حكم تهرب الزوج من الإنفاق على بيته وتحميل المسؤولية للزوجة؟..الإفتاء تجيب
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا تقول صاحبته : ما حكم تهرب الأب من البيت؛ حتى لا يتحمل مسؤولية الإنفاق على الزوجة والأولاد، وتربيتهم كذلك، ملقيًا بالمسؤولية كاملةً على الزوجة؟.
وأجابت الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: تهرب الأب من البيت متخليًا عن مسؤولياته المادية والمعنوية يترتب عليه في حقه إثمٌ شرعي؛ فمن واجباته الشرعية نفقةُ الزوجة وأولاده القُصَّر بأنواعها الثلاثة: المأكل، والملبس، والمسكن.
وتابعت: إذا قصَّر في ذلك صارت هذه النفقة -التي هي بقدر الكفاية- دَينًا عليه في ذمته من وقت التقصير والامتناع، وللزوجة حينئذٍ أن تطلب من القاضي فرض نفقتها ونفقة أولاده القصر على زوجها، وإن ثبت إعساره أذن لها القاضي بالاستدانة من الغير على حساب زوجها ويصير ذلك دينًا في ذمة الزوج.
شرع الله تعالى الزواج لِحِكَمٍ سامية منها: إعفاف النفس، وتحصيل الذرية الصالحة، وحتى تستكمل البشرية مسيرتها التي قدرها الله تعالى لها في الحياة الدنيا، فيقوم الإنسان بخلافة الله تعالى في الأرض، ويعمرها بطريقة واضحة آمنة غير محرمة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
وقال العلامة البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (4/ 204، ط. دار إحياء التراث العربي): [لتميلوا إليها وتألفوا بها.. بخلاف سائر الحيوانات؛ نظمًا لأمر المعاش، أو بأن تعيش الإِنسان متوقف على التعارف والتعاون المُحوِج إلى التوادِّ والتراحم، وقيل: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد] اهـ.
الترغيب في الزواج وبيان معنى قوامة الرجال على النساء
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث ترغِّب في الزواج؛ منها ما رواه ابن ماجه في "سننه" عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ».
ولا شك أنَّ كلا الزوجين عليهما مسؤولية تجاه بعضهما البعض، ومسؤولية تجاه أبنائهما كذلك؛ فقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مسؤولةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ».
والقوامة التي جعلها الله تعالى للرجل على المرأة في قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34] إنما هي: قيامه بالنفقة والرعاية؛ قال العلامة القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 168، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ ابتداء وخبر؛ أي: يقومون بالنفقة عليهن، والذب عنهن] اهـ.
وجوب نفقة الزوج على زوجته وأبنائه ونصوص الفقهاء في ذلك
وأوجب الله تعالى للأبناء على الأب حقوقًا منها: النفقة عليهم، ورعايتهم، وتعهدهم بالتربية والنصح، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233]؛ قال العلامة فخر الدين الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (3/ 62، ط. بولاق): [والمولود له هو الأب فأوجب الله تعالى عليه رزق النساء لأجل الأولاد، فلأن تجب عليه نفقة الأولاد بالطريق الأولى] اهـ. وقد أوجب الله تعالى عليه كذلك الأجرة لإرضاع الأبناء؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطَّلاق: 6]، وهذا يقتضي وجوب مؤنتهم والإنفاق عليهم.
الحجز على أموال الزوج وحبسه في حالة الامتناع عن دفع النفقة للزوجة والأبناءوأجاز الشرع الشريف للمرأة التي لا ينفق عليها زوجها أن تأخذ ما يكفيها وولدها، وأن تتقي الله فلا تأخذ إلا ما هو حد الكفاية بلا زيادة؛ لأنها مؤتمنةٌ على هذا المال، وراعية في بيت زوجها كما تقدم، وقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنَّ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله! إنَّ أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
وقد اتفق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على وجوب إنفاق الزوج على أبنائه المباشرين؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي في "الهداية" (4/ 414، ط. دار الفكر): [ونفقة الصغير واجبة على أبيه وإن خالفه في دينه؛ لأنه جزؤه فيكون في معنى نفسه، وتجب النفقة على الأب إذا لم يكن للصغير مال، أما إذا كان فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه صغيرًا كان أو كبيرًا] اهـ.
وقال العلامة القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" (1/ 937، ط. المكتبة التجارية): [تلزم الرجلَ نفقةُ ولده الصغير إذا كان فقيرًا] اهـ.
