على علماء الفيروسات أن يوحّدوا إرشادات معايير السّلامة
تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT
ميلاني أوت، وأوليفييه شوارز، وأليكس سيغال / ترجمة: بدر بن خميس الظّفـري
إعداد معايير دولية موحدة للسلامة الحيوية في أبحاث الفيروسات بات ضرورة ملحّة لتبديد الشكوك، واستعادة الثقة، وضمان استمرار البحوث الحيوية.
في مقال رأي نُشر في صحيفة نيويورك تايمز في مارس الماضي، حذّر اثنان من أبرز علماء الفيروسات من أن بعض التجارب التي أُجريت على فيروس كورونا مكتشف في الخفافيش، شبيهٍ بالفيروس المسبّب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (إم.
التجارب تضمنت حقن خلايا بشرية بالفيروس الحي لمعرفة سلوكه داخلها. وفي دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، تُلزم القوانين بإجراء مثل هذه الأبحاث في مختبرات سلامة حيوية من المستوى الثالث أو الرابع (بي. إس. إل 3) أو (بي. إس. إل 4) وهي أعلى المستويات من حيث التدابير الوقائية.
لكن في هذه الحالة، وبموافقة الجهات التنظيمية في الصين، أجرى 25 باحثًا من سبع جامعات ومؤسسات صينية، من بينها المختبر الوطني في غوانغتشو ومعهد ووهان لعلم الفيروسات، التجارب وفق إجراءات المستوى الثاني فقط (بي. إس. إل2). وقد استخدموا نظام تهوية بضغط سلبي مصممًا لمنع تسرب الكائنات الدقيقة إلى خارج المختبر.
من وجهة نظرنا، تبرز هذه الواقعة وما أثارته من جدل مشكلة أوسع تتعلق بمجمل مجتمع علماء الفيروسات حول العالم. فمن ناحية، يزداد خطر الأمراض المعدية الناشئة يومًا بعد يوم، مما يجعل دراسة الفيروسات الخطرة أمرًا أكثر إلحاحًا. ومن ناحية أخرى، تراجعت الثقة بالعلم وبعلم الفيروسات على وجه الخصوص منذ جائحة كوفيد-19، كما أصبحت الأبحاث الفيروسية مسيّسة إلى حد كبير.
ولإعادة بناء هذه الثقة، وضمان استمرار الأبحاث الحيوية في هذا المجال، فإن الحاجة باتت ملحّة لوضع إرشادات دولية موحّدة وشفافة للسلامة الحيوية. وفيما يلي، نوضح كيف يمكن تطوير مثل هذه الإرشادات.
تنظيم متباين بين الدول
على مدى الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية، طُوّرت بروتوكولات وإجراءات مختلفة لتقليل خطر تسرب الفيروسات من المختبرات أو إصابة الباحثين بها. واليوم، لا يُسمح للعلماء في دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وكندا والولايات المتحدة بالعمل على فيروسات تُعد «خطيرة» إلا داخل مختبرات مجهزة بخزانات سلامة حيوية وملابس واقية وإجراءات تشغيل قياسية صارمة ضمن مستويات الأمان الحيوي الثالث أو الرابع.
وتتطلب هذه المعايير أيضًا استخدام أنظمة ضغط سلبي تضمن مرور الهواء الخارج من المختبر عبر مرشّحات دقيقة تلتقط مسببات الأمراض، مع فرض رقابة مشددة على دخول الأفراد إلى المنشأة. ويُحدَّد تصنيف الفيروسات الخطيرة من قبل حكومات كل دولة، وغالبًا ما تُدرج ضمن ملاحق القوانين المنظمة للبحث العلمي.
وفي الولايات المتحدة، فُرض في عام 2014 حظر على تمويل أي بحث يستخدم الهندسة الجينية أو التطور الطبيعي لزيادة فتك فيروسات مثل الإنفلونزا و«سارس» و«ميرس». وقد رُفع هذا الحظر عام 2017، لكن يُسمح بإجراء هذه الأبحاث فقط بعد مراجعة دقيقة وشاملة، وفي مختبرات من المستوى الثالث أو الرابع للسلامة الحيوية. وتشير المؤشرات إلى أن هذه القواعد قد تخضع لتعديلات جديدة في ظل الإدارة الأمريكية الحالية.
في الصين، حُدّثت القوانين الوطنية المعنيّة بالسلامة الحيوية عامي 2004 و2020. وتنصّ هذه القوانين على أن الباحثين الذين يجرون دراسات على كائنات حية يُحتمل أن تكون مُمرِضة ملزمون بالعمل في مختبرات من المستوى الثالث أو الرابع للسلامة الحيوية، إضافة إلى اتباع احتياطات صارمة أخرى.
