دعاوى أمام مجلس الدولة والدستورية العليا تفتح النار على قانون تجاوز عمره سبعين عامًا
الحكومة تتحدث عن «بدائل سكنية».. والمستأجرون: الإصلاح لا يعنى الطرد والتشريد
 

تعيش الساحة القانونية والاجتماعية فى مصر هذه الأيام أجواء غليان غير مسبوقة، بعد أن تصاعدت وتيرة المواجهة بين ملاك العقارات القديمة والمستأجرين، على خلفية دعاوى قضائية متتالية أمام مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، تطالب بإعادة النظر فى قانون الإيجار القديم الذى يصفه الملاك بـالقانون الجائر الذى صادر حقوقهم لعقود طويلة.

. فى وقتٍ تشتعل فيه الأسعار وتختنق الطبقة الوسطى، تعود قضية الإيجار القديم لتُشعل فتيل أزمة جديدة بين الملاك والمستأجرين، معركة تقترب من الانفجار بعد أن تحولت ساحات القضاء إلى ميادين صراع طبقى يختلط فيها الحق بالوجع، والقانون بالعجز الحكومى..

»الوفد» يواصل كشف الحقائق فى الملف الشائك لترصد المواجهة بين طرفى الصراع، فالملاك يرون أن الوقت قد حان لإنهاء ما يسمونه بالظلم التاريخى، مؤكدين أن استمرار القانون بصيغته الحالية يعنى بقاء آلاف الوحدات مغلقة بلا فائدة، بينما يتكبدون الخسائر ويحرمون من أبسط حقوق الملكية. وذهب بعضهم إلى القول إن القانون لم يعد سوى قنبلة موقوتة تهدد السلم الاجتماعى وتعطل العدالة الدستورية، فى المقابل يعيش المستأجرون حالة ذعر وغضب مكتوم، محذرين من أن أى تعديل جذرى فى القانون سيؤدى إلى تشريد مئات الآلاف من الأسر التى لا تملك مأوى بديلًا، مؤكدين أن الدولة ملزمة بحمايتهم من غول السوق العقارى ومنطق من لا يملك يُطرد، وبين هذا وذاك تحول الملف إلى حرب كلامية ساخنة على المنابر الإعلامية ومواقع التواصل، بين من يرفع شعار «الحق لأصحابه» ومن يتمسك بالاستقرار الاجتماعى كأولوية وطنية، القضية لم تعد مجرد خلاف قانونى، بل صراع طبقى واجتماعى مكتمل الأركان، يكشف حجم الفجوة بين المالك والمستأجر، وبين من يملك العقار ومن لا يملك سوى سقف يؤويه هو وأسرته.. الخبراء يؤكدون أن ما يجرى هو أخطر مواجهة فى تاريخ العلاقة بين المالك والمستأجر، وأن الحكم المنتظر من المحكمة الدستورية فى الدعاوى المنظورة قد يكون زلزالًا تشريعيًا يعيد رسم خريطة السكن فى مصر من جديد.. الدعاوى القضائية أمام مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا لم تعد مجرد أوراق قانونية، بل صرخة عدالة مؤجلة منذ نصف قرن، الملاك يطالبون بحقهم فى استرداد الشقق المغلقة التى تحولت إلى مقابر أسمنتية لا يسكنها أحد، والمستأجرون يتمسكون بحق الاستقرارفى وجه طوفان الطرد والتعويض، وبين هذا وذاك، تلتزم الحكومة صمتًا مريبًا وكأنها تراقب معركة تشتعل على أبوابها دون تدخل، تاركة الشارع يغلى والقلوب تغلى أكثر.


