراهية والبغضاء، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، والمعنى: لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك، كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القُرطُبي (10/ 257، ط. دار الكتب المصرية).
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات: 12]، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، كما في "جامع البيان" للإمام الطبري (22/ 304، ط. مؤسسة الرسالة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُم وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا» أخرجه الإمامان: البخاري واللفظ له، ومسلم. ولهذا عدَّ الإمامُ الحافظُ الذهبي في كتابه "الكبائر" (ص: 159، ط. دار الندوة الجديدة) "الكبيرة الثانية والأربعون: التسمع على الناس وما يسرون" من جملة الكبائر التي توعد الله تعالى مرتكبها بالعقاب.
بل قد شدَّد الشرع الشريف في التحذير من التجسس، والخوض في أعراض الناس والتنقيب عن عوراتهم، مبينًا أن من اعتاد ذلك عرَّض نفسه للفضيحة، إذ يفضحه الله تعالى ولو كان في جوف بيته، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُؤذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُم، وَلاَ تَطلُبُوا عَورَاتِهِم؛ فَإِنَّهُ مَن طَلَبَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ طَلَبَ اللهُ عَورَتَهُ حَتَّى يَفضَحَهُ فِي بَيتِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد واللفظ له، والطبراني في "المعجم الأوسط".
كما حذَّر الشرع من التطلع إلى ما كل ما يخص المسلم من مكتوبٍ أو نحو ذلك دون إذن صاحبه، فجاء الوعيد الشديد لمن تعمد ذلك، سواء أكان بالنظر أو بالاستماع، حتى عُدَّ ذلك في كلام بعض أهل العلم نوعًا من السرقة.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَستُرُوا الجُدُرَ، مَن نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذنِهِ فَإِنَّمَا يَنظُرُ فِي النَّارِ» أخرجه الأئمة: أبو داود، والطبراني، والحاكم وصححه.
قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 147-148، ط. المكتبة العلمية): [هذا تمثيلٌ: أي كما يَحذَر النارَ فليَحذَر هذا الصنيع. وقيل: معناه: كأنما ينظر إلى ما يُوجِبُ عليه النارَ. ويحتمل أنه أراد عقوبة البصر؛ لأن الجناية منه، كما يعاقب السمع إذا استمع إلى حديث قومٍ وهُم له كارهون، وهذا الحديث محمولٌ على الكتاب الذي فيه سرٌّ وأمانةٌ يَكرَهُ صاحبُهُ أن يُطَّلَعَ عليه. وقيل: هو عامٌّ في كل كتاب] اهـ.
وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ استَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَومٍ وَهُم لَهُ كَارِهُونَ، أَو يَفِرُّونَ مِنهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيَامَةِ» أخرجه الإمام البخاري.
قال الإمام ابن هبيرة الشيباني في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 196، ط. دار الوطن): [المستمع إلى حديثِ مَن لا يُحِبُّ استماعَهُ سارقٌ، إلا أنه لم يسرق بتناول دراهم فكانت تُقطَعُ، ولكنه تناول ذلك عن باب السمع فَصُبَّ فيه الآنُك، والآنُك: نوعٌ من الرصاص فيه صلابة] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 679، ط. دار الحديث): [والحديث دليل على تحريم استماع حديث من يكره سماع حديثه، ويُعرف بالقرائن أو بالتصريح] اهـ.