«بيوت الطين».. حنين العودة إلى الماضي الجميل
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
تُمثل "البيوت الطينية" التراثية جزءًا مهمًا من هوية سكان منطقة القصيم وثقافتهم، إذ إنها ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل الشواهد الحية على تاريخ الأجداد وإحدى الوسائل لفهم أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم في الماضي، فحينما تكون في وسط فنائها تستطيع أن تنغمس في تلك الأيام القديمة التي تُجسد الأعراف الماضية والعادات الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
ومن شوق الحنين للعودة إلى الماضي الجميل من خلال "بيوت الطين"، اهتم الكثيرون بالتراث والاعتزاز بهذه البيوت القديمة، والسعي لإحيائها وإعادة ترميمها، وتسويق وتحفيز من حوله إلى زيادة الوعي بأهمية المحافظة على الإرث التاريخي الذي تحكيه هذه المباني السكنية التي شُيّدت في الفترات الزمنية الماضية باستخدام مواد البناء من ذوات طبيعة الأرض عبر التقنيات التقليدية.
وتختلف تصاميم البيوت التراثية بحسب البيئة الجغرافية المتنوعة في طبيعة المملكة مترامية الأطراف، فهناك البيوت الطينية في المناطق الوسطى والصحراوية، والبيوت الحجرية في المناطق الجبلية، والبيوت المبنية من سعف النخيل أو الخشب في المناطق الساحلية.
وتتميز "البيوت الطينية" بالانسجام مع البيئة الصحراوية والمنطقة الوسطى، حيث إنها صُممت لتتناسب مع طبيعة المناخ المحلي، مثل: الأسقف العالية والنوافذ الصغيرة للتهوية والعزل الحراري من خلال مواد البناء الطبيعية، مثل: الطين، وشجر الأثل، والحجارة، وسعف النخيل، وإضفاء الطابع الجمالي من الزخارف والنقوش النجدية اليدوية على الجدران والأبواب والنوافذ، التي تعكس الذوق الفني الرفيع لتلك الحقبة الزمنية.
وفي لقاء مع أحد أصحاب البيوت الطينية والمهتم في التراث، أكد أن البيوت الطينية تُمثل الذاكرة المكانية والثقافية للمجتمع في منطقة القصيم، التي تحمل بين جدرانها القصص والحكايات المعبرة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها الآباء والأجداد، إذ إنها تجسد العمق التاريخي للانتماء للأرض، وتُبرز تكيف الإنسان في توظيف المواد الطبيعية لبيئته في بناء المساكن التي تلائم تضاريس المنطقة ومناخها.
وأكّد على أهمية تكثيف الجهود من أصحاب البيوت القديمة في الحفاظ على هذه المباني التاريخية وترميمها بأساليب تظهر هويتها المعمارية، مشيرًا إلى أن صون هذا الإرث يُسهم في دعم التنمية السياحية، ويُشكل مصدر الإلهام للمعماريين المعاصرين في ابتكار عناصر التصميم التقليدي ودمجها في المشاريع الحديثة، لأنها هي الجزء الذي لا يتجزأ من روح الماضي وذاكرة الأمس، وتمثل الجسر الرابط بين الأجيال، الذي يعزز لديهم الفخر بالتاريخ والهوية الوطنية، ويجعل أبناء المستقبل أكثر وعيًا بجذوره.
المصدر: صحيفة عاجل
كلمات دلالية: أخبار السعودية البيوت الطينية البیوت الطینیة
إقرأ أيضاً:
الكتابة المعكوسة في ألواح الطين
محمد بن سليمان الحضرمي
ما زالت الصورة ترتسم في ذهني، كتابة معكوسة عند مدخل بيت قديم، في حارة «غُوَيْر» المجاورة لقلعة نزوى من جهة الشرق، تشكل امتدادًا لحارة «العَقْر» الكبيرة، سألت من كان معي عن هذا المكان الأثري، فعلمت منه أنه بيت الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (حكم: 1642-1649م)، مؤسس دولة اليعاربة، بيت متواضع لإمام مهيب، وحَّد بين القبائل في عُمان، وطرد البرتغاليين من أكثر البلاد، واهتم بنشر العلم وتكوين المكتبات للمتعلمين، لكن هذا البيت الذي دخلته مطلع التسعينيات الماضية، لم يعد باقيًا اليوم، فقد هُدِم كغيره من بيوت تلك الحارة الصغيرة، بسبب مجاورتها للسُّوق، وشُيِّدت مكانها محلات تجارية حديثة.
