لجريدة عمان:
2025-11-18@07:26:40 GMT

ولكن ما شأن السياسة بالعلوم ؟

تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT

ولكن ما شأن السياسة بالعلوم ؟

نوف السعيدي -

بالنسبة لكثيرين، فالسياسة والعلم هما -تقريبًا- نقيضان، إذ يُشغل العلم بالنظر في الحقائق، بينما تنشغل السياسة بممارسة السلطة والتفاعل معها. يحكمُ العلمَ المنطق وينتصر للحقيقة، فيما تحكم القوة الممارسة السياسية. وبهذا المعنى فطبعُ العلمِ النزاهة، وديدن السياسة الدهاء. (واعذروني على الأسلوب الذي يفضح انهماكي بمتابعة المسلسلات التاريخية هذه الأيام).

ما دخل السياسة في العلم؟ يسأل كثيرون من بينهم كُتّاب العلوم الذين أعمل معهم في سياق تحرير هذا الملحق وخارجه. ينطلق هذا السؤال من تصور العلم منفصلاً عن السياقات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية والاقتصادية التي يُمارس ضمنها. أنا لا أتفق معهم ليس لأن النقد السياسي ضروري فحسب -أيًّا يكن موضوع النقاش-، بل لأن العلم يُنزل منزلة خاصة، وله سلطة مستمدة من الثقة الممنوحة له. وعلينا أن نكون دائمًا متأهبين لالتقاط أصغر الإشارات على استعمال العلوم سياسيًا.

في محاولتي للتدليل على ضرورة قراءة العمل العلمي وآراء العلماء ضمن هذه السياقات، أختار اليوم ألّا أستشهد بموضوعات علمية كُبرى -كتطوير الأسلحة النووية، أو العسكرة التقنية- وإنما الاستشهاد بأمثلة مما يُنشر في هذا العدد تحديدًا، ليكون تدريبًا نقديًا عمليًا، اسمحوا لي بمشاركته معكم.

يُترجم لنا بدر الظفري في هذا العدد (الصفحة الثامنة تحديدًا) مقالًا بعنوان: «تراجع ثقة الجمهور بالأبحاث العلميّة منذ جائحة كوفيد: على علماء الفيروسات أن يوحّدوا إرشادات معايير السّلامة».

للوهلة الأولى، لا يبدو المقال أكثر من دعوة بريئة تضع الممارسات العلمية السليمة، وصحة البشرية أولوية لها. إنهم ببساطة قلقون من جائحة وشيكة ويريدون أن يستعدوا لها. هم قلقون أيضاً من أن تكون الجائحة التالية نتيجة تسريب مخبري؛ ولهذا يدفعون بمقترحهم لتوحيد ضوابط السلامة ومعاييرها حول العالم. لكن القراءة ما بين السطور ووضع الأمور في سياقها يكشف لنا الحرب الخفية الجارية في سباق لقاحات الفيروسات.

تبدأ القصة قبل نشر الكُتّاب الثلاثة -أريدكم أن تتذكروا منهم اسم ميلاني أوت (Melanie Ott) لأننا سنعود لها- مقالهم بنحو شهرين، تحديدًا في الخامس من أغسطس هذا العام، عندما أعلنت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية وقف تمويل بقيمة 500 مليون دولار مخصصة لأبحاث لقاح mRNA. جاء وقف التمويل لشكوك في سلامة التكنولوجيا (والتي طُورت وفقها لقاحات كوفيد). ولكون معرفتي ومجال اختصاصي لا يؤهلاني للحكم ما إذا كانت هذه التكنولوجيا خطرة، فلابد من الإشارة لاحتمال أن تكون هذه الادعاءات مجرد مبالغات من قِبل وزير الصحة الأمريكي الحالي في إدارة ترامب والذي -وبالرغم من أنه ليس ضد اللقاحات- يؤمن أنها تسبب أضرارًا على رأسها التوحد.

ومع أننا لم ندخل الموضوع الرئيسي بعد إلا أننا نرى بالفعل تأثير التوجهات السياسية والقيمية في العمل العلمي والموضوعات التي تخضع للدراسة. واحد من العوامل الأساسية التي تقرر زيادة الدعم أو تخفيضه في مجالات البحث العلمي المختلفة هو جدواها الاقتصادية وإمكانية تحوله إلى أصلٍ ثمين في المنافسة العالمية خصوصًا ضد الصين. مع هذا يبقى لأيدلوجية صناع القرار التأثير الأهم. وبغض النظر عن رأي الخبراء حول سلامة تقنية ما فإنَّ التمويل -كما رأينا- يُمكن أن يُسحب في أي لحظة إذا ما تخوفت الإدارة من تكنولوجيا ما، حتى وإن لم يكن التخوف مبررًا.