ممثل ملاك العقارات القديمة: 
حقوقنا ضاعت بين القوانين البالية والبيروقراطية الحكومية
  الدولة مطالبة بتوفير وحدات سكنية بديلة حتى لا يتحول القانون الجديد إلى قنبلة موقوتة


قال مصطفى عبدالرحمن رئيس ائتلاف ملاك عقارات الايجار القديم فى تصريح خاص لـ«الوفد» إنه تقدم بدعوى أمام مجلس الدولة، لإثبات أحقية الملاك فى الشقق المغلقة، من خلال حصولهم على إفادات من شركات المياه والكهرباء والغاز، تثبت غلق الوحدة المستأجرة أو امتلاك المستأجر لوحدة بديلة، والدعوى المقامة من الملاك ضد كل من رئيس مجلس الوزراء، وزير الكهرباء، وزير البترول، ووزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، كل بصفته، لإلزام شركات الكهرباء والغازو مياه الشرب بإتاحة للملاك البيانات اللازمة لـ إثبات الوحدات المغلقة أو وحدات أخرى، وأكد أن الإدارات الحكومية المختصة بالمرافق تتعنت فى تسهيل الحصول على البيانات اللازمة لإثبات أن الوحدات مغلقة، أو أن المستأجر يمتلك وحدة بديلة، حسب قوله.
وأضاف رئيس ائتلاف الملاك أن صعوبة حصول المالك على بيانات المرافق للوحدات، سوف يتسبب فى إفشال تعديلات قانون الإيجار القديم بعد أن حققت الدولة المصرية إنجازًا تاريخيًا حسب قوله، وبالتالى سوف يستمر ضياع حقوق ملايين من الملاك، بعد أن أنصفهم القانون الجديد وأنهى عقودًا من الظلم، وطالب «عبد الرحمن» بإلزام شركات المرافق، بتسهيل حصول الملاك على بيانات عدادات المرافق لإنفاذ القانون والحصول على حقوقهم، مشيرًا إلى أن القرار الصادر من وزارة الكهرباء رقم  8٦ لسنة 2005 ينص على حق مالك العقار والمنتفع فى الحصول على بيانات التوصيلات الخاصة بهم، وتنص المادة 7 من قانون الإيجارات الجديد رقم 164 لسنة 2025، على انتهاء العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر فى حالتين هما: ترك المستأجر أو من امتد إليه العقد للمكان المؤجر لمدة تزيد عن سنة دون مبرر، أو امتلاك المستأجر أو من امتد إليه العقد لوحدة سكنية أو غير سكنية قابلة للاستخدام.
وحول القضايا المرفوعة فى المحكمة الدستورية التى تطالب ببطلان بعض مواد قانون الايجار القديم قال ممثل ملاك العقارات القديمة ان لدينا قضاء شامخا ومن حق كل متضرر من القانون اللجوء للقضاء لكن لا بد ان نراعى ان القانون 164 لسنة 2025 استوفى كل الخطوات اثناء التعديلات من حيث تقديم الحكومة لمشروع لمجلس النواب الذى قام بدوره وعرضه على اللجان المتخصصة على مدار شهر تقريبًا وتم التصويت عليه من الأغلبية والمعارضة وقوفًا بما يعنى رضاء تاما من ممثلى الشعب فى 2/7/2025 بعدها تم التصديق عليه من رئيس الجمهورية فى 4/8/2025 بعدها أصدرت رئاسة الوزراء عدة قرارات من ضمنها توفير السكن البديل على منصة مصر الرقمية وسوف يتم الطرح فى مكاتب البريد وعددها 500 مكتب حتى لا يكون هناك تكدس على مكاتب البريد على مستوى الجمهورية.
وبخصوص الشقق الأكثر جدلا يواصل قائلا: هى شقق الشخصيات العامة وعلى الدولة مراعاة ذلك فى التخصيص من السكن البديل، وانه بعد التصديق على القانون ظهرت بعض الفنانين امثال الفنانة نبيلة عبيد والفنانة شمس البارودى والاعلامى مصطفى بكرى والصحفى محمود سعد وآخرون عبروا عن غضبهم من فترة التحرير السبع سنوات، لذلك شددت الدولة على الاولوية للسكن البديل من خلال منصة مصر الرقمية ومكاتب البريد، وأوضح أنه يحق للمالك استرداد الوحدة فى حالة الوفاة ولم يكن معه زوجته أو احد ابنائه بشرط اقامة مستقرة لمدة عام وفى حالة وفاة المستأجر ولم يكن معه احد تعود الوحدة للمالك فورًا. مشيرًا إلى إن الحكومة وعدت بتطبيق منظومة رقمية متكاملة لحصر الوحدات المؤجرة وتحديد المستحقين للسكن البديل بعد تطبيق قانون الإيجار القديم مباشرةً، مؤكدا أن الملاك يرحبون بأى حلول متوازنة تضمن حق السكن للفقراء، بشرط ألا تأتى على حساب حق الملكية، مشيرا إلى أن الدولة يجب أن تفى بوعودها بشأن توفير وحدات بديلة عبر مشروعات الإسكان الاجتماعى، حتى لا يتحول القانون الجديد إلى قنبلة اجتماعية موقوتة.