وجاء في "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 446، ط. دار الفكر): [يلزمه -أي: الشخص ذكرًا كان أو غيره- نفقة الوالد الحر وإن عَلَا من ذكرٍ أو أنثى، والولد الحر وإن سفل من ذكرٍ أو أنثى] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (8/ 212، ط. مكتبة القاهرة): [وأجمع كلُّ مَن نحفظ عنه من أهل العلم، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم. ولأن ولد الإنسان بعضه، وهو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله. إذا ثبت هذا، فإن الأم تجب نفقتها] اهـ.
وعليه: فإن نفقة الزوجة والأبناء واجبةٌ على الزوج، ويجب عليه القيام بجميع ما يحتاجونه من نفقةِ طعامٍ وكسوةٍ وغير ذلك بحسب العرف لأمثالهم على مثله؛ فإذا قصَّر في ذلك صارت هذه النفقة دَينًا عليه في ذمته من وقت التقصير والامتناع، خاصةً إذا قضى بذلك القاضي أو حصل بتراضي الزوجين عند الحنفية؛ قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (4/ 28، ط. دار الكتب العلمية): [إذا فرض القاضي لها نفقةً كل شهرٍ أو تراضَيًا على ذلك ثم منعها الزوج قبل ذلك أشهرًا -غائبًا كان أو حاضرًا- فلها أن تطالبه بنفقة ما مضى؛ لأنها صارت دينًا بالفرض أو التراضي] اهـ.
وعند الشافعية والحنابلة تصير دينًا في ذمة الزوج من غير حاجةٍ إلى قضاءٍ ولا رضًا من الزوج؛ قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (8/ 335، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [إذا (أعسر) الزوج (بها) أي: النفقة (فإن صبرت) زوجته ولم تمتعه تمتعًا مباحًا (صارت) كسائر المؤن ما عدا المسكن لما مَرَّ أنه إمتاع (دينًا عليه)، وإن لم يفرضها قاض؛ لأنها في مقابلة التمكين] اهـ.
وبها أخذ قانون الأحوال الشخصية المصرية؛ فقد نصت المادة رقم 1 في القانون رقم 100 لسنة 1985م على أنه: [تجب النفقة للزوجة على زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلمت نفسها إليه ولو حكمًا حتى لو كانت موسرة أو مختلفة معه في الدين. ولا يمنع مرض الزوجة من استحقاقها للنفقة. وتشمل النفقة الغذاء والكسوة والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك بما يقضي به الشرع.. وتعتبر نفقة الزوجة دينًا على الزوج من تاريخ امتناعه عن الإنفاق مع وجوبها، ولا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء] اهـ.
كما شَرَعَ الشَرْعُ الشريف ما يجبره على الأداء والقيام بهذه الحقوق؛ فأجاز عقوبته بالحجز على أمواله أو حبسه، جاء في "المبسوط" للعلامة السرخسي (5/ 187، ط. دار المعرفة): [وإن كان القاضي لا يعلم من الزوج عسره فسألت المرأة حبسه بالنفقة لم يحبسه القاضي في أول مرة؛ لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم، ولم يظهر حيفه وظلمه في أول مرة فلا يحبسه، ولكن يأمره بأن ينفق عليها، ويخبره أنه يحبسه إن لم يفعل، فإن عادت إليه مرتين أو ثلاثًا حبسه] اهـ.
كما جاء في المرجع السابق (5/ 224): [وإذا امتنع الأب من الإنفاق على أولاده الصغار حبس في ذلك، بخلاف سائر الديون فإن الوالد غير محبوس فيه؛ لوجهين: أحدهما: أن النفقة لحاجة الوقت فهو بالمنع يكون قاصدًا إلى إتلافه، والأب يستوجب العقوبة عند قصده إلى إتلاف ولده، كما لو عدا عليه بالسيف كان له أن يقتله دفعًا له بخلاف سائر الديون] اهـ.