بعد وقف التمويل، بدأت سلسلة من ردود الفعل من الباحثين والمؤسسات البحثية التي طالها الضرر. كانت الحجج الأولية تتوسل بسلامة الأمريكيين. فتقول أن كينيدي -وزير الصحة والخدمات الإنسانية- «اتخذ مرة أخرى قرارًا غير مستند على أدلة علمية، يعرّض هذا البلد لخطر يُمكن في الواقع تجنبه».

فيما لجأ بعض الباحثين إلى اللغة التي يعتقدون أن إدارة ترامب تفهمها، ليتضمن حديثهم التشديد على ضرورة استباق الكوارث وتطوير منظومة إنتاج ضخمة تستوعب الطلب العالمي فيما لو وقعت جائحة جديدة. إذ صرح عالم الأوبئة الدكتور مايكل أوسترهولم (Michael Osterholm) لشبكة CBS News بأنه إذا ما اجتاحت جائحة العالم غدًا، فإن الطاقة الإنتاجية العالمية للقاح وفق الطريقة القياسية القائمة لن تنتج خلال 18 شهرا كاملة إلا ما يكفي ربع سكان العالم، ويقول: «نحن في حاجة ماسة إلى تقنية لقاح تمكننا من إنتاج لقاح يكفي العالم في غضون عام واحد».

ومنذ قرار سحب التمويل والدكتور مايكل ينذر بالشؤم من جائحة وشيكة أسوأ من كورونا، عبر كل صحيفة يصل إليها، ويكفي البحث عن اسمه في الإنترنت ليصلك الشؤم. المثير للاهتمام أن هذا النذير -كما يبدو لي- يحركه الكيد السياسي أكثر مما تحركه

يمكن اختصار السرديات -بالتتابع- في الآتي:

1. لا بد من التحضير للجائحة القادمة حفاظًا على حياة الأمريكيين.

2. مسار البحث هذا وتطوير سبل الإنتاج الضخم ذو جدوى اقتصادية عالية، وعلينا الاستعداد للفرص المستقبلية.

3. الجائحة قادمة وستكون أسوأ من سابقتها وعلينا أن نستعد لها منذ الآن.

أما المقالات التي تخرج هذه الأيام، كالمقال الذي ترجمه لنا الظفري فهو مثال على تغير الخطاب، وهو قائم على الآتي:

- سبب عدم ثقة الناس بالعلم هو أن الأبحاث التي تُجرى خارج الغرب -المملكة المتحدة، كندا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، أستراليا ونيوزيلندا- تُجرى في ظروف لا تلتزم بمعايير السلامة المطلوبة، وحتى نستعيد ثقة الناس بالعلم لابد من توحيد إرشادات السلامة عالميًا.

- بينما تتردد أمريكا في تمويلها البحثي تُكمل الصين عملها، وهو ما سيمنحها الأسبقية إذا لم يعد التمويل.

وبما أن المجلة العلمية «المرموقة» والنزاهة العلمية «المعهودة» يمنع كُتّاب المقال الثلاثة من المجاهرة صراحة بآرائهم، فإن ذلك باختصار ما يقولونه ضمنيًا. وهو بالمناسبة ما تقوله ميلاني أوت صراحة في مقال رأي لها نشرته على (The San Francisco Standard): «بينما تنسحب الولايات المتحدة من هذا المجال، تستثمر الصين مليارات الدولارات في ابتكارات mRNA، بهدف تجاوز الريادة الأمريكية في هذا المجال». يعيننا هذا التمرين السريع على تأكيد خلاصاتنا:

- تُقرر أيدلوجيا الساسة موضوعات البحث العلمي ومساراته.

- لا يُمكن أن يُرى تفاعل العلماء المعرفي إلا في سياق التطورات السياسية، ولابد من الإقرار بأنهم كغيرهم من البشر تحركهم الثقافة، القيم، بل وطموحاتهم العلمية.

- سباق الريادة، وسباق الهيمنة له وزن في قرارات التمويل.

- لا حياة للعلم كما يُمارس اليوم خارج أنظمة التمويل، والممولون يُمكن أن يؤثروا في موضوعاته وممارساته.

- يضطر العلماء أحيانًا لدخول اللعبة السياسية للحصول على التمويل، عبر حشد الرأي العام مثلًا.

- يُدرك العلماء أن التكنولوجيا الفائقة لا معنى لها بدون الثقة؛ ولهذا يولونها هذا الاهتمام.

- يتوسل العلماء الانجلو أوروبيين بالتنظيمات والتدابير العالمية لتمرير أجندتهم، ضمان الهيمنة، ضمان المركزية والتفوق العلمي، وليكون لهم يد للتحكم بالمنافسين التجاريين.

تُعلمنا التجربة أن التنظيمات والاتفاقيات الدولية تأتي معها بأجندة سياسية، ولعلكم قرأتم في عدد سابق كيف تُستغل قوانين الحماية الفكرية للهيمنة، السيطرة على الإنتاج الزراعي، والتحكم بالموارد الطبيعية.

لا نغفل أن للصين قوة ونفوذ وطرقها في تحدي الغرب لا تشابه بأي شكل طرق الجنوب العالمي. ولكن طرق الغرب مع ذلك لا تتغير.

قد يُتهم هذا المقال بالانحياز، وقد يُقال أن مراقبًا موضوعيًا من أوروبا أو أمريكا مثلًا قد لا يقرأ الأخبار بالحساسية التي نقرأ بها نحن (في آسيا، أفريقيا، أو أمريكا اللاتينية) الموضوع، نحن الذين يُلمح لأنهم بحاجة «لتهذيب» طرقهم البحثية (في البلدان التي رُزقت طرقًا علمية). هذا انحياز لا أنكره، لكن ما أنكره هو القول بموضوعية من يقبلونه. في الواقع، فالفرق الوحيد بيني وبين ذلك المراقب هو أن قبول الانحياز أسهل وأقل صخبًا من الاعتراض عليه.

ضمن الكُتّاب الثلاثة -الذين ترجم الظفري مقالهم- بروفيسور يعمل في الجامعة العِبرية في القدس، لكني سأؤجل الحديث عن التطبيع العلمي لمناسبة أخرى.

ملاحظة:

لعل من المهم الإشارة إلى تاريخ تقنيات تطوير اللقاحات والنقلة التي حصلت مع لقاحات كوفيد. الطريقة التقليدية للقاحات -كما نعلم- تعتمد على إضعاف أو قتل الكائنات العضوية الدقيقة المسببة للمرض من بكتيريا أو فيروسات وحقنها في جسم الإنسان على نحو يحفز الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة دون أن يُضر الجسم أو يمرضه، عدا المضاعفات الجانبية البسيطة. ومن الأمثلة عليها اللقاحات المستخدمة ضد الحصبة وشلل الأطفال.

أُدخلت تقنيات الهندسة الوراثية في تطوير اللقاحات في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ليُسفر عنها اعتماد أول لقاح معدّل وراثيًا -لقاح التهاب الكبد (ب)- عام 1986. في التسعينيات وبداية الألفية، انشغل الباحثون باستخدام الحمض النووي مباشرة كلقاح (لقاحات الحمض النووي)، وتمت الموافقة في 2006 على لقاح فيروس الورم الحليمي البشري (HPV). لتكون المرحطة المهمة القادمة مع جائحة كوفيد بتطوير اللقاح عبر تقنيات mRNA.

غير أن الصين اعتمدت في استجابتها لفيروس كوفيد على اللقاحات التقليدية التي تحتوي على الفيروس الكامل.

نوف السعيدي كاتبة في مجال فلسفة العلوم

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

أحمد سعد: عندي حفلة يوم الجمعة القادمة ولكن مش هتنطط

طمأن الفنان احمد سعد جمهوره بعد تعرضه لحادث سير، قائلا “الدكاترة طمنوني وقالولي أنه هستمر في المستشفى لمدة 5 أيام، ولكن سأقوم بعمل حفلة يوم الجمعة القادم ولكن مش هتنطط".

وقال أحمد سعد، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج “الحكاية”، عبر فضائية “أم بي سي مصر”، أنه أنا مستمر في إلقاء النكات لأن النكت مع البنج بتبقى فظيعة، حتى أن البنج زي الولد، ليرد الإعلامي عمرو أديب، أنا مروح".

واستمر الفنان أحمد سعد في إلقاء الفوازير والنكات، قائلا “أبو الهول لونه أصفر ليه، ليعلق عشان رجع من خوفه”.

طباعة شارك احمد سعد جمهور المستشفى حفلة البنج

مقالات مشابهة

  • شرسة هذا العام.. استشاري مناعة: يجب أخذ لقاح الإنفلونزا خاصة هذه الفئات
  • السياسة الخارجية المرتبكة لترامب عصيّة على التفسير
  • العقل الاِستراتيجي في سوريا.. فقه السياسة الشرعية وفكّ الاِشتباك مع العقيدة (1)
  • محمد صلاح: فكرت في العودة إلى الأهلي أو الزمالك ولكن!
  • العلماء هم بناة السلام.. ورشة بمتحف شرم الشيخ
  • مختصون يحذرون من خطر مقاومة المضادات الحيوية
  • أحمد سعد: عندي حفلة يوم الجمعة القادمة ولكن مش هتنطط
  • ماربورغ يصل إلى درجة الوباء في أثيوبيا.. هذا ما نعرفه عن فيروس بلا علاج أو لقاح
  • مختصون في الصحة يحذرون من خطر مقاومة المضادات الحيوية