ممثل المستأجرين:  
قانون الإيجار القديم فى صورته الحالية «طعنة فى قلب العدالة الاجتماعية»
القانون مؤامرة تشريعية لصالح الأثرياء ومواده تتعارض مع حق الأمان السكنى

من جهة أخرى، قال المستشار محمود عطيه المحامى بالنقض ومنسق ائتلاف مصر فوق الجميع ممثلا عن المستأجرين فى تصريح خاص لـ«الوفد» فى تعليق له على الدعوى المقدمة من ملاك الإيجار القديم للمطالبة بالشقق المغلقة أولًا، يجب التأكيد على أن العلاقة الإيجارية تخضع لأحكام القوانين الخاصة المنظمة لعقود الإيجار، وأبرزها: القانون رقم 49 لسنة 1977 بشأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر والقانون رقم 136 لسنة 1981 بشأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن، مشيرًا إلى أن العلاقة الإيجارية تنشأ بعقد، ولا يجوز إنهاؤها إلا بناءً على الحالات التى نص عليها القانون أو بحكم قضائى،
 ثانيًا الشقق المغلقة وامتلاك المستأجر لوحدة بديلة وإثبات أن الشقة مغلقة لا يعنى تلقائيًا أحقية المالك فى استردادها، إلا إذا كانت مغلقة ولمدة طويلة دون استخدام فعلى، وثبت ذلك بأدلة واضحة (مثل فواتير مرافق منعدمة الاستخدام لفترة طويلة)، وأضاف رئيس ائتلاف مصر فوق الجميع أن القانون ينص صراحة على أنه إذا ثبت أن المستأجر أو زوجته أو أولاده القُصّر يمتلكون وحدة صالحة للإقامة فى ذات المدينة، فإن ذلك قد يبرر إنهاء العلاقة الإيجارية، ولكن لا يكون ذلك تلقائيًا، بل يتطلب حكمًا قضائيًا بعد تقديم الأدلة الكافية، وأن فواتير الكهرباء والماء والغاز قد تُستخدم كقرائن على غلق الوحدة أو عدم استخدامها، لكنها لا تكفى وحدها لإثبات الإخلاء أو فسخ العقد، مؤكدا أن المحكمة تنظر إلى مجمل الظروف والوقائع، وليس مجرد انخفاض أو انعدام الاستهلاك فى فترة معينة، قال «عطية» إنه فى حالة الدعوى أمام مجلس الدولة يعنى أن المدعى يطعن على قرار إدارى، أو يطالب بإثبات حالة معينة تجاه جهة إدارية (مثل شركات المرافق). وانتهى قائلا إن هذه الدعوى لا تُنهى العلاقة الإيجارية بذاتها، بل قد تستخدم لجمع مستندات تُقدم لاحقًا أمام محكمة الموضوع المختصة بفسخ عقد الإيجار.
أكد ممثل اتحاد المستأجرين أن قانون الإيجار القديم فى صورته التى أقرها البرلمان وصادق عليها الرئيس هو قانون ظالم ومفصل على مقاس كبار الملاك والمستثمرين العقاريين، ويمثل «طعنة فى قلب العدالة الاجتماعية» التى كفلها الدستور، وأضاف ان القانون الحالى لم يراعِ البعد الإنسانى ولا الاجتماعى، وتم تمريره تحت ضغط لوبى المال والعقار، دون حوار مجتمعى حقيقى، والحكومة تجاهلت ملايين الأسر التى لا تملك سوى هذه الشقق كمأوى وحيد لها، وقررت ببساطة أن ترفع عنها الحماية وتتركها فريسة لجشع السوق، مضيفا «نحن نعتبر القانون مهددًا بالبطلان الدستورى، لأن مواده تتعارض مع نصوص الدستور الواضحة التى تنص على حماية السكن كحق أساسى للمواطن، وتمنع الإخلاء القسرى دون توفير بديل. لذلك، الدعاوى المقدمة أمام المحكمة الدستورية  تمثل أملنا الأخير فى إنقاذ مئات الآلاف من الأسر من التشريد. مشيرًا قائلا: «نحن لا ندافع عن الإيجار الرمزى، بل عن الحق فى الأمان السكنى. القانون فى صورته الحالية ليس إصلاحًا، بل مؤامرة تشريعية لصالح الأثرياء. وسنواجهه قانونيًا فى الدستورية، وسيعلم الجميع أن العدالة لا تكتب فى البرلمان فقط، بل تنتزع من ساحات القضاء».