مسؤولية الأب تجاه أولاده وحقوقهم عليه
مسؤولية الأب تجاه أولاده ليست هي الإنفاق فحسب، وإنما تشمل وجوب التربية والمتابعة كوجوب النفقة سواء بسواء، فيجب على الوالد أن يقوم بتربية أولاده ورعايتهم جسميًّا وعلميًّا، وأن يتعاهدهم بالأخلاق والقيم النبيلة، وتعليمهم الحلال والحرام، ويوفر لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية؛ قال العلامة ابن الحاج في "المدخل" (4/ 295، ط. دار التراث): [قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتاب "مراقي الزلفى" له: اعلم أن الصبي أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ ساذجةٌ خاليةٌ عن كل نقش وصورة، وهو قابلٌ لكل نقشٍ وقابلٌ لكل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخيرَ وعُلِّمَهُ نشأ عليه وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، يُشاركه في ثوابه أبواه وكل مُعَلِّمٍ له ومُؤَدِّب، وإن عُوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شَقِيَ وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم به والولي عليه، وقد قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ومهما كان الأب يصونه من نار الدنيا، فينبغي أن يصونه من نار الآخرة وهو أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من القرناء السوء] اهـ.
ولا شك أنَّ هذه الواجبات التي يتحملها الزوج تجاه أسرته زوجةً وأبناءً، إنفاقًا وتربيةً وحمايةً تقتضي بذل الجهد في تحقيق ذلك، وهي مقاصد جليلة، وتشريعات محكمة تحقق تماسك المجتمع، وتحافظ على نسيج الأسرة متماسكًا في الروابط والصلات بين أفراده ومكوناته، فإذا قصَّر صاحب هذه المسؤولية الجسيمة ولم يقم بما أمره الله تعالى به يكون عاصيًا لله تعالى؛ لما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن الحسن قال: "عاد عبيدُ الله بن زياد معقلَ بن يسار المُزنيّ في مرضه الذى مات فيه فقال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لو علمت أنَّ لي حياةً ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الزوج الزوجة الابناء تربية الأبناء الانفاق رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قال العلامة الله تعالى على الزوج قال تعالى ا علیه فی ذلک
إقرأ أيضاً:
ما ضابط الإسراع الذي يؤثر على صحة الصلاة؟.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه: ما ضابط الإسراع الذي يؤثر على صحة الصلاة؟ حيث يقوم أحد المصلين بالإسراع في صلاته، وعندما قمت بالتنبيه عليه بأن هذا الإسراع يُخلّ بصحة الصلاة، قال بأن هذا من قبيل التخفيف ولا يُخلّ بصحة الصلاة؛ فنرجو منكم بيان ضابط الإسراع الذي يُؤثِّر على صحة الصلاة.
وقالت الإفتاء فى إجابتها عن السؤال: إن الإسراعُ الذي يؤثِّر على صحة الصلاة هو أن يأتي المُصَلّي بالركن من غير أن يستقرّ فيه، وهذا الاستقرار يسميه الفقهاء بالطمأنينة، وهي: استقرار الأعضاء زَمَنًا قليلًا في أداء جميع أركان الصلاة، وذلك كأن يطمئن المصلي في ركوعه وسجوده زمنًا يتَّسِع لقوله: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، أو (سبحان ربي الأعلى) في السجود- مرة واحدة على الأقل، فإذا أتى بالركن واستقرّت أعضاؤه وسكنت بقدر الطمأنينة فإن ذلك يُجزئه، ولا يكون إسراعًا مخلًّا بصحة الصلاة أو مُبطلًا لها.
فضل المحافظة على أداء الصلاة بإتمام أركانها وسننها
مَدَح الله تعالى مَنْ أَحْسَن أداء الصلاة بأن أتَمَّ أركانها وحافظ على سننها؛ فقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1-2].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا قَالَتِ الصَّلَاةُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي فَتُرْفَعُ، وَإِذَا أَسَاءَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا قَالَتِ الصَّلَاةُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي فَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ» أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده".
قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 249، ط. المكتبة التجارية الكبرى) عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قَالَتِ الصَّلَاةُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي»: [أي: حِفظًا مثل حفظك لي بإتمام أركاني وكمال إحساني بالتأدية بخشوع القلب والجوارح، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل، فكما حَفِظ حدود الله تعالى فيها قابَلته بالدعاء بالحفظ] اهـ.
حكم الاطمئنان في الصلاة ومقداره
الاطمئنان في الصلاة هو: استقرار الأعضاء زَمَنًا قليلًا في أداء جميع أركان الصلاة، وذلك كأن يطمئن المصلي في ركوعه وسجوده زمنًا يتَّسِع لقوله: سبحان ربي العظيم في الركوع، أو سبحان ربي الأعلى في السجود مرة واحدة على الأقل، -وإن كانت السُنَّةُ أن يسَبِّح ثلاثًا على الأقل. وهو –أي: الاطمئنان- ركنٌ من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأبي يوسف من الحنفية، وتَبْطُل الصلاة بدونه.
قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 162، ط. دار الكتب العلمية): [قال أبو يوسف: الطمأنينةُ مقدار تسبيحة واحدة فرضٌ، وبه أخذ الشافعي] اهـ.
وقال الشيخ الدردير في "الشرح الصغير" (1/ 303-316، ط. دار الفكر): [(فرائض الصلاة) أربع عشرة فريضة.. (و) ثاني عشرها: (طمأنينة) وهي: استقرار الأعضاء زمنًا ما، في جميع أركانها] اهـ.
قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 316، ط. دار الفكر): [اعلم أن القول بفرضيتها صححه ابن الحاجب، والمشهور من المذهب أنها سنة] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 365، ط. دار الكتب العلمية): [ويشترط في صحة الركوع أن يكون (بطمأنينة)؛ لحديث المسيء صلاته المتقدم، وأقلها أنْ تستقر أعضاؤه راكعًا (بحيث ينفصل رفعه) من ركوعه (عن هَويه) أي: سقوطه فلا تقوم زيادة الهَوي مقام الطُمأنينة (ولا يقصد به) أي: الهويّ (غيره) أي: الركوع قصده هو أم لا كغيره من بقية الأركان؛ لأن نية الصلاة منسحبة عليه، (فلو هوى لتلاوة فجعله ركوعًا لم يكف)؛ لأنه صرفه إلى غير الواجب، بل ينتصب ليركع] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 387، ط. دار الكتب العلمية): [(و) التاسع من أركان الصلاة (الطمأنينة في هذه الأفعال) أي: في الركوع والاعتدال عنه والسجود والجلوس بين السجدتين.. (بقدر الذكر الواجب لذاكره ولناسيه بقدر أدنى سكون، وكذا) في أدنى سكون (لمأموم بعد انتصابه من الركوع؛ لأنه لا ذكر فيه)] اهـ.
الدليل على ركنية الطمأنينة في سائر أركان الصلاة
يدل لركنية الطمأنينة في سائر أركان الصلاة ما رواه الشيخان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلَّى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فردّ وقال: «ارجَعْ فَصَلِّ؛ فَإنَّك لَمْ تُصَلِّ»، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «ارجَعْ فَصَلِّ؛ فَإنَّك لَمْ تُصَلِّ» ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحسن غيره، فعلِّمني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا».
فالحديث ظاهر الدلالة في كون الطمأنينة ركنًا في أداء سائر أركان الصلاة، وفي ذلك يقول العلامة ابن بطال في "شرحه لصحيح البخاري" (2/ 409، ط. مكتبة الرشد): [استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا: الطمأنينة في الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة مَن لم يرفع رأسه، ويعتدل في ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا ترى أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «ارجَعْ فَصَلِّ؛ فَإنَّك لَمْ تُصَلِّ»، ثم علَّمه الصلاة وأمره بالطمأنينة في الركوع والسجود] اهـ.
ضابط الإسراع الذي يؤثر على صحة الصلاة
إسراع المُصَلّي في صلاته مع حفاظه على الطمأنينة في تأدية أركان الصلاة لا يخلّ بصحتها، ويؤيّد هذا أنّ صلاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت تخفيفًا؛ فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً، وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم».
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2/ 386، ط. دار الوفاء): [الحديث يدل أنَّ بعضَها أكملُ من بعض، وأنه لم يكن في بعض أركانها طُول عن غيره متباين جدًا، وهذا -والله أعلم- في آخر عمله في الصلاة، وعلى هذا يحمل حديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه: "ثم كانت صلاته بعد ذلك تخفيفًا"] اهـ.
وقد ذمَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ صَلَّى مُسْرِعًا دون الحفاظ على الخشوع والطمأنينة والأذكار فقال فيما رواه مسلم في "صحيحه": «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا».
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (5/ 124، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» تصريح بذم مَن صلَّى مسرعًا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار، والمراد بالنقر: سرعة الحركات كنقر الطائر] اهـ.
وأوضحت بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: ان الإسراعُ المُبطِل للصلاة هو ما يُخل بالطمأنينة في أداء أركانها، كأن لا يستقرّ المُصَلّي في ركوعه أو سجوده ولو قَدْر تسبيحة، فإذا أسرع المُصَلّي في صلاته غير مُخِلٍّ بطمأنينتها على النحو المشار إليه فصلاته صحيحة، ولا شيء عليه.