لكن لا يُعرف على وجه الدقة مدى تطبيق هذه القواعد أو آلية تنفيذها، إذ يبدو أنها لم تُطبَّق على التجارب التي أُجريت على فيروس كورونا، الشبيه بفيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية المكتشف في الخفافيش، والتي وافقت عليها لجنة السلامة الحيوية التابعة لمعهد ووهان لعلم الفيروسات.
وتختلف درجة التفصيل في القوانين من بلد إلى آخر. فعلى سبيل المثال، تعتمد كندا المعيار الكندي للسلامة الحيوية الذي يحدد بدقة كيفية تحقيق العزل ومنع التسرب، بينما تطبّق المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا ونيوزيلندا معايير مشابهة. أما في كثير من الدول الأخرى، فلا توجد لوائح تفصيلية مماثلة، رغم أنها تحدد أحيانًا مستويات السّلامة المطلوبة للتعامل مع مسببات أمراض معينة. هذا التفاوت في التنظيم أوجد حالة من الارتباك في مجال أبحاث الفيروسات، كما أن غياب الشفافية جعل من السهل انتشار الشائعات والأخبار الزائفة حول كيفية التعامل مع الفيروسات الحية في المختبرات.
ومع مرور أكثر من خمس سنوات على بداية جائحة كوفيد-19، لا يزال الجدل حول منشأ الفيروس محتدمًا. فوفقًا لـ«نظرية تسرّب المختبر»، التي تتبنّاها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن أبحاث الخفافيش في معهد ووهان لعلم الفيروسات أدت إلى إصابة عرضية لأحد العاملين، ما تسبب في اندلاع الجائحة. ورغم أن المعهد كان يدرس فيروسات كورونا قبل الجائحة، فلا توجد أي أدلة قاطعة على امتلاكه سلالة سابقة من فيروس «سارس-كوف-2» أو أنه أجرى عليها تجارب مباشرة.
في المقابل، تتزايد الأدلة التي تشير إلى أن الجائحة نشأت من حدث «انتقال طبيعي» بين الحيوانات والبشر، كان مركزه سوق هوَنان للمأكولات البحرية في ووهان. ويقصد بالانتقال الطبيعي انتقال فيروس حيواني المنشأ من الحيوان إلى الإنسان.
ومن واقع خبرتنا، نجد أن العديد من علماء الفيروسات يتجنبون النقاشات العامة حول الأبحاث التي تتضمن تعزيز الفيروسات الحية، سواء بالهندسة الجينية أو عبر عمليات التطور الطبيعية، خوفًا من أن يُساء فهم عملهم أو أن تُوقف مشاريعهم البحثية، حتى وإن كانت منخفضة الخطورة.
لكن الوقت الحالي لا يحتمل الصمت، فعدد الفاشيات الفيروسية وحالات الوفاة الناتجة عن فيروسات مثل سارس (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) وإيبولا (حمّى إيبولا النزفية) وإمبوكس (جدري القردة) في تزايد مستمر.
ويقدّر علماء البيانات أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن فيروسات مثل نيباه (فيروس حيواني المنشأ ينتقل من الخفافيش ويسبب التهابات دماغية قاتلة) وماشوبو (فيروس من عائلة الأرينا يسبب الحمى النزفية البوليفية) وكورونا (الفيروسات التاجية المسببة لأمراض تنفسية متعددة مثل كوفيد-19) والفيلوفيروس (عائلة الفيروسات التي تشمل إيبولا وماربورغ وتسبب حميات نزفية قاتلة) ستتسبب بحلول عام 2050 في أربعة أضعاف عدد حوادث الانتقال الطبيعي واثني عشر ضعفًا من الوفيات مقارنة بعام 2020، نتيجة عوامل مثل السفر العالمي وتغير المناخ وإزالة الغابات المدارية وصيد الحيوانات البرية والاتجار بها.
ورغم توفر تقنيات متعددة اليوم لدراسة الفيروسات القادرة على الانتقال بين الإنسان والحيوان دون الحاجة إلى إنمائها كاملة في المختبر، تبقى التجارب على الفيروسات الحية ضرورية لاختبار الأدوية المضادة للفيروسات واللقاحات. ومن الصعب تخيّل كيف كان بالإمكان تطوير لقاحات كوفيد-19 – التي يُقدَّر أنها أنقذت ملايين الأرواح منذ عام 2021، من دون الدراسات التي أُجريت على فيروس «سارس-كوف-2» الحي، وما سبقها من أبحاث على فيروسات «سارس» و«ميرس» (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية) في النماذج الحيوانية.
