لندن – في وقت تنحرف فيه توجهات الناخبين الأوروبيين بشكل لافت باتجاه التصويت للأحزاب اليمينية الشعبوية، انحاز الأيرلنديون لمرشحة رئاسية ليست فقط محسوبة على تيار أقصى اليسار، بل سياسية متمردة على النظام السياسي التقليدي الذي يصنع السياسات العامة في البلاد لعقود.

وبهامش فوز كبير، استطاعت المحامية السابقة كاثرين كونولي أن تقدم نموذجا ملهما لنائبة مستقلة انفلتت من حسابات الضوابط الحزبية وقفزت من موقعها على هامش العمل البرلماني دون دعم حزبي قوي، لتصبح أحد أبرز الوجوه التي ستؤسس الحياة السياسية في أيرلندا خلال السنوات السبع المقبلة.

وتستعد كونولي لتصبح رئيسة البلاد العاشرة بعد حصولها على 67% من أصوات الناخبين، بعد اعتراف الوزيرة في الحكومة السابقة هيذر همفريز من حزب "فاين جايل" المحسوب على يمين الوسط بالهزيمة في الانتخابات إثر حصولها على 29% من مجموع الأصوات، لتتولى كونولي كثالث امرأة في تاريخ البلاد منصب الرئاسة.

فازت المرشحة اليسارية المستقلة "كاثرين كونولي" في الانتخابات الرئاسية في #أيرلندا، حاصدةً أكثر من 63% من الأصوات pic.twitter.com/H9H1Grr4aS

— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 26, 2025

إرباك

وأربكت نتيجة الانتخابات الطبقة السياسية في البلاد، حيث ينظر إليها على نطاق واسع أنها اختراق غير متوقع لبنية المؤسسة السياسية المستقرة لعقود، مما يثير مخاوف المنتقدين من أن تؤثر مواقف كونولي الحادة، التي لا تتردد في الاشتباك مع حلفاء دبلن الغربيين، على علاقات البلاد الخارجية.

فرغم أن منصب الرئاسة يبقى شرفيا ورمزيا وحافظ خلاله الرؤساء المتعاقبون على مواقف هادئة، ترى صحيفة غارديان البريطانية أن انتخاب كونولي يمثل رسالة غاضبة من الناخبين موجهة للطبقة السياسية والحكومة المحسوبة على يمين الوسط.

في المقابل، هاجمت صحيفة بوليتيكو الأوروبية توجهات كونولي المعلنة، وحذرت في مقال من "صعود سياسية مؤيدة للدكتاتورية في روسيا".

إعلان

منذ بدء الحرب على قطاع غزة، لم تتأخر كونولي في إبداء دعمها غير المشروط للفلسطينيين وانتقادها الشرس للسياسات الإسرائيلية ضدهم، مما جعل تصريحاتها المنددة بالمواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية، في بلد كأيرلندا يحظى فيه التضامن مع فلسطين بشعبية واسعة، تكسبها أيضا تأييد شريحة واسعة من الناخبين.

لكن حدة لهجتها المعلنة دون مواربة ضد السياسات الإسرائيلية في القطاع، وما تراه انحيازا أميركيا وأوروبيا لتل أبيب يثير حفيظة منتقديها وبعض من الساسة التقليديين الأيرلنديين الذين يعدون تلك المواقف تجنح لتصلّب قد ينتهي بصدام محتمل مع الحلفاء الغربيين.

ففي تصريحات سابقة لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، تصر كونولي على أن الانتهاكات الإسرائيلية ليست مجرد رد فعل على أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكنها تعود لتاريخ سابق بعشرات السنوات ولسياسات إسرائيلية ممنهجة ضد الفلسطينيين.

حملات تضامن شعبية سابقة مع غزة في أيرلندا بدعم من الأحزاب اليسارية (غيتي)داعمة قوية لفلسطين

وذهبت انتقادات الرئيسة الأيرلندية الجديدة حد الاعتراض على الموقف الأوروبي الذي يتمسك باستثناء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من أي دور في الدولة الفلسطينية المستقلة بعد قرار بريطانيا وعدد من الدول الغربية الاعتراف بها خلال الشهر المنصرم، مما أثار ضدها انتقادات من رئيس الوزراء الحالي ميشال مارتن.

وفي موقف لافت وصريح، ترى كونولي أن بلادها التي لا تستطيع التخفف من ثقل تاريخها الاستعماري يصعب أن تملي على شعوب أخرى واقعة تحت الاستعمار الطريقة التي تدير بها شؤونها.

ويؤكد جيمس جيلز الناشط السياسي البريطاني والعضو المستقل في أحد المجالس البلدية البريطانية، أن انتخاب رئيسة أيرلندية من المستقلين تجاهر بدعمها الصريح للقضية الفلسطينية دون الالتزام بالضوابط المعتادة للسياسات الخارجية الأوروبية، ينسجم مع تحول لافت في مزاج الناخب الأوروبي الذي باتت القضية الفلسطينية شأنا داخليا تحدد توجهه الانتخابي وأصبح أكثر ميلا للبحث عن بديل سياسي بعيدا عن الثنائيات الحزبية المأزومة.

المرشحة اليسارية المستقلة كاثرين كونولي تفوز في الانتخابات الرئاسية في #أيرلندا.. فمن هي كاثرين كونولي؟#الجزيرة_رقمي pic.twitter.com/q7mDzpCmRc

— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 26, 2025

ويشير جيلز في حديث للجزيرة نت إلى أن صعود وجوه سياسية منحازة لحقوق الشعب الفلسطيني في الساحة الأوروبية قادرة على الوصول إلى دوائر القرار يربك ميزان القوى التقليدي ويشكل ضغطا فعليا على صناع السياسات الخارجية، خاصة حين يتعلق الأمر بمعاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه.

وعقب إعلان الفوز، أكدت الرئيسة الجديدة عزمها على إعادة بناء "جمهورية أيرلندية جديدة" تدعم حقوق المهمشين وتحمي التنوع والهوية الأيرلندية في آن معا.

لكن سريعا هاجم زعيم اتحاد العمال الأيرلندي جيم أليستر، في تصريحات صحفية، انتخاب كونولي، محذرا من أنها تمثل "عاملا محرضا على الانقسام ومصدر إحراج للبلاد على الصعيد الدولي"، بسبب ما وصفه بميولها السياسي المتطرف ونزوعها لإبداء آراء صدامية ضد الحلفاء الغربيين.

عاجل | وزير خارجية أيرلندا: وقت التنديد بما يحدث في #غزة انتهى والاتحاد الأوروبي منح إسرائيل وقتا لكنها لم تفعل شيئا pic.twitter.com/wRWIHwnucd

— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) August 29, 2025

معارِضة شرسة

وبينما لا تواري كونولي تحفظها على سياسات الاتحاد الأوروبي وتتهمه بفقدان البوصلة الأخلاقية، يحذر خصومها من أن توجهاتها السياسية قد تلحق ضررا سياسيا بعلاقات دبلن مع الإدارة الأميركية والجيران الأوروبيين، في وقت تعد فيه أيرلندا إحدى أكثر الدول ارتباطا بفكرة الاتحاد والعقيدة القائمة على الوحدة السياسية.

إعلان

وتُعتبر كاثرين كونولي أحد أبرز المعارضين الشرسين داخل البرلمان الأيرلندي لتوجه بلادها لزيادة الإنفاق العسكري الذي يتوقع أن يتجاوز 1.5 مليار دولار بحلول عام 2028، في سياق الاندفاع الأوروبي لتعزيز الاستقلالية الدفاعية عن الحليف الأميركي، وضغوط الرئيس دونالد ترامب عليهم لرفع إنفاقهم العسكري.

ولم تجد حرجا خلال حملتها الانتخابية في الإعراب عن رفضها لقاء ترامب، موجهة أيضا نقدا حادا لسياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ملف الحرب الأوكرانية.

وعقب الإعلان عن فوزها بالانتخابات، قالت كونولي أمام داعميها إنها تصر على بناء السياسة الأيرلندية على الحياد وحمايتها من سياسات العسكرة الغربية التي ينخرط فيها الاتحاد الأوروبي، ومواجهة بدلا عن ذلك ما وصفته بالتهديد الوجودي الذي يشكله التغير المناخي.

في هذا السياق، يرى ديفيد هينغ، الخبير في السياسات التجارية البريطانية في المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي، أن اعتماد الاقتصاد الأيرلندي على الشركات الأميركية وجذب الاستثمارات الأجنبية يجعل من الصعب على أي رئيس تبني موقف صدامي مع الإدارة الأميركية التي تسعى بالأساس لتقليص حجم تلك الاستثمارات في سياق سياساتها الحماية.

ويضيف هينغ -في حديثه للجزيرة نت- أن التحول الاقتصادي الذي شهدته أيرلندا مرتبط بالأساس بدعم الاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، الذي يواصل وضع دبلن في قلب مشاريعه الاقتصادية والتكنولوجية الحديثة وربطها بشكل تكاملي بهياكله، مما يعقد مهمة أي راغب في أخذ مسافة منه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الاتحاد الأوروبی کاثرین کونولی

إقرأ أيضاً:

كونولي رئيسة لأيرلندا: انتصار لفلسطين.. وهزيمة للوبي الصهيوني


لم تكن لحظة إعلان فوز كاثرين كونولي برئاسة جمهورية أيرلندا مناسبة بروتوكولية عادية، بل كانت صفعة مدوية للمنظومة التي اعتادت أن تحتكر الخطاب الأخلاقي في الغرب، بينما تبرر قتل الأطفال وقصف المستشفيات في غزة. فشخصية مستقلة، واضحة وصريحة، تقف مع الضحية لا مع الجلاد، صعدت إلى أعلى منصب رمزي في البلاد رغم كل محاولات التحريض التي سبقت الانتخابات، ورغم عواء اللوبيات الداعمة للاحتلال التي استشعرت الخطر وخسرت المعركة قبل أن تبدأ.

أيرلندا تعرف جيدا معنى الاحتلال، ولذلك لم يكن تضامنها مع فلسطين مجرد موجة عاطفية عابرة. فالشعب الذي يحمل ذاكرة القهر البريطاني لا يمكن أن تخدعه بروباغندا تسوّق مجازر الاحتلال بوصفها "دفاعا عن النفس". ولهذا، عندما ارتفعت أصوات الملايين في غزة تحت الركام، وجدت صدى طبيعيا في الضمير الأيرلندي، تماما كما عبّر نيلسون مانديلا حين قال: "نحن نعرف جميعا أن حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين". ولهذا المعنى العميق صوّت الناس لكونولي: لأنها قالت الحقيقة في زمن يهرب فيه السياسيون من الحقيقة.

منذ اللحظة الأولى لفوزها، أصيبت اللوبيات المؤيدة للاحتلال بالذعر، لأنها تدرك أن هزيمتها لا تكون فقط في البرلمانات أو الجامعات، بل في المعركة الأهم: معركة الرواية. تلك اللوبيات أقامت مأتما سياسيا، وأطلقت حملة تحريض ضد الرئيسة الجديدة، لأنها تعلم أن أكبر تهديد لمشروعها ليس الصواريخ ولا الجيوش، بل سقوط القناع. فالاحتلال يعيش على الأكاذيب، تماما كما كتب فرانز فانون: "قد يقتل الاستعمار كل شيء فينا إلا رغبتنا في التحرر". وما تخشاه تل أبيب فعلا هو أن تتسع مساحة الحقيقة في الوعي الأوروبي، وأن يخرج من داخل النظام الغربي من يقول علنا: "هؤلاء يرتكبون إبادة، لا دفاعا عن النفس".

كونولي لم تقدّم خطابات رمادية، ولم تساوِ بين الضحية والجلاد، بل وضعت إصبعها على الجرح، وواجهت النفاق الغربي الذي يقدّس حياة الإنسان إذا كان غربيا، ويجد ألف تبرير لقتله إذا كان فلسطينيا. وهذا بالضبط هو ما يفسر الغضب الإسرائيلي والإعلامي تجاهها؛ لأن مجرد وجود رئيسة أيرلندية لا تخضع للابتزاز، يعني أن الرواية الأحادية لم تعد مطلقة، وأن هناك شروخا واضحة في جدار الهيمنة الخطابية التي طالما اعتمدت عليها تل أبيب في أوروبا.

إن فوز كونولي، رغم رمزية المنصب، يحمل دلالة أكبر من حدود الصلاحيات. إنه إعلان عن تحوّل في الوعي، عن أوروبا شعبية بدأت تسبق أوروبا الرسمية، عن جيل جديد يقرأ الحقيقة بأعينه لا بعدسات الإعلام الموجَّه. وهذه الرمزية أقوى من أي منصب؛ لأن المعركة على فلسطين هي معركة أخلاق قبل أن تكون معركة سيادة. وكما كتب إيميه سيزير: "كل استعمار هو حضارة زائفة، ومصيره دائما إلى السقوط". والسقوط هنا يبدأ دائما من سقوط الشرعية الأخلاقية، وهذا تحديدا ما أصاب مشروع الاحتلال منذ أن بدأت غزة تكسر الحصار بالسرد والصمود قبل الحجر والسلاح.

إن الشعب الفلسطيني، وهو يرى رئيسة دولة أوروبية تعلن بوضوح انحيازها له، يتأكد أن الصوت الحر قد يُحاصر لكنه لا يُهزم. وكما كتب غسان كنفاني: "الغاصب هو الذي يبدأ القتل، أما المقاومة فهي التي تبدأ الحياة". وهذا المعنى هو الذي تخشاه المؤسسة الداعمة للاحتلال، لأنه يُعيد تعريف المقاومة باعتبارها شرفا ووعيا وحقا طبيعيا، لا تهمة كما تحاول ماكينات التشويه أن تروّج.

كونولي اليوم لا تغيّر وحدها المعادلة، لكنها تفتح الباب، وما علينا كفلسطينيين في الشتات إلا أن نستثمر هذه اللحظات، وأن نفهم أن وعيا يكبر في الغرب، وأن هزيمة الرواية الصهيونية ليست حلما رومانسيا، بل مسارا تاريخيا يجري أمام أعيننا. فالتاريخ -مهما طال الليل- لا يقف مع القتلة، ولا يغفر للمستعمرين، بل ينحاز في النهاية للأحرار. وفي اللحظة التي تبدأ فيها الحقائق بالظهور، يصبح صراخ اللوبيات المؤيدة للاحتلال مجرد نشاز أخلاقي في مشهد إنساني يتغيّر.

لقد خسرت تل أبيب اليوم جولة في ميدان المعنى، وربحت فلسطين صوتا جديدا في منصة دولية وازنة. وهذه بداية وليست نهاية، لأن العدالة لا تموت.. ولأن الشعوب التي تقاوم -مهما طال القيد- ستفرض روايتها في النهاية.

مقالات مشابهة

  • كونولي رئيسة لأيرلندا: انتصار لفلسطين.. وهزيمة للوبي الصهيوني
  • فوز كاثرين كونوِلي برئاسة أيرلندا: “إسرائيل” دولة إرهابية وحماس تنظيم شرعي
  • وصفت إسرائيل بـ"الدولة الإرهابية".. كاثرين كونولي تفوز برئاسة أيرلندا بأغلبية ساحقة
  • سمو نائب الأمير يهنئ رئيسة أيرلندا المنتخبة
  • سمو الأمير يهنئ رئيسة أيرلندا المنتخبة
  • فوز اليسارية كاثرين كونولي بالانتخابات الرئاسية في أيرلندا
  • كاثرين كونولي المناهظة لاسرائيل تحقق فوزا كاسحا في انتخابات ايرلندا
  • كاثرين كونولي تقترب من رئاسة أيرلندا بعد إقرار منافستها بالهزيمة
  • اليسارية كاثرين كونولي تقترب من الفوز برئاسة أيرلندا بأغلبية ساحقة