وأضاف المستشار محمود عطيه أن الطعون المقدمة أمام المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الإيجار القديم ليست مجرد تحركات شكلية، بل تحمل وجاهة قانونية حقيقية يمكن أن تفتح الباب أمام إبطال جزئى لبعض المواد المثيرة للجدل، خصوصًا تلك المتعلقة بإخلاء المستأجرين دون توفير بدائل مناسبة، مضيفًا أن المحكمة الدستورية تنظر فى مدى توافق القانون مع مبادئ العدالة الاجتماعية وحق السكن الآمن المنصوص عليه فى المادة (78) من الدستور، والتى تلزم الدولة بضمان الحق فى السكن الملائم لكل مواطن، وهناك مواد فى القانون الجديد قد تفسر بأنها تميز فئة على حساب أخرى، وهو ما قد يضعها فى دائرة عدم الدستورية  فالقانون يجب أن يوازن بين حماية الملكية الخاصة وعدم المساس بالأمن الاجتماعى وإذا ثبت الإخلال بهذا التوازن، فالمحكمة الدستورية قد تتدخل لتعديل المسار.
وذكر ممثل المستأجرين أن محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة حددت جلسة 8 نوفمبر المقبل لنظر أولى جلسات الدعوى المقامة،  والتى طالب فيها بوقف تنفيذ وإلغاء تعديلات قانون الإيجار القديم رقم 164 لسنة 2025، بدعوى عدم دستوريتها ومخالفتها لمبدأ المساواة والحق فى السكن، وطالبت الدعوى بقبولها شكلًا، وبصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القانون رقم 164 لسنة 2025 بشأن بعض الأحكام المتعلقة بقوانين إيجار الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وبخاصة نص المادة الثانية التى نصت على أن تنتهى عقود إيجار الأماكن الخاضعة لأحكام هذا القانون لغرض السكنى بانتهاء مدة سبع سنوات من تاريخ العمل به، وذلك ما لم يتم التراضى على الإنهاء قبل ذلك، وأكد مقيم الدعوى أن تطبيق هذه المادة من شأنه أن يؤدى إلى طرد آلاف الأسر من مساكنها بعد انتهاء مدة السبع سنوات، دون توفير بدائل مناسبة أو حماية كافية للمستأجرين القدامى، وهو ما اعتبره مخالفة للدستور الذى يكفل حق المواطن فى السكن اللائق والآمن، واختتم تصريحه بالتأكيد على أن الملف لم يغلق فعليا رغم تصديق الرئيس، لأن ساحة القضاء الدستورى قد تعيد فتحه من جديد، قائلًا: البرلمان أنهى القانون سياسيًا، لكن المحكمة الدستورية قد تعيد صياغته قضائيًا، والقرار المنتظر سيكون له أثر بالغ على حياة ملايين المصريين.
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: قانون الإيجار القديم الحرب المالك والمستأجر مجلس الدولة الدستورية العليا بین المالک والمستأجر قانون الإیجار القدیم المحکمة الدستوریة العلاقة الإیجاریة الدستوریة العلیا أمام مجلس الدولة القانون الجدید الشقق المغلقة لسنة 2025 مشیر ا بعد أن على أن

إقرأ أيضاً:

السيسي والبرهان والضلال القديم

السيسي والبرهان والضلال القديم

د. النور حمد    

ليس غريبًا أن تقود استطالة أمد الحرب، وما تسببت فيه من تشريدٍ واسعٍ، ومن فقدانٍ للممتلكات، وفقدانٍ لسبل كسب لقمة العيش، ومن تشتيتٍ للأسر، ومن أمراضٍ متفشية، ومن جوعٍ مهلكٍ، ومن خرابٍ غير مسبوق، ومن انبهامٍ يلف الأفق، ومن ندوبٍ نفسيةٍ غائرةٍ، إلى أن يتعلق الناس ببارقات الأمل، مهما وهت.

وفي غمرة التشبُّث ببارقات الأمل تلك، تحت وطأة الضغوط الرهيبة التي شكَّلتها هذه الحرب، ربما ينسى الناس، أو يتناسون، معالم الدرب الذي قادهم إلى المأساة. فينزلقون مرَّةً أخرى في وجهة إعادة المأساة، دون تدبُّر.

وفي تقديري، أننا نقف الآن عند مفترق الطريق، الذي تقود شعبةٌ منه إلى وجهة تكرار المأساة، من جديد، في حين تقود الشعبة الأخرى منه إلى وجهة الخروج منها. وفي مثل هذه الأوضاع الرهيبة الضاغطة وفي هذه الأجواء من التضليل الإعلامي وضمور الوعي، غالبًا ما يسير الناس في وجهة تكرار المأساة. هذا هو الغالب على البشر في أزمنة التحولات.

الهدف الذي من أجله جرى إشعال هذه الحرب الكارثية، هو نسف أمن السودانيين الذين أنجزوا ثورة ديسمبر، التي هزمت طغيان الإخوان المسلمين، بسلميةٍ مدهشةٍ خلبت ألباب العالم. فاختار الطغاة الذين أوغرت الثورة نفوسهم المريضة أن ينسفوا أمن السودانيين، ومعاشهم، وكل تمثُّلات حياتهم التي ألفوا، وجعلهم معلَّقين في الهواء، حتى ينصاعوا مكرهين لعودة الطغاة الفاسدين المفسدين إلى السلطة. ولا ينبغي أن ننسى عبارة الجنرال الذي قال: “يا سودان بفهمنا، يا مافي سودان”. هذه العبارة، لا تزال هي نبراسهم الذي به يهتدون، ولن ينفكوا.

السيسي والبرهان

يظن البعض أن الرئيس السيسي مؤمنٌ تمام الإيمان بإعلان الرباعية. وأنه إنما استدعى الفريق البرهان ليقنعه بقبولها، كما هي. وربما لحمله على إرضاء الرباعية، بالتخلص من هيمنة الإخوان المسلمين. فهل السيسي مؤمنٌ حقًا بإعلان الرباعية الذي قضى، ضمن ما قضى، بعدم مشاركة الأطراف المتقاتلة في إدارة الفترة الانتقالية القادمة، وتركها بالكامل للمدنيين؟ لا، ومن يظن ذلك مخطئ في نظري. فالسيسي إنما يتظاهر بقبول خطة الرباعية، لإرضاء الدول الثلاث الأخرى. لكنه يتآمر مع الفريق البرهان لإغراقها في ذات الوحل الذي سبق أن أغرقا فيه ثورة ديسمبر، حتى وصلا إلى إشعال الحرب وتخريب السودان وتشريد أهله.

مما يؤكد مسعى السيسي والبرهان لإغراق الرباعية، خبرٌ منسوبٌ إلى صحيفة “أفق جديد”. يقول الخبر: أعلن قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن تشكيل لجنةٍ سياسيةٍ للترتيب لإطلاق عملية سياسية جديدة. وأن هذه العملية السياسية الجديدة تقوم على الحوار مع مكوناتٍ سياسيةٍ مدنيةٍ في مقدمتها تحالف “صمود”، بوصفه طرفًا مدنيًّا مستقلا. ثم، تمديد المشاركة لتشمل، أيضًا، القوى الموالية للدعم السريع، المتمثلة في تحالف “تأسيس”. وجاء في الخبر، أيضًا، أن هذه العملية تجري برعاية “الرباعية”، مع اتباع نهجٍ تدريجيٍّ يبدأ بوقف إطلاق النار، ثم حوارٍ شاملٍ حول شكل الدولة والدستور، ينتهي بترتيبات انتقالية جديدة. ولاحظوا هنا: أن الحوار يجري في البداية مع “صمود” ثم يجري تمديد المشاركة لتشمل قوى “تأسيس” المتحالفة مع الدعم السريع. فإبعاد تحالف تأسيس في البداية مقصودٌ وأرى أن وراءه غرضٌ خبيث.

ما يلفت النظر في هذا الخبر، أن الفريق البرهان هو الذي شكَّل هذه اللجنة، فبأي صفةٍ حصل على هذا الحق؟ ثم، من هم أعضاء هذه اللجنة السياسية، يا ترى؟ وهل لدى الفريق البرهان مستودعٌ سياسيٌّ ينتقي منه أفرادًا لأي لجنةٍ سوى مستودع الإخوان المسلمين، والمتحلِّقين حولهم من أصحاب الأغراض؟ يُضاف إلى ذلك، أن هذا الترتيب يمنح الفريق البرهان شرعيةً ليست له، إذ يجعل منه مركزًا للدولة وصاحب الشرعية الأوحد الذي يدير بتلك الصفة عمليةً سياسيةً لحلحلة مشاكل تسبب فيها، من وجهة نظره، متمردون على سلطته الشرعية، من المدنيين ومن حاملي السلاح. وهنا يتضح الغرض من الشعار الملغوم: “حوار سوداني سوداني”، الذي أطلقه البرهان والمصريون.

خطاب البرهان عقب عودته من مصر

دعونا نضيف إلى ما تقدم، ما ورد في الخطاب الذي ألقاه الفريق البرهان عقب عودته من لقائه مع السيسي. فقد بدأه بقوله: إن الحرب قامت بها جماعاتٌ متمردةٌ خرَّبت ودمَّرت ونهبت واغتصبت. فبربِّكم، هل هذه لغةُ ونبرةُ شخصٍ يسعى لتسويةٍ تحقق السلام؟ ألقى البرهان في خطابه هذا تهمة الزعزعة والنهب والتخريب على قوات الدعم السريع. ناسيًا أنه هو الذي قال لضياء الدين بلال، قبل إشعاله الحرب بأيام: إذا قامت الحرب في الخرطوم فسوف يحدث خرابٌ كبيرٌ وسلبٌ ونهب. ومع ذلك، أشعل هو وعصابته الحرب. فالنهب والسلب والتشريد والخراب وانعدام الأمن هو عين ما كانوا يسعون لحدوثه. وتطبيق يوتيوب مكتظٌّ بكل ما يدل على الجهة التي خططت للحرب، وأعدت لها عدتها، وأشعلتها. وقد عرف كثيرٌ من السودانيين، مؤخَّرًا، لماذا جرى تسريح الشرطة بكاملها مع بداية الحرب. ولماذا جرى تسريح عشرات الآلاف من عتاة المجرمين من السجون صبيحة إشعال الحرب. وعرفوا، كذلك، لماذا كان الجيش ينسحب من المدن دون قتال، ويتركها لقوات الدعم السريع، بعد أن يكون قد جهَّز فيها عصابات السلب والنهب والترويع، بعد منحهم زي الدعم السريع. فالبرهان والإخوان المسلمون وأجهزتهم الأمنية هم من هيأوا، عن قصدٍ وتصميم، الأجواء الملائمة لارتكاب الجرائم. والغرض هو زعزعة أمن الناس، لكي يرضخوا ويستكينوا لهم، وكذلك، تشويه صورة قوات الدعم السريع.

أيضًا قال الفريق البرهان في خطابه المريب هذا: نحن في القوات المسلحة ملتزمون بأن نسعى إلى إقامة فترةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ، يستطيع بعدها الشعب السوداني أن يؤسس دولته على أساس انتخابات حرة نزيهة، يختار فيها الشعب السوداني من يريد أن يحكمه. وأرجو أن نلاحظ عبارة: “فترة انتقالية حقيقية”، فهي تعني، في تقديري، فترةً انتقاليةً وفق ما يريد الجيش، ليس فيها سيطرة للمدنيين على الاقتصاد. وليس فيها مراجعة لشركات الجيش والمواعين التي خلقتها لتسهيل نهب موارد السودان، في الخفاء، لصالح النظام المصري. كما هي فترةٌ انتقاليةٌ ليس فيها “لجنة إزالة تمكين”، أو أي آلية للمحاسبة على الفساد وعلى الجرائم. وليس فيها قضاءٌ مستقلٌّ يلجأ إليه الناس. هي، باختصارٍ شديد، فترةٌ انتقاليةٌ يكون الوجود المدني فيها مثل وجود كامل إدريس في بورتسودان الآن.

إلى “تأسيس” و”صمود”

لقد كان إعلان الرباعية واضحًا، ولذلك تعلَّقت به أفئدة السودانيين الملكومين بفقدانهم حياتهم وبلادهم. لكن، من الواضح جدًّا أن السيسي والفريق والبرهان قد شرعا في العمل على إغراق ما رمت إليه الرباعية، وإعادة إنتاج الحالة التي سادت الفترة الانتقالية الموءودة (2019-2021). لذلك، فإنني أود أن ألفت نظر كلٍّ من “تأسيس” و”صمود” إلى أن تشرحا بدقةٍ وووضوحٍ وصراحةٍ للمستشار الأمريكي أهداف حلف السيسي والبرهان، وخطر ذلك السلبي على نجاح مهمته، إن أُسند الأمر برمته إلى السيسي. وكذلك، أن ترفضا، مبدئيًا، منح البرهان حق تكوين اللجنة السياسية. لأن ذلك يضعه في مركز الدولة ويضع معارضيه في هامشها، الأمر الذي يكفل له شرعيةً لا يستحقها أصلا.

ينبغي أن تكون لجنة الحوار مستقلةً، وأن يجري تشكيلها عبر مفاوضاتٍ أوَّليةٍ بين الأجسام الثلاثة معًا: “تأسيس” و”صمود” و”الجيش”، تحت إشرافٍ الرباعية بكاملها. كما أود لفت نظر “صمود” إلى ضرورة ألا تجلس مع البرهان وعصابته في غياب تأسيس. لأن المقصود من جلوسها وحدها في البداية هو عزل “تأسيس” لشق الكتلة الثورية المقاومة لهيمنة الجيش، بغرض إضعافها. كما أن الحرب الجارية في الميدان ليست بين “صمود” و”الجيش”، وإنما بين “قوات تحالف تأسيس” و”الجيش”. فـ “تأسيس” وجيشها هو ما يقلق السيسي والبرهان. وهو، من الجانب الآخر، ما سيضمن لـ “صمود” وضعًا تفاوضيًا قويا. “تأسيس”، بشقيها العسكري والمدني، هي ما يخصم عمليًّا من هيمنة الجيش ومليشياته، وهي ما ستجبرهما على المساومة، لأنها هي الممسكة بالأرض، وليست “صمود”.