وفي ظل أزمة الثقة المتصاعدة بالعلم والمؤسسات، ومع عالمٍ جيوسياسي منقسم أكثر من أي وقت مضى، فإن وضع إرشادات دولية موحدة وشفافة للسلامة الحيوية أصبح أمرًا مصيريًا لحماية الأبحاث الأساسية التي تتعامل مع الفيروسات الخطرة وضمان استمرارها.
المعيار العالمي
إن وجود إرشادات مركزية وموحدة على مستوى العالم سيشبه الإرشادات الخاصة بالأبحاث على الأجنة البشرية التي وضعتها الجمعية الدولية لأبحاث الخلايا الجذعية (آي. إس. إس. سي. آر)، وهي منظمة تضم باحثين من أكثر من ثمانين دولة. فمثلما تنظم القوانين الوطنية الأبحاث على الفيروسات الخطرة داخل كل دولة، يمكن لمعايير عالمية موحدة أن تقوم بالدور نفسه على مستوى دولي.
يمكن لتلك الإرشادات أن تحدد العوامل التي تجعل التعامل مع فيروس معين أو اتباع نهج بحثي محدد عالي الخطورة، أو تضع معايير لتقييم نسبة الفائدة إلى المخاطرة التي تبرر المضي في مشروع بحثي أو إيقافه. فبعض السيناريوهات يجب ألا يُسمح بوقوعها مطلقًا.
على سبيل المثال، إذا كان أحد الباحثين يدرس فيروس إنفلونزا الطيور (إتش 5. إن 1) في مختبر من المستوى الثالث للسلامة الحيوية، فعليه اتخاذ احتياطات صارمة تمنع دخول سلالات الإنفلونزا الموسمية البشرية إلى المختبر، رغم أنها لا تُعدّ من الفيروسات الخطيرة. السبب هو أن سلالات الإنفلونزا يمكنها تبادل شظايا من الحمض النووي الريبي (آر. إن. أيه)، مما قد يجعل فيروس (إتش 5. إن 1) أكثر قدرة على الانتقال بين البشر، وبالمثل، فإن خصائص كثيرة، مثل قدرة الفيروس على الانتقال عبر الرذاذ الناتج عن السعال أو الحديث، هي ما يحدد إمكانيته على التسبب بجائحة، وبالتالي تحدد مستوى إدارة المخاطر المطلوب.
فالأبحاث على فيروسات تنفسية تنتشر أصلًا بين البشر لا تمثل الخطر نفسه الذي تمثله الأبحاث على فيروسات لم تنتقل بعد من الحيوانات إلى الإنسان. أما في حالة الفيروسات التي لم تنتقل بعد للبشر، فإن التجارب التي قد تمكّنها من اكتساب القدرة على إصابة الخلايا البشرية قد لا تكون مقبولة. ويمكن بدلًا من ذلك اتباع منهج تدريجي يبدأ بتقنيات منخفضة الخطورة.
وللتقصي عما إذا كان الفيروس قادرًا على دخول الخلايا البشرية والتكاثر فيها، يمكن للعلماء استخدام النمذجة الحاسوبية لبنيته اعتمادًا على تسلسل حمضه النووي الريبي، وهو أمر أصبح أسهل بكثير بفضل التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما يمكنهم اختبار تنبؤاتهم باستخدام مكونات منفصلة من الفيروس مثل الجينات أو البروتينات، أو باستخدام جزيئات فيروسية جزئية أو مشابهة للفيروس لكنها غير معدية، إذ يمكنها محاكاة كثير من مراحل دورة حياة الفيروس دون أن تسبب المرض.
وإلى جانب توجيه الأبحاث، يمكن للإرشادات الموحدة أن تساعد في تقليل الالتباس وسوء الفهم بين العلماء والحكومات وصنّاع السياسات والجمهور. فمثلًا، يُستخدم مصطلح «تعزيز الوظيفة» (gain of function) بطرق مختلفة؛ فبينما يستخدمه معظم الباحثين للإشارة إلى أي تغيير في قدرة الفيروس على إصابة عائلٍ جديد أو إلى تعديل جيني يؤدي إلى سلوك مختلف، يستخدمه آخرون، ومنهم نحن، بمعناه الأوسع ليشمل أي تحسين ناتج عن التعديل الجيني أو عن توجيه التطور الطبيعي.
