مازن العبيدي -

لطالما ساد الاعتقاد عند العلماء بأن الدماغ البشري آلة جامدة لا تتغير بعد اكتمال نموها، وأن الخلايا العصبية تفقد ولا تُستبدل. لكن الأبحاث الحديثة قلبت هذا المفهوم تمامًا؛ فقد كشف الدكتور نورمان دويدج، عبر دراساتٍ وتجارب واقعية، أن الدماغ يتمتع بقدرة مذهلة على التكيّف وإعادة التنظيم تُعرف باسم اللدونة العصبية (Neuroplasticity).

هذه القدرة تعني أن الدماغ يستطيع بناء روابط جديدة بين الخلايا العصبية لتعويض الوظائف المفقودة أو لتقوية قدرات جديدة. لقد غيّر هذا المفهوم الثوري فهمنا للتعلم، والعلاج النفسي، وإعادة التأهيل الجسدي؛ فاليوم، نعلم أن أي إنسان، مهما تقدم به العمر، يستطيع إعادة تدريب دماغه على التعلم والتفكير والتركيز وحتى الإحساس من جديد، شريطة أن يمارس باستمرار أنشطة تحفز دماغه.

إن الدماغ يتغير باستمرار استجابةً للتجارب والتعلم؛ فكل فكرة أو مهارة جديدة نتعلمها تُعيد تشكيل شبكاته العصبية. فمثلا، عندما يتعلم الطفل القراءة، تتكون اتصالات جديدة بين خلاياه العصبية. هذا الفهم الحديث دفع العلماء إلى وصف الدماغ بأنه (عضلة فكرية) تزداد قوة ومرونة كلما استُخدمت. لفترة طويلة، ساد اعتقاد بأن نمو الدماغ يتوقف بعد سن المراهقة، وأن عدد الخلايا العصبية ثابت لا يتجدد. إلا أن الأبحاث التي أجريت في العقود الأخيرة والتي لخصت بواسطة الباحثة Selene Cansino، ولا سيما باستخدام تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، أثبتت أن الخلايا العصبية تستمر في تكوين روابط جديدة حتى في مرحلة الشيخوخة، وأن مناطق مختلفة من الدماغ قادرة على تولي وظائف أخرى عند الحاجة. هذا التحدي الجريء للمفهوم القديم أحدث تحولًا جذريًا في نظرتنا إلى قدرة الإنسان على التعلم مدى الحياة.

علاوة على ذلك، أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن العادات السلوكية والروحية، مثل التأمل واليقظة الذهنية (Mindfulness)، تُعيد تشكيل مناطق التحكم بالانتباه والعاطفة، مما يؤكد أن العقل يتأثر حتى بالتجارب النفسية الدقيقة.

من الأمثلة البارزة على اللدونة العصبية تطوير جهاز يستخدم اهتزازات خفيفة تُرسل إلى اللسان لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من فقدان التوازن على استعادته عن طريق الباحث Gabriel Leonard. يحوّل هذا الجهاز الصور أو الإشارات الحسية إلى نمط من الاهتزازات يلتقطه اللسان، ومن ثم يفسّره الدماغ على أنه قادم من الأذن الداخلية. تُثبت هذه التقنية المبتكرة قدرة الدماغ على تحويل المعلومات من حاسة إلى أخرى، مما يعني أنه قادر على (التعلم مجددًا) عبر مسار بديل. على سبيل المثال، استعادت إحدى المريضات، شيريل شولتز، التي فقدت توازنها بسبب دواء معين، قدرتها على ركوب الدراجة بعد استخدام الجهاز لبضعة أسابيع، مما يوضح كيف يمكن للتقنيات العصبية أن تمنح الأمل لمن اعتقدوا أن الشفاء مستحيل.

يعتمد مبدأ إعادة التأهيل العصبي (Neurorehabilitation) على تدريب الدماغ لاستعادة قدراته المفقودة إثر الحوادث أو الجلطات. في هذا العلاج، لا يتم التعامل مع الطرف المشلول بشكل مباشر، بل يُدرَّب الدماغ نفسه على إعادة تنشيط المسارات العصبية القديمة أو استحداث مسارات جديدة بديلة. من أشهر هذه الأساليب العلاج بالتحفيز القسري (Constraint-Induced Therapy)، الذي يقضي بتقييد الطرف السليم لإجبار الدماغ على إعادة تنشيط الطرف المصاب. ومع الممارسة اليومية، تستعاد الحركة تدريجيًا بفضل إعادة تنظيم الوصلات العصبية. لقد غيّر هذا المفهوم مستقبل العلاج الطبيعي والعصبي، وفتح آفاقًا واعدة لمرضى الشلل النصفي وإصابات الدماغ.

كشف الباحث Hagar Goldberg أن اللدونة العصبية لا تقتصر على علاج الإصابات فحسب، بل تمتد لتشمل التعليم والتطوير العقلي. فبرامج مثل (Fast Forward) استخدمت ألعابًا رقمية تحفز الدماغ على التعرف على الأصوات والتراكيب اللغوية بسرعة أكبر. وقد ساعدت هذه البرامج الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة أو ضعف السمع الإدراكي على تحسين مستواهم الدراسي بشكل ملحوظ. إن فهم كيفية عمل الدماغ أثناء التعلم مكّن المعلمين من تصميم بيئات تعليمية أكثر فاعلية، تركز على التكرار الذكي، والتدريب المتدرج، والتغذية الراجعة الفورية، وهي العوامل التي تعزز تكوين شبكات عصبية أقوى ويعززان مهارات التعلم طويلة الأمد.

مع تقدم الإنسان في العمر، تنخفض مرونة الدماغ وسرعة معالجته للمعلومات وتضعف الذاكرة قصيرة المدى، لكن الدماغ لا يفقد قدرته على التغيير. أظهرت الدراسات أن ممارسة الأنشطة العقلية، مثل حل الألغاز، والقراءة، وتعلّم لغة جديدة، أو العزف على آلة موسيقية – تُنشّط الدماغ وتُبطئ تراجعه. فالنمط مشابه للعضلات؛ إذا تُرك الدماغ دون تدريب يضعف، وإذا حُفّز بالنشاط يزداد حيوية. ويؤكد العلماء أن كبار السن المشاركين في الأنشطة الاجتماعية والتطوعية يحافظون على نشاط أدمغتهم بدرجة أكبر، إذ إن التفاعل الاجتماعي يُنشّط مناطق الذاكرة والعاطفة في القشرة الدماغية.

يُعد ألم الشبح (Phantom Pain) أحد أروع الأمثلة على قوة اللدونة العصبية. فعندما يُبتر طرف ما (كالذراع أو الساق)، تختفي المستقبلات الحسية في ذلك الجزء من الجسم، لكن الدماغ لا يدرك ذلك فورًا؛ إذ تظل الخريطة العصبية الخاصة بهذا الطرف محفوظة في القشرة الحسية الجسدية. كل جزء من الجسم يقابله منطقة محددة في الدماغ تُعرف بـ (خريطة الجسد). بعد البتر، تبقى هذه المنطقة نشطة وتتوقع إشارات لم تعد تصلها، فتبدأ بإطلاق إشارات عصبية عشوائية يفسرها الدماغ على أنها ألم قادم من الطرف المفقود. بعبارة أخرى، لا ينبع الألم من العضو المصاب بحد ذاته، لكن من إدراك الدماغ له وتصوره لوجوده.

في التسعينيات، ابتكر الطبيب فيلايانور راماشاندران طريقة مبتكرة لعلاج ألم الشبح، تُعرف بـ(العلاج بصندوق المرايا). وفيها، يُوضع المريض أمام صندوق يحتوي على مرآة تعكس صورة الطرف السليم، فيبدو وكأن الطرف المبتور لا يزال موجودًا ويتحرك. عندما يرى المريض هذه الصورة، ينخدع الدماغ بصريًا ويبدأ بإرسال إشارات عصبية جديدة إلى المناطق التي كانت مرتبطة بالطرف المفقود، مما يعيد برمجة الخريطة العصبية ويقلل الألم تدريجيًا. تُظهر هذه الظاهرة أن الألم تجربة إدراكية عصبية أكثر منها جسدية؛ فالدماغ قادر على خلق الألم أو إزالته بناءً على نوع الإشارات التي يستقبلها من الحواس والتدريب. وبذلك، يُعد ألم الشبح مثالًا تطبيقيًا لقدرة الدماغ على إعادة التشكيل (Rewiring)، وهو جوهر اللدونة العصبية. وتتضح المرونة العصبية هنا في عمقها؛ فهي لا تقتصر على التعلم واكتساب المهارات، لكنها تمتد لتشمل إعادة تنظيم الدماغ استجابةً للتغيرