لماذا تُحِسُّ كلُّ الحيوانات ولن تُحِسَّ الآلةُ أبدًا؟
تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT
سبنسر روبرتس / ترجمة: زهرة ناصر
حتى أصغر بزّاقات البحر تشعر بالألم. لذلك، تقع على عاتقنا مسؤولية عدم التسبب به.
عندما كنتُ في السادسة والعشرين من عمري، تفتّت ضِرسي الرحويّ الأوّل الأيمن. كان يتسوّس بسبب نخرٍ خفيّ بين أسناني، وكنتُ عامل خدمةٍ بدوامٍ جزئي لم أزر طبيبَ أسنان منذ سنوات. لكنّ نظامَ الرعاية الصحية في الولايات المتحدة أبقاني ضمن تغطية تأمين والديَّ لأشهرٍ إضافية، فزرتُ أمي بخجل، فاصطحبتني إلى طبيب أسنان كان ميسورَ الكلفة لكنه مُهمِل.
فكرتُ في الأبليسيا - نوع البزاقات البحرية العملاقة المعروفة باسم «أرانب البحر» على الرغم من بطئها. في عام 1970، قام عالم الأعصاب بيتر هارلي بتثبيت أكثر من 80 من أرانب البحر الكاليفورنية (A. californica) على طاولات التشريح وقطع الحبل العصبي لعقدها العصبية الجنبيّة اليمنى. وقد مَهَّدت هذه الطرائقُ لتجاربَ أجراها تلامذةُ إريك كاندل، الذي وصفت أبحاثُهُ—ونال عنها نوبل—ذاكرةَ العصبون: الآلياتِ الحيويّة-الميكانيكيّةَ الأساسية للتعلّم. لقد أسهم التشريحُ الحي لكلّ تلك الرخويّات في تحقيق تقدّمٍ كبير في علم الأعصاب، وترسيخِ مفاهيمَ مثل الاعتياد والتحسُّس، على الرغم من الدلالةِ الصريحة التي نُفضِّل نحنُ الأحياءَ أن نتغافل عنها: كان لا بدّ أنّ ذلك مؤلم.
يساء تعريف الإدراك الحسّي (Sentience) عادةً. يخلط الكثيرون بينه وبين الوعي (Consciousness) أو الوعي الذاتي (Self-awareness)، لكن أصله اللغوي ينبع من الفعل اللاتيني sentire: الذي يعني أن «يشعر» (to feel). يعود أول استخدام معروف له في اللغة الإنجليزية إلى القرن السابع عشر، في إشارة إلى «قوة... الإدراك الحسي.» ويعرّف قاموس ميريام وبستر الإدراك الحسّي بأنه «الشعور أو الإحساس كمُتَميِّز عن الإدراك والتفكير» [التمييز من الكاتب]. وهو أحد الحواس البشرية الخمس الأساسية، الحسّ اللمسي الذي تحمله الإشارات الكهربائية عبر الجهاز العصبي. الإدراك الحسّي هو أكثر من مجرد ألم؛ إنه الإشباع الناتج عن حكّة ما وتحفيز الدغدغة، ودفء المداعبة وبرودة القبلة الأولى. لكن الألم الحاد هو أشد أشكاله وضوحاً وعالميةً - إنه تجلٍّ لعملية عصبية تُعرف باسم استشعار الأذى (Nociception): أي إدراك المحفزات الضارة.
تمتلك مجموعة كبيرة ومتنوعة من أشكال الحياة مستقبلات الأذى (Nociceptors) وغيرها من الآليات العصبية المرتبطة باستشعار الأذى، مما يشير إلى أن الألم هو تكيف تطوري أساسي. على مدى مليارات السنين، تفرّعت الشبكات العصبية البسيطة التي تُحيي الإسفنج وقناديل البحر لتُصبح ذات تعقيد مذهل، مانحةً قدرات إدراكية خارقة، بدءاً من فنون الهروب لدى الأخطبوط وصولاً إلى الذاكرة المكانية لإنسان الغاب (الأورانغوتان). هذه الإنجازات المعرفية مبنية على التراث المشترك لجميع أشكال الحياة الحيوانية: القدرة على الشعور.
من الضروري التمييز بين المفاهيم الملموسة مثل الإدراك الحسّي والإدراك (Cognition) - الذي هو معالجة الإحساس - وبين الأفكار المُجرّدة، مثل الوعي والعاطفة. وصف فلاسفة الماضي معيار الوعي بأنه «التجربة الذاتية» (Subjective experience)، وهو معيار يُستخدم غالباً بالتبادل مع الإدراك الحسّي. ومع ذلك، لا يمكن إثبات هذه التجريدات تجريبياً. فالدليل الموضوعي على التجربة الذاتية هو تناقض لفظي، ومعيار مستحيل يضع الحيوانات في موقف الفشل. مع ذلك، يسمح لنا مفهوم الإدراك الحسّي بالاعتراف بأن
الأنواع الأخرى يمكن أن تعاني، حتى لو لم نتمكن أبداً من معرفة ما تفكر فيه. الوعي هو سؤال فلسفي لا نهاية له. لتقييم الإدراك الحسّي، دعونا نتعامل مع الظواهر القابلة للملاحظة.
ظلّ العلم الغربي متردداً في الاعتراف بالإدراك الحسّي للحيوانات الأخرى، تماماً كما كان متردداً تجاه النظريات الأخرى التي تحدّت أسطورة التفوق البشري، مثل الانتخاب الطبيعي أو نموذج الكون الذي يتمركز حول الشمس (المركزية الشمسية). فمنذ العصور القديمة، أكد المفكرون البارزون بثقة أن الحيوانات الأخرى خالية من العقل وغير قادرة على المعاناة. كان هذا الاعتقاد هاجساً في الفلسفة الغربية، بدءاً من أرسطو وصولاً إلى ديكارت، الذي أعلن أن الحيوانات الأخرى هي «آلات صماء» بلا روح، وذلك بينما كان يشق صدورها ويقطع قلوبها النابضة.
بينما يعتقد معظم الناس اليوم أن الثدييات التي شوّهها ديكارت عانت أيما معاناة، لا تزال حجج مماثلة قائمة فيما يتعلق بأنواع مثل الأسماك. وردًا على الاعتراضات التي ظهرت مع انتشار هواية صيد الأسماك في الستينيات، صاغ عالِم الأسماك الجنوب أفريقي ج.ل.ب. سميث بعض الحجج العلمية الأولى التي تنكر الإدراك الحسّي للأسماك، مُبررًا ذلك بأن الحياة البحرية «بدائية»، وهو نفس السبب الذي جعله يعتقد أن الأفارقة يشعرون «بألم أقل نسبيًا من البيض». ورغم أن الباحثين أظهروا لاحقًا أن أدمغة الأسماك تظهر نشاطًا كهربائيًا عند تعرضها للمحفزات الضارة، وأنها بعد ذلك تتنفس بصعوبة، وتحكّ إصاباتها، وتبحث عن مسكنات؛ إلا أن نقطة سميث الأساسية لا يزال لها تأثيرها.
غالباً ما يتم وضع معيار الإدراك الحسّي في العلم عند مستوى عالٍ بشكل استثنائي، حيث يتم تغيير «أهداف اللعبة» إلى معايير لا نتوقعها كدليل على وجود أنظمة حسّية أخرى. على سبيل المثال، عندما نلاحظ أن حيوانًا آخر لديه عيون وظيفية، يندر من يشكك في قدرته على الرؤية. ولكن عندما يُقدَّم دليل على أن حيوانًا ما لديه أعصاب، فإن قدرته على الشعور تثير جدلاً حاداً. قد يعترف البعض بأن الحيوانات التي لديها مستقبلات الأذى قد تشعر، لكنهم يتساءلون: «هل يمكنها أن تشعر بالألم؟». هذا يشبه النظر إلى الخلايا العصوية المستقبلة للضوء والتساؤل: «ولكن هل يمكنها رؤية الظلال؟». هذا هو بالتحديد الغرض من العضو - ويمكننا اختبار ما إذا كان يعمل من خلال ملاحظة رد فعل الحيوان على أي مُحفّز. بالطبع، لا يمكننا أبداً معرفة ما يختبرونه بالضبط، لكن وجود مستقبلات وظيفية يُعتبر دليلًا كافيًا على الرؤية، والشم، واستقبال الصوت، ومع ذلك فقد خصصنا استثناءً للإدراك الحسّي. هذا ليس تشكيكًا فطنًا، بل هو تنافر إدراكي (Cognitive dissonance).
نتيجةً لهذهِ التعمية المقصودة لمسألة الإدراك الحسي، باتت مؤشراتٌ معرفية أعقد بكثير تُقبَل بسهولة أكبر. خُذ مثلًا اختبار التعرّف على الذات في المرآة: يُعرَض على الحيوان انعكاسُه أولًا، ثم تُوضَع علامة على وجهه ويُعرَض عليه المرآة مجددًا لاختبار ما إذا كان سيُشير إلى العلامة أو يتفاعل معها. اعتُبرت أوائل هذه التجارب على الرئيسيات اختراقاتٍ علمية في طريق إثبات وجود حس بالذات لدى غير البشر، ثم طُبِّقت على أنواع أخرى فأصبحت أشبهَ بـ«معيار» إدراكي.
لكن اختبارات المرآة منحازةٌ بطبيعتها إلى الأنواع المعتمدة على البصر، وإلى الكائنات التي تمتلك أطرافًا للإيماء أو عضلات وجهٍ تُظهِر ردود الفعل. ومع ذلك، يُعتبَر اليوم أن حيواناتٍ من النمل الأحمر إلى أسماك الميلج قد نجحت في هذا الاختبار، الأمر الذي يتحدّانا إلى فحص افتراضنا التلقائي بإن الحيوانات الأخرى بلا وعيٍ أو بلا إحساس حتى يَثبُت العكس. وبدلًا من ذلك، وبالنظر إلى أنه لم يُثبَت قطّ أن حيوانًا ما يفتقر إلى الوعي، تبدو الأدلة أمتن بكثير لنموذجٍ جديد: أن ننطلق من افتراض أن جميع الحيوانات الأخرى واعيةٌ بذواتها.
ومع ذلك، فإن إحساسنا وإدراكَنا لذواتنا لا يجعلاننا كائناتٍ أسمى. كثيرًا ما حاول الفلاسفة استخدام الإدراك الحسّي «لرسم الخط» الفاصل للقيمة الأخلاقية على شجرة الحياة المأثورة. في عام 1975، وضعه بيتر سنغر «في مكانٍ ما بين الروبيان والمحار» في كتابه «تحرير الحيوان»، مجادلًا بأنّ الرخويات ثنائية المصراع لا تمتلك قدرةً على الإحساس والإدراك. لكنه لم يتفكر جيدًا.
يُولد كل محار كيرقة عوالقية، في مرحلة تحول تُسمى التروفوفور (trochophore). وبعد أسابيع عدّة يبدأ طورُها اليرقيّ الأخير، البيديفليجر (pediveliger)، في البحث عن موطن، مُصغيًا إلى صوت الشعاب المرجانية. مثل يرقات الأسماك والقشريات والشعاب المرجانية، تميل هذه الصغار المعتمدة على الإشارات الصوتية إلى الاستقرار في مواطنَ صحيّة. وهناك، يتخذ المحار شكله النهائي، ويعيش لعقود في تجمعات. تُظهر مستعمرات المحار سلوكًا اجتماعيًا رائعًا؛ حيث تعيد تنظيم نفسها استجابة للتغيرات في الضوء والضوضاء وكيمياء المياه.
لا تقلُّ الأنواع الأخرى من الرخوياتُ ثنائيةُ المصراع تعقيدًا. فـالبَطْلينوس يضخّ الماء لتشتيت رائحته عند اقتراب أي مفترس، ويخفي عباءته الحسّاسة عند مرور الظلال فوقه. ويميّز بلحُ البحر روائحَ المفترسات: يحفر أعمقَ عند
اقتراب الكَرْكَنْد، ويتكتّل حين يشمّ الحلزون الحفّار. كما يستطيع التعلّم من التعرّض السابق لديدان المثقّبات (تريمتودا) الطفيلية، فيُدخِل ماءً أقلّ ويُحجِم عن الطعام اتّقاءً للعدوى. أما الإسكالوب فيكوّن صورة ذهنية لبيئتِه اعتمادًا على عيونِه الكثيرة، ليحاول الفرارَ من شِباك الجرف، لكنه يضطرب تحت الأضواء الساطعة كالغزلان. وبالطبع -تمامًا مثل أقاربهم بطنيات القدم في المختبرات- تتجنّبُ ثنائيّاتُ المصراع المحفزات الضارّة.
ومع بقاء الجدل محتدمًا حول حقيقة إحساس ثنائيات المصراع وبطنيات القدم، يذهب فريقٌ إلى أنها بلا جهاز عصبي مركزي ولا دماغ -وهو قولٌ يُشكِّك فيه علماء الأحياء البحرية، ويمكن من حيث المنطق سحبه على جميع اللافقاريات.يشملُ الجهازُ العصبيُّ المركزيُّ لدى الفقاريات النخاعَ الشوكي، وهو ما تفتقرُ إليه اللافقاريات بطبيعة الحال. فإذا كان النخاعُ الشوكيُّ شرطًا للإحساس، لكان السَّهْميّ (الأمفيوكسِس) «مقبولًا» ولَكان الأخطبوط «مرفوضًا». ثمّ إن «أدمغة» اللافقاريات - كدماغ الأخطبوط - بُنى تماثليّة لأدمغتنا لا مطابقة لها؛ ونحن نقول أيضًا إن للأخطبوط «أذرعًا»، ولا يعني ذلك، بداهةً، أنّها تؤدّي وظائف أذرعنا نفسها. فكِلا دماغَي الإنسانِ والأخطبوط مركزٌ للمعالجة العصبيّة، لكنهما مُنشآن من أعضاء مختلفةٍ كليًّا وبتنظيماتٍ متباينةٍ إلى حدٍّ بعيد. وأخيرًا، إن عُدَّت المركزيّة قرينةً على الوعي، فقد لا يَستوفي الأخطبوطُ هذا المعيارَ أيضًا؛ إذ إنّ نحو ثلثَي عَصَبوناته تقعُ خارجَ البنية الدماغيّة المركزيّة، موزَّعةً في عُقَدٍ شبيهةٍ بالدماغ داخلَ كلّ زائدة.
بالطبع، لا تمتلك المحارةُ التعقيدَ المعرفيَّ نفسَه الذي يمتلكه الأخطبوط؛ لكن الاستدلالَ بإدراكِ الأخطبوط المتقدّم لتبرير تجاهُل إدراكِ المحارة هو المنطقُ نفسُه الذي يستند إلى عقلِ الإنسان لتسويغ استغلال الدجاجة. وفي الوقت نفسِه، تطوّر الجهازُ العصبيُّ المذهل للأخطبوط تقاربيًا مع جهازِنا من جهة، وتباعديًا عن أسلافه الرخويّة من جهةٍ أخرى- وهم يشتركون، كسائر اللافقاريات، في الأعضاء والآليات العصبيّة الأساسية - كما نشترك نحن مع الثدييات والزواحف والأسماك. وهكذا فإن الإحساس يتجلّى عبر طيفٍ واسعٍ من الحياة، بطبقاتٍ وتعقيدات عديدة.
وهذا- بطبيعة الحال - يُثير سؤالَ الإدراك الحسي لدى النبات. فلا جدال في أنّ النباتات تستجيب لضرر الأنسجة، وأحيانًا للمثيرات اللمسية. ولا ريب أنّ الحيوانات، بفضل أجهزتها العصبية الفريدة، تمتلك قدرةً مميَّزة على الإحساس بالألم؛ لكن هل يمكن أن يكون للنباتات حسٌّ مُماثِل، تستخدم فيه نواقلَ كيميائية عبر الأنسجة الوعائية بدل إشاراتٍ كهربائية عبر الأعصاب؟ لعلّنا لن نعلم ذلك أبدًا.
ومع ذلك، فإن إمكانَ وجود إحساس لدى النبات لا ينبغي أن يدفعنا إلى رفض حقوق الحيوان؛ بل العكسُ هو الصحيح: إنّه يحملنا على الاعتراف بها على نحوٍ أمتن. فعددُ النباتات التي تُقتل سنويًا لغذاء البشر يفوق - بلا قياس - حتى تريليونات الحيوانات، ومع ذلك فإن أكثر من ثلث العائد الحراري من تلك النباتات وأكثر من ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية كلّها تُسخَّر لتربية الحيوانات. وأيض الحيوان لا يستطيع أن يُحوِّل إلا جزءًا يسيرًا من الطاقة والمواد المغذّية التي يستهلكها؛ لذا لا يصل إلى البشر سوى نحو 12% من السعرات الحرارية المُتجسّدة عالميًا في أعلاف الحيوانات. وبناءً عليه، فإن نظامًا غذائيًا قائمًا على النبات يستتبع قتلَ عددٍ أقلَّ بكثير من النباتات والحيوانات معًا - سواء في المزارع أم في النُّظُم البيئية التي أُزيحت لتطويرها.
إن العوالمَ الباطنةَ لأشكال الحياة الأخرى مدهشةٌ على نحوٍ لا يُحَدّ. فالنباتاتُ تتعلم وتتذكّر أين تجد الضوءَ والموادَّ المغذّية. والفطرياتُ تُقيِّم محيطَها وتتخذ قرارات بشأن أين وكيف تنمو. وحتى البكتيريا تُظهِر تواصُلًا اجتماعيًا بالغَ التعقيد. ودلالاتُ هذه الحقائق تدعونا لا إلى إسقاط أفكارنا نحن على «عقل» فطرٍ ما، بل إلى أن نفتح خيالَنا على طرائقَ قد ترى بها الأنواعُ الأخرى العالمَ بما لا نقدر نحن على تصوّره. ومع ذلك، ثَمّةَ شيءٌ واحدٌ قطعاً ليس ذا إحساس - ولن يكون أبدًا - هو البرمجيات. بوصفي مُبرمِجًا، لقد أنشأتُ ودرَّبتُ نماذجَ تعلُّمٍ آلي. يصحُّ أن ننسبَ إليها نوعاً من «الذكاء»، لكننا نصفُه اصطناعيًا لسببٍ وجيه. ما تتشاركه البرمجيات مع ذكائنا الحيوي هو القدرةُ على معالجة المنطق. في الواقع، تفوقُ قدرةُ الحاسوب على تنفيذ إجراءٍ منطقيٍّ قدرتَنا تفوّقًا هائلًا - سرعةً وحجمًا - وذلك تحديدًا لأنّه لا يُفكِّر. أمّا قدرتُنا نحن على الاستدلال المنطقي فتلوّنها - وأحيانًا تُقَيِّدها - ملكّاتُنا الإدراكية الأساسية، أي إحساسُنا.
إن فكرةُ «الذكاء الاصطناعيٍّ الحساس» الدارجة، والمرتبطةُ بصعود النماذجِ اللغوية الحوارية، تُخفي سوءَ فهمٍ جوهريًّا. أوّلًا، هي تخلط بين الإحساس والوعي. فكونُ نموذجٍ لغويٍّ يعيد نصًّا تنبّئيًا -مهما بدا صحيحًا أو مُقنِعًا- لا يدلّ على أنّه يشعر بالألم. ولعلّ المركبةَ الذاتيةَ القيادة تبدو مرشّحًا «أفضل» للإحساس، لما لديها من مجسّاتٍ لمسية تبعث إشاراتٍ إلى رقاقة معالجة لإبلاغ قرارات الملاحة. ومع ذلك، فهذا بعيدٌ كلَّ البعد عن استشعار الأذى (nociception).