أتذكر أني بعد دخولي عتبات الدار الأثرية تلك، لمحت «كتابة معكوسة» في أسفل أحد الأقواس، حاولت أن أتبيَّنها فلم أستطع قراءَتها، ولم تظهر لي معانيها، لأني لأول مرة أقف على هذا الشكل من الكتابة، كتابة معكوسة تُقرأ من اليسار إلى اليمن، وكأنها رموز لمعاني غامضة، ولا يزال رسم تلك الكتابة عالقًا في ذهني، وقد قمت بتصويرها ضوئيًا، غير أن تلك الصور طمستها الأيام، ولا أعرف أين ضاعت مني، فغابت مني لحظات مهمة، وثَّقْتُها ضَوئيًا بآلة التصوير، وبقي ما وثقته العيون في صفحات الذاكرة.
بقيت تلك الكتابة في ذهني، وكنت ما زلت في شك منها، فلعلها شكل زُخرفي، أو كتل بارزة من الطين، حتى وقفت بعد سنوات على أنموذج آخر من هذه الكتابة المعكوسة، وكانت منقوشة في قوس طيني، بأحد أبواب «مسجد المزارعة» في سمائل، ومن حسن الحظ أن أبقى الترميم الحديث للمسجد على تلك الكتابة ولم يطمسها، فقد لمحتها بارزة في مكانها.
يقع مسجد المزارعة، وسط حدائق غنَّاء، ولذلك سمي مسجد المزارعة، نسبة إلى الزرع والمزارعين، حيث يؤدون فيه الصلوات الخمس، وعلى مسافة ليست ببعيدة من هذا المسجد، يوجد «مسجد الصَّاروج»، والصَّاروج طين محروق مع جذوع النخيل، تخلط معه أحجار جبسيَّة هشَّة، يتم حرقها في موضع مخصص لها يعرف باسم: «المهبَّة»، تشعل فيها النار لحرق جذوع النخيل مع الأحجار والطين، يستخدم في البناء من قديم الزمان، وأشهر المعالم الأثرية بنيت بهذه المادة، فهي تعمِّر أكثر من الطين، ويتميز المسجدان: «المزارعة» و«الصَّاروج»، بمحرابيهما المزخرفين، وكنت قد ذهبت إلى زيارتهما، وتأمل زخارف محاربيهما الجصيَّين الجميليْن، ونشرت تأملاتي حولهما في كتابي «وحي المحاريب».
لكن في مسجد «المزارعة» لمسة فنية، لا توجد في مسجد «الصَّاروج»، وهي كلمات معكوسة رُصِّعَت في أعلى قوس أحد بابيه، حاولت هذه المرَّة أن أقترب من المخطوط الطيني، لأتبيَّن تلك الكلمات المتشابكة، متذكِّرًا ما رأيته في ذلك البيت الأثري، داخل الحارة المجاورة لقلعة نزوى، فصوَّرت الكتابة، وكررت التقاط الصور للشكل المنحوت، وحين أفرغت الصور الضوئية في ذاكرة حاسوبي، قمت بقلب الصور بواسطة تطبيق «الباوربوينت»، فظهرت لي الكتابة بوضوح، وهي قوله تعالى من سورة يس: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيْمٍ)، مع كلمات أخرى لم تبِنْ لي معانيها، فتأكد لي أن هذه الكتابة نمط زخرفي، وتحية قرآنية للمصلين.
في زيارة أخرى لحجرة «البَراشِد» بولاية سناو في شمال الشرقية، والحجرة تعني الحارة، وفيما كنت أتجوَّل داخلها على حذر، فهي آيلة للسُّقوط، لمحتُ زخارف ونقوشا محفورة في قوس عالي الارتفاع، داخل رواق الحارة الداخلي، والأقواس تحفظ الأسطح المسقوفة من الانهيار، حاولت أن أتبيَّن تلك النقوش العجيبة، فهذه المرة لم تكن كتابة معكوسة، لعلها طلاسم محفورة في داخل القوس، ولم يخالجني شك أنَّ تلك الطلاسم تعويذة للمكان، لكني لا أعرف تفسيرها، بعضها على شكل مربعات، وأخرى على شكل إنسان يمتطي حصانًا، ورسمة أخرى تشبه فارسًا يحمل سيفًا، وهي بارزة بوضوح، فقد تم ترصيعها في القوس العالي، وبعد دقائق من خروجي من الحارة، سمعت دويًا هائلَا في المكان الذي كنت فيه، يبدو أن ذلك القوس تهاوى على الأرض، أو شيء منه، وكأني ذاهب لتوثيق تلك الطلاسم البارزة قبل أن تسقط، ولعل التعويذة لم تعد تجدي نفعًا، بعد هجران الناس للمكان.
وفي زيارة لحصن بهلا، دخلت مسجدا صغيرًا، يقع ضمن مرافق الحصن الداخلية، ويمتاز محرابه بزخرفة جصية بيضاء فريدة، لم أجد لها مثيلا في مساجد عُمان القديمة، في المحراب تجاويف متساوية الشكل، يطلق عليها خبراء الترميم والمشتغلون بعلوم الآثار اسم «مُقَرنَصَات»، مع زخارف نباتية جصيَّة وأشكال تشبه القوارير، وفي جهة أخرى من غرفة الصلاة هذه، توجد مشكاة صغيرة، لعلها كانت مَكانًا للسِّراج، أو موضعا لحفظ الكتب ومصاحف القرآن الكريم، وفي تجويفها كتابة معكوسة، حاولت قراءتها وتبيُّن معانيها، ولا أحسب أن تلك الكتابة تعويذة، ولكن بعد تأملها أكثر، توصلت إلى جملة، لعلها تكون صحيحة، تقول: «إن العَقَدْ صنعه سعيد بن مفتاح»، و«العَقَدْ» بفتح العين والقاف، قوس يعقد بين جدران الطين، وعادة ما يكون أسفل الدَّرَج، ويبدو من شكل الكتابة أنها نقشت في فترة متأخرة، وليست ضمن الزخرفة المحرابية.
وفي حارة البلاد الأثرية بولاية منح، وقفت على عدة منازل نقشت في أقواس مداخلها كتابات معكوسة، بعضها لا يزال باقيًا، فحاولت أن أتبين معانيها، وكأنها تشبه جملة «تم البناء بحمد الله»، وفي بيت آخر نُقِشَتْ كتابات معكوسة داخل أقواسه الداخلية، لكنها مع الترميم تفتتت، بسبب كشط الجدران من المواد العالقة فيه، وبقي أثرها مرتسمًا في تجاويف الأقواس، بقيت بصمات الأصابع التي لامست هذه التجاويف، والأنفاس الحارة التي لوحته، وهو يكتب بيده في لوح الطين.
وفي مسجد قديم بقرية «وادي الحَجَر» الأثرية، تقع بمحاذاة قرية «زكيت» من جهة الشمال، التابعة لولاية إزكي، يوجد مسجد صغير، تلتف حوله أشجار الأراك والغاف، وكأنه معتكف ومسجد للخلوة، تم ترميمه وتجميله بالجص، وفيه كتابة معكوسة، اهتديت إليه بوصْفٍ من الصديق الباحث محمد السيفي، وحين بلغت المكان، رأيت مدينة ببيوتها وأبراجها ومسجدها، مدينة من حجر، تتشابك فيها الجدران، كل شيء فيها من أصْلاف حجرية، أسُسْ البيوت القديمة، وما تبقى فيها من جدران، وأرفف محشوَّة بمصاحف قرآنية قديمة متمزقة، وشظايا فخار بقيعان مستديرة، وبعضها هلالية الشكل، تتناثر في أرجاء المكان، وقريبًا من المسجد رأيت ساقية لفلج قديم، لعلها اليوم مكان آمن تأوي فيه الثعالب وكائنات الليل.
التقطت صورًا لتلك الكتابة، تزيِّنُ إحدى النوافذ المقوَّسة، المطلة على الحارة والبرج، وحاولت أن أتبين تلك الجمل المتداخلة، فاستعنت بحاسوبي، وقلبت الصورة وكأني أقرأها مقلوبة من خلف ورقة، فظهرت لي بعض الكلمات التي بقيت عالقة في تلك المخطوطة الطينية ولم تمحها الأيام، ورأيت فيها توثيقًا لتاريخ بناء المسجد، واسم الشخص القائم على بنائه وعمارته، واسمه: سعيد بن سيف، وبجانب الاسم كلمات أخرى لم أهتد إلى قراءتها، وهذه الكتابة المعكوسة البارزة في الطين، بمثابة شهادة وثَّقت تاريخ اكتمال عمارة المسجد.
وبلا شك أن مثل هذه الكتابات المعكوسة، توجد في مساجد وبيوت قديمة أخرى، فقد علمت أن بعض البيوت في حارة «المنزفة» الأثرية بولاية إبراء، تتزيَّن أقواس مداخلها بمثل هذه الكتابة، كتلك الكتابة التي في جدران بيت البومة الأثري، المشيد مطلع القرن العشرين داخل الحارة، ذكره الباحث يعقوب البرواني، في كتابه عن حارة المنزفة الأثرية، حيث أشار في سياق التعريف به، إلى أن البيت يحوي نقوشًا بديعة، على الجدران الداخلية، وكتابات قرآنية، في غرفه وعقوده وروازنه ومداخله، ولعل «الكتابة المعكوسة» ضمن ما يحويه هذا البيت الجَصِّي الفخم، لكنه لم يذكر تفصيلا لتلك الكتابة، ويبدو أن صَبَّها في قوالب طينية وجصيَّة، تمثل أنماطًا زخرفية، وتحقق أغراضًا جمالية، بقيتْ تِذكارًا لتلك الأيام الخوالي، حين كان الإنسان يميل بفطرته إلى الغموض في التوثيق، تاركًا بصمته الجميلة منقوشة في الجدران، من خلال الكتابة في ألواح الطين.