الاثنين، 29 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
اليوم، وبلا أدنى حرج، أرى الأمر بطريقة تلميذ المرحلة الإعداديَّة في فرع «التعبير» الذي كان من ضمن فروع مادة اللغة العربيَّة وامتحاناتها الجليلة المهيبة في فترة يفوعي:
--لماذا تكتب؟
--أكتب «لأعبِّر» عن عذابي.
حقًّا، هكذا هو الأمر: العودة إلى النَّار الأولى، وكل ما يعيقك من النوم، والكف عن الانخراط غير المشروط في كل ما تقوله أقسام الفلسفة والأدب في الجامعات المرموقة.
من ناحية أخرى فإن راية «النَّص» ورؤيته وصلا إلى حرف مسدود؛ فقد أصبح «النَّصُّ» يكشف عن توسُّلاته على عتبة النَّوع (genre) وليس عند سلالم عذابك بشكل لا يليق بكرامة الكلمات. وهذا (كما تعترف المعرفة بالعرف) سلوك مقبول من النَّص؛ فهو يبحث عن هويَّة وهواء، لكنه مرفوض تمامًا من الكاتب الذي تبحث عنه الانتماءات، وتتقاتل لأجله الأسماء والعناصر.
يجب، لهذا، أن أكون وفيًّا للإبداع بحيث أتخَلَّق بمقدار طيب من الخسَّة يكفي للغدر بتجربة النَّص. يجب أن أكون مواليًا للفن بحيث أطيح بالنَّص، ولذلك ينبغي الإقلاع فورًا عن عادة النُّصوص حفاظاً على دم الكتابة ورئة الخلق.
خطَّة الانقلاب، كما أحبكها، لا تتمترس في مؤامرة الاستقلال عمَّا يتحرر (ورغم أن ذلك ليس شعاراً استهلاكيًّا بالنِّسبة لي فإني، إن حوكمتُ، لن أصر على نفيه حاجزاً قديماً للاغتيال).
ينبغي، إذًا، عدم إحراج مزيد من النُّصوص؛ بل يجب تجريح الكتابة بالكتابة فحسب. وإلا فالأولى عدم ترجيح كفَّتها في ميزان البوح، وذلك عبرة للعبارة واعتبارًا للتَّعبير، خاصَّة وأن السِّباقات لم تعد تثير أحدًا غير الموتى الذين، نفياً لكل ما تنصُّ عليه الأعراف، يتفنَّنون في قضِّ دماغ المرء بصياحهم حتى في هذا الوقت المتأخر من الليل.
لكن هذا الكلام لا معنى له، ولا يعني أحداً غيري (وقفتُ في مصدرٍ ما على أن مقولة «حياتي مهمَّة، ولكن لي وحدي فحسب» التي تُنسَبُ لغير شخص هي إعادة صياغة تنويعيَّة لشيء قاله نيكوس كازانتزاكي، وأنا واثق تماماً أنه يمكن أن يقول شيئاً من هذا القبيل).
واكتئابي الخانق حَدَثٌ وليس حديثاً.
الأحد، 5 مايو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
(1)
اليوم، بثروة اللغة في رقص الأطفال وثورتها، أنقضُّ على قيود الاكتئاب التي تضطهدني، وأخرج من العقاقير والواجبات الدِّراسيَّة البليدة، وأنضمُّ إليهم راقصاً في «ساحة الأزتِك» احتفالاً بذكرى الخامس من مايو (*)، ليس فقط احتفاء بهذا الحدث التَّاريخي، ولكن كذلك إجلالاً لكل حدث في التَّاريخ يقول فيه الإنسان لأخيه الحيوان: كفى، رفقاً بك!، مذكِّراً الجلاد بجدل الانتماء.
ومهما يكن من أمر ما انتهى إليه الخامس من مايو، فإن الأطفال المكسيكيين الذين رقصت معهم وأياديهم ضارعة إلى الشَّمس المُرضِعة يقولون ما يقولون.
بعد الرَّقص احتضنت بعضهم باكياً، وفي مكان قريب رفعت نخباً للحريَّة الطَّارئة.
(2)
هناك، في المنطقة الأكثر براءة في البحر، يتلثَّم المثلَّث الأكثر رعباً وأمانة للسِّر في الماء. هناك، قرب الرَّمل الرَّطِب، يتكسَّر البريق المائي الباهت في شحوب قرية منقبضة لكآبة الغروب. هناك، في مجز الصُّغرى النائية عن الأرض كنجوم قارَّة لم تكتشف بعد، أمام بيت الأب، على بعد قطرات من الزُّرقة الواسعة مثل نقاهة عروس البحر. هناك، على بياض الأصداف الجليلة وخضرة الطَّحالب اللَّزجة حيث، منذ سنوات بعيدة كما غيبوبة، لعبت معي محفوظة التي ماتت وهي تبتسم لي، فدفنوها في المقبرة الجرداء، ولعبتُ، بعد سنوات من ذلك، مع قطَّتي التي ماتت بدورها فدفنتها مُكَفَّنة في الخطِّ الذي يلتقي فيه الماء بالتراب.
هناك، وقفت وحدي في شجن غروب قرية مهجورة أشهد الهول: حافلة ركَّاب حمراء، سقفها أبيض وعجلاتها كالحة، مليئة بأموات أعرفهم، وآخرين لا أعرفهم، يَتَطوفَنُ (من «الطُّوفان») عليها الموج ميمنة وميسرة (في البال، بكل تأكيد، المشهد الافتتاحي من فيلم «ملِكا الطريق» لفِم فندرس). الرُّكاب يصرخون، فيردُّ عليهم صراخهم مرتطماً بالبيوت المهدَّمة على الشاطئ.
هناك، وأنا معدوم الحيلة أرقب الحافلة تناور الموج عبثاً، وتروح وتجيء كسمكة مطحونة قبل أن تغوص إلى العتمة، ثم يطوِّح بها البحر إلى الشَّاطئ خاوية، مكسورة النَّوافذ، ملطَّخة بالطِّين.
هناك، وأنا الشَّاهد على الكارثة، على عكس ما حَدَثَ في «أناشيد مالدورور» للوتريامون، أغرق في قسوة أن ليس لديَّ بندقيَّة أطلق منها الرَّحمة عليَّ وحدي عوضاً عن إطلاق النار على النَّاجين.
هناك، لم يكن من ناجين ينافسونني على الغياب.
حدث ذلك في طوفان الليلة الفائتة وروحي تحوم فوق السَّرير.
---------------------------------------
(*): الخامس من مايو (Cinco de Mayo): احتفال شعبيٌّ، وثقافي، وسياسيٌّ سنويٌّ بذكرى الانتصار المكسيكي على جيش الإمبراطورية الفرنسيَّة الثانية الأكثر عدداً وأقوى عُدَّة بما لا يقارَن، وذلك في العام 1862 (حاشية أضيفت إلى المتن في يوم الأربعاء، 13 مارس 2025، مسقط).
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كتّاب إماراتيون: الذكاء الاصطناعي لا يستطيع الكتابة بعاطفة الإنسان.. والبيئة الثقافية في الدولة حفّزت الأصوات الشابة
أكد كُتّاب روائيون أن الكتابة الإبداعية لدى الجيل الجديد لم تعد مجرد موهبة تُكتشف بالصدفة، بل أصبحت مساراً واعياً يقوم على الممارسة والقراءة وصقل التجربة، معتبرين أن البيئة الثقافية الداعمة في الإمارات لعبت دوراً محورياً في تحفيز الأصوات الشابة وإتاحة الفرص أمامها للتعبير عن ذاتها.
جاء ذلك خلال جلسة حملت عنوان "حكايات الجيل الجديد"، أقيمت ضمن فعاليات الدورة الـ44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب، بمشاركة الكاتبة والروائية الإماراتية أسماء الهاملي، والكاتب والروائي الإماراتي أحمد الأميري، وأدارها الإعلامي وليد الأصبحي، حيث تناول المشاركون تجاربهم الأولى، ورؤيتهم لمسار الإبداع، وتأثير البيئة الثقافية والرقمية في تشكيل وعي الكاتب الشاب.
رحلة الإبداع
في مستهل حديثها، أوضحت أسماء الهاملي أن بدايتها مع الكتابة كانت في سن مبكرة، حين اعتادت تدوين اليوميات وهي في الثالثة عشرة من عمرها، قبل أن تتجه إلى توثيق قصص جدتها، وهو ما عرّفها مبكراً على عناصر السرد وبناء الشخصيات وصنع الحبكة. ثم انتقلت إلى كتابة الشعر والخواطر، قبل أن تتوقف فترة وصفتها بـ"مرحلة التغذية الأدبية" التي انغمست خلالها في قراءة التاريخ والأشعار، لتكتب بعدها أولى رواياتها القصيرة التي استلهمت جانباً كبيراً من التاريخ والتراث الإماراتي.
وأكدت أن نقل هذا التراث إلى الجيل الجديد كان أحد أهدافها الأساسية، لذا دمجت الكثير من المعلومات التاريخية في قالب روائي مبسّط يسهّل وصولها إلى القرّاء الشباب.
وأضافت الهاملي أن رحلة الإبداع تبدأ بالسؤال، فالتساؤل يدفع الإنسان إلى التجريب والاكتشاف، لتأتي بعدها الممارسة التي تتحول مع الوقت إلى إتقان وحرفية، ومن ثم إلى إبداع حقيقي. واعتبرت أن "فلسفة المبدعين" تقوم على الإصرار والجدية، مشيرة إلى أن منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي أصبحت اليوم أدوات تفتح آفاقاً واسعة للكتّاب، سواء في البحث أو الوصول إلى مصادر جديدة، وقالت إنها شخصياً استطاعت عبر هذه المنصات الوصول إلى متخصصين دعموا عملها الروائي.
تحديات الجيل الجديد
من جانبه، استعرض أحمد الأميري بداياته الأدبية، مشيراً إلى أنه كان يكتب مذكرات مبعثرة في طفولته دون أن تتشكل في عمل واضح، لكنه حين قرر خوض الكتابة وضع لنفسه هدفاً بنشر عمل واحد فقط ثم التوقف، إلا أن النجاح دفعه لإصدار كتاب ثانٍ في العام نفسه.
وأكد الأميري أن الكاتب الشاب يحتاج قبل كل شيء إلى أسرة متفهمة تستمع إليه وتحتضن أفكاره، لأن الجيل الجديد يواجه تحديات كبيرة في ظل الثورة الصناعية الرابعة التي أبطأت وتيرة الإبداع بسبب الاعتماد المتزايد على التقنيات. ومع ذلك، شدد على أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه تمثيل العاطفة الإنسانية التي تُعد جوهر الكتابة وأساس تميّز الكاتب.
وختم بالقول إن الكاتب الحقيقي يكتب من الواقع ويخاطب قارئه بإبداع ومسؤولية، ليقدم عملاً يمزج بين المتعة والفكرة، وهو ما حاول الالتزام به في إصداراته السبعة.