ومع ذلك، حقّقت تطوّراتُ الروبوتيات الحديثة محاكاةً لاستشعار الأذى. فمثلًا، تستطيع نماذجُ أوليّة من الأطرافِ الاصطناعية المزوّدة بحسّاساتٍ حراريّة دقيقة أن تُرسل نبضاتٍ إلى الجهاز العصبي، مولِّدةً منعكسًا يقي من الحروق. غير أنّ هذا، في جوهره، تعزيزٌ لحاسّة اللمس لدى المستخدم، على غرار المُعينات السمعيّة. ومع هذا، صُمِّمت روبوتاتٌ تجريبيّةٌ بمِمريستوراتٍ لمسيّة ووظائفَ ترصدُ الضرر وتتجنّبه. يجوز أن نسمّي ذلك استقبالًا مؤلمًا اصطناعيًا، لكن: أهو إحساس؟ فالألمُ أكثرُ من مجرّد منعكس. هل نستطيع أن نتبيّن في آلةٍ العلاماتِ التي نراها في الحيوانات الأخرى؟ كيف ستبدو إذن؟ أسترتجف أذرُعُها الميكانيكيّةُ فزعًا؟ أتَطرأ على سوائلِها الهيدروليكيّة «قفزةُ توتّر»؟ أتدمعُ مستشعراتُ كاميراتِها؟ أحقًّا تعاني؟
تظل فكرةُ «إحساسِ» الآلة داخل نموذجٍ مُضلِّل يقيس ذكاءَ غير البشر بقدرِ ما يُشبه سلوكَ البشر. ومن المؤسف أن يكون مجتمعُنا كريمًا إلى هذا الحدّ في افتراض إحساسِ الآلات، شديدَ الارتياب في الوقت نفسه من سائر الكائنات. نتعاطفُ مع برمجيّةٍ تُخرِج: «لا أريد أن أموت»، من غير أن نكلّف أنفسنا تعلّم اللغات التي يستخدمها الآخرون ليقدموا ذات التوسل.
كلُّ حياةٍ ذاتُ قيمة. وحتى لو لم تكن ذاتَ إحساس، فلا ينبغي قطعُ زهرةٍ برّيّةٍ مُهدَّدةٍ أو شجرةِ «السيكويا الساحلية» العتيقة. ومع ذلك، فمن المنطقيّ والنبيل أن نُوسِّع حِمى خاصّة للحيوانات، إذ نعلم أنّها قادرةٌ على الإحساس بالألم. ومن الطبيعيّ أن نميل إلى أبناء جنسنا من البشر، وأن نشعرَ بوصلٍ يصعب وصفُه مع حيواناتٍ نحبّها. لكن علينا الإقرارَ بأنّ هذا التفضيل لا يستندُ إلى أساسٍ موضوعيّ. فكما يصحّ أن نقدّر الكلاب يصحّ أن نقدّر القطط - وبالمقدار نفسِه الخنازيرَ والدجاجَ والأنشوجةَ والمحارات. إن تأسيسَ حجّةِ حقوقِ الحيوان على القيمة الكونيّة لكلّ حياةٍ يمنحُنا إبستمولوجيا أمتن، لا تُقوِّضُ نفسها بمفاضلةِ الأنواع بعضها على بعض.
جميعنا نعرفُ كيف يكون الوجعُ، وأحيانًا بما لا يبلغه وصف. في تلك اللحظات لا نريدُ أكثر من اعترافِ أحدٍ بألمنا. إن الإحساس يزوّدنا بإشاراتٍ حدسيّةٍ مشتركةٍ تعيش في أحشائنا، نتعرّفُها فطريًا في غيرنا، لكنّنا مُدرَّبون على الشكّ فيها. وأشكالُ الحياة الأخرى لا تستطيع أن تَصِفَ لنا ألمَها، ومع ذلك يمكننا أن نُصغي. وإن كان لا بدّ من رسمِ خطٍّ للقيمة الأخلاقيّة على شجرة حياتنا، فينبغي أن يكون أسفلَها، عابرًا الجذورَ المشتركةَ التي ننبتُ منها جميعًا. عالَمُنا أعقدُ وأبهى بما لا يُقاس ممّا توهِمُنا به أسطورةُ تفوّق الإنسان.
سبنسر روبرتس «سبنسر روبرتس كاتبُ علوم، وعالِمُ بيئة، وموسيقيّ، ومهندس من ولاية كولورادو.
ترجمة: زهرة ناصر
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحیوانات الأخرى أکثر من ومع ذلک التی ت مع ذلک إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا فنزويلا..؟!!
الدكتور/الخضر محمد الجعري
فنزويلا بلد في امريكا اللاتينية تبلغ مساحته ٩١٦ الف كيلومترا مربعا ويبلغ تعداد سكانه ٣٤ مليونا نسمة
وهو من اكثر بلدان امريكا اللاتينية تحضرا وعاصمته كركاس ..
بلد غني بالمعادن والنفط ويعتبر من اكبر البلدان المصدرة للنفط بل تحتوي فنزويلا على اكبر احتياط نفطي في العالم ..
اتخذت فنزويلا سياسة استقلالية واضحة واكثر تضامنا مع كوبا وكولومبيا حيث الانظمة الوطنية الأكثر جذرية في مواقفها الى جانب القضايا العادلة في العالم وفي مقدمتها القضية الفلسطينية..
تميز رؤسائها منذ عهد الرئيس تشافيز باتخاذ مواقف وطنية تميل الى النزعة الاستقلالية ومقاومة الهيمنة الأمريكية في مصادرة حقها في السيادة واتخاذ القرار..مما أثار غضب مختلف الادارات الأمريكيةالمتعاقبة والتي اصبحت تحتضن وتشجع المعارضين لهذه الانظمة التحررية بل وتمرر حتى قرارات لجنة نوبل للحصول على هذه الجائزة لعام ٢٠٢٥م كما حصلت المعارضة الفنزويلية اليمنية(ماريا ماتشادو) ضمن حملة تهيئة الأرضية للتحريض ضد الرئيس الثالث والخمسين في تاريخ فنزويلا الرئيس نيكولاس مادورو..
لهذا بدأت الإدارة الامريكية برئاسة دونالد ترامب..بخلق المشاكل للرئيس نيكولاس مادورو تحت ذرائع متعددة منها محاربة المخدرات واحلال الديمقراطية ..ومحاربة الهجرةغير الشرعية..وهي ليست إلا غطاء للتدخل في شئون فنزويلا الداخلية
وصلت حد حشد حاملات الطائرات الأمريكية والسفن الحربية والاستعداد لتغيير نظام الحكم بالقوة عبر الغزو أو حتى الأغتيال للرئيس مادورو..في تحد صارخ للقانون الدولي في احترام سيادة واستقلال الدول..وفي تكرار لمسلك الادارات الامريكية السابقة ..
حيث غزت بنما واختطفت رئيسها مانويل نورييجا في ديسمبر ١٩٨٩م في عهد الرئيس الجمهوري بوش الأب.
وفي أبريل ١٩٨٦م نفذت القوات الجوية والبحرية الامريكية ضربات على مقر الزعيم معمر القذافي في ليبيا بأمر من الرئيس الامريكي الجمهوري ايضا رونالد ريجان..
وحاليا كل التحشيد الامريكي في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب يشير الى التهديد بغزو مماثل أو ضرب مواقع حساسة في فنزويلا على الاقل.
..لكن الأسباب الحقيقية ليست لحسن عيون المعارضة الفنزويلية ولا حبا في فرض ديمقراطية امريكية على شعب فنزويلا ولا لحرب المخدرات ..بل لأسباب تتعلق بالاستحواذ على الثروة النفطية الهائلة وثروات المعادن النادرة واخضاع سياسة فنزويلا للإدارة الامريكية حتى تصبح تابعه ومنفذه لاجندات وسياسات الإدارةالامريكية..
وتفكيك كل الجبهات المقاومة لسياسات ونزعة الهيمنة الأمريكية ليس في امريكا اللاتينية فقط..بل وفي كل دول العالم..ولتخويف كل من يقف في وجه العربدة والهيمنة الأمريكية المنفلتة.