الجيش هو الضامن لخطة إعادة الإعمار المصرية

راج في الوسائط الإعلامية قبل أيام خبرُ اعتقال المهندس عبد الغفار أحمد الأمين، الذي يعمل بهيئة الطرق والجسور، واقتياده من منزله إلى مكانٍ مجهول. والسبب هو كشفه عن تقديراتٍ مهولةٍ لصيانة جسري الحلفايا وشمبات تكفي، حسب قوله، لإنشاء ثلاثة جسورٍ جديدة. وقال إن الفريق الهندسي ‎المصري الذي زار السودان لم ينسق في زيارته مع جهات الاختصاص، وأن معاينته للجسور مع فريق سوداني ليس له أي ‎علاقة بهندسة الطرق والكباري. وأشار هذا المهندس إلى عمليات ‎فسادٍ واسعةٍ، قال إنها بدأت باستلام ‎أموالٍ من اللجان المختصة. وتمثل هذه الحادثة، في نظري، بداية ظهور قمة جبل الجليد لأضخم عملية فساد في التاريخ الحديث. وهي العملية المسماة “إعادة الإعمار”. فقد اتفق السيسي والبرهان، في مفاوضاتٍ سريةٍ، كشفها بوق المخابرات المصرية الصحفي الاقتصادي، محمد أبو عاصي، حيث قال: إن حكومة بورتسودان قد منحت مقاولة إعادة إعمار السودان بالكامل لمصر، وبلا منافسة من أي جهة أخرى. وقال إن كلفتها تتعدى 100 مليار دولار. وهذا مبلغٌ مهول يمكن أن يُسيل لعاب كبرى الشركات الأمريكية، مثال: نوثروب، ولوكهيد مارتن، ورايثون. ولا أعرف مقاولةً للإعمار بهذا الحجم، قد جرى منحها لجهةٍ واحدةٍ، دون مناقصة. باختصار شديدٍ، سوف يستميت الرئيس السيسي، الذي يسعى لكي تكون دفة الرباعية بيده وحده، في الإبقاء على البرهان في الفترة الانتقالية القادمة، حتى لا يعترض تلك الصفقة الضخمة أي شيء. وهي صفقةٌ سوف يجري دفع قيمتها من ذهب السودان وموارده الثرة، التي اعتادت مصر نهبها. هذا إلى جانب ما يأتي من عون لإعادة الإعمار من الأشقاء الخليجيين الذين وعدوا بذلك، ومن بقية دول العالم.

ختامًا، كل ما جاء في خطاب البرهان الذي نحن بصدده، يقول وبوضوحٍ شديد: إنه هو وعصابته باقون في الفترة الانتقالية القادمة، وهو ما سيجعل عودة الديمقراطية والحكم المدني: “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً”. ولذلك، علينا الامتثال لما صدح به الفنان الراحل، محمد الأمين، قبل عقودٍ طويلة: “اليقظةْ، الحذرْ، الاستعدادْ، الثورةْ طريقنا إلى الأمجاد”.

[email protected]

الوسومإعادة الإعمار البرهان الجسور الجيش الحرب الدعم السريع الرباعية الدولية السودان السيسي بورتسودان تأسيس ثورة ديسمبر د. النور حمد صمود مصر

مقالات مشابهة

  • السيسي والبرهان والضلال القديم
  • كيفية الحصول على شقق الإسكان البديل لمستأجري الإيجار القديم
  • اقتراع المغتربين يشعل مجددًا معركة قانون الانتخابات اللبنانية.. هل من أفق؟!
  • الحرب انتهت فعلاً.. بشكلها القديم طبعاً
  • المرة الرابعة.. موعد تطبيق زيادة الإيجار القديم لغير السكني
  • البرلمان البرتغالي يوافق على مشروع قانون يحظر غطاء الوجه
  • أوروغواي تُقر القتل الرحيم لأول مرة في أمريكا اللاتينية وسط اعتراضات
  • القانون يحميهم.. حقوق وفرص عمل مضمونة لذوي الإعاقة
  • طي صفحة تعديل قانون الانتخاب حكوميا والعدو يشعل ليل الجنوب بصواريخ ثقيلة