فعندما تُزرع فيروسات حيوانية المصدر في خلايا بشرية، قد تصبح أكثر قدرة على إصابتها، أو أكثر مقاومة للأدوية واللقاحات. أما لدى غير المتخصصين، فقد أصبح مصطلح «تعزيز الوظيفة» مرادفًا لكلمة «خطير»، وهو سوء فهم يمكن أن تسهم الإرشادات الواضحة في تصحيحه. الدراسات التي تُعرف بـ«تعزيز الوظيفة» حين تتعلق بمسببات أمراض شديدة الضراوة يمكن أن تنتشر بين البشر سواء أُطلِقت عمدًا أو عن طريق الخطأ، تحتاج إلى الضمانات العالمية التي ندعو إليها. لكن وفقًا لتحليل صدر عام 2023 عن مركز الأمن والتقنيات الناشئة (سي. إس. إي. تي) وهو مركز بحثي تابع لجامعة جورجتاون في واشنطن العاصمة، فإن 74 في المائة من الدراسات المصنفة تحت هذا النوع لا تشمل فيروسات عالية الخطورة، بل مسببات أمراض أقل خطرًا.
السيطرة على المشهد
نحن نرى أن علماء الفيروسات أنفسهم هم الأقدر على قيادة عملية وضع هذه الإرشادات، فهم الأعرف بالفيروسات والإجراءات التي تمثل أعلى درجات الخطر، وغالبًا ما يكون لديهم دافع قوي لحماية سمعة مجالهم من الضرر. وقد أثبت العلماء ذلك عندما اجتمع متخصصو الفيروسات من أنحاء العالم عامي 2014 و2016 للمساعدة في صياغة الرقابة الأمريكية على الأبحاث التي تتضمن التعديل الجيني للفيروسات.
حتى الآن، لا يوجد في علم الفيروسات ما يماثل الجمعية الدولية لأبحاث الخلايا الجذعية في مجال الخلايا الجذعية. ولكن من حيث المبدأ، يمكن للجنة تضم علماء فيروسات، إلى جانب خبراء في مجالات أخرى مثل علم الأوبئة والمناعة والأحياء الخلوية والطب والعلوم الاجتماعية، أن تضع إرشادات دولية موحدة لأبحاث «تعزيز الوظيفة» وللبحوث الفيروسية عمومًا.
ينبغي أن تحدد هذه الإرشادات قائمة بالفيروسات الخطرة، وأن تبيّن بالتفصيل كيف يتعين على الباحثين حول العالم إجراء دراساتهم على الفيروسات الحيوانية المنشأ. ويمكن للجنة أن تستفيد من الجهود القائمة حاليًا في هذا المجال. فحتى اليوم، إذا أجرى الباحثون تجارب على ما يُعرف بـ«العوامل ذات الاستخدام المزدوج»، أي (الفيروسات التي يمكن تحويلها إلى أسلحة بيولوجية)، وأرادوا نشر نتائجهم في مجلات علمية تصدر عن الجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة أو دار النشر العلمية سبرنغر نيتشر، فعليهم تقديم بيان رسمي يؤكد أن أعمالهم حظيت بموافقة لجنة السلامة الحيوية في مؤسستهم البحثية.
إن وجود إرشادات مركزية دولية سيمكن دور النشر والجهات الممولة من تقييم جميع الأبحاث الفيروسية وفق معايير موحدة، ويساعد على ضمان أن يتمكن علماء الفيروسات في جميع أنحاء العالم من مواصلة عملهم الحيوي في تقليل خطر حدوث جائحة جديدة.
ميلاني أوت هي مديرة معهد جلادستون للأمراض المعدية في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا (الولايات المتحدة الأمريكية)، وأستاذة في قسم الطب بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو.
أوليفييه شفارز هو رئيس وحدة الفيروسات والمناعة وأستاذ في معهد باستور وجامعة باريس سِيتِيه في باريس (فرنسا).
أليكس سيغال هو أستاذ في مركز لوتنبرغ لأبحاث المناعة والسرطان في الجامعة العبرية في القدس، وعضو هيئة التدريس في معهد أفريقيا للأبحاث الصحية في ديربان (جنوب أفريقيا).
عن مجلّة (ناتشر)، العدد 646، الصفحات 31–34 (2025).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من المستوى الثالث علماء الفیروسات على فیروسات الأبحاث على الحیویة فی أبحاث على على فیروس کوفید 19 التی ت
إقرأ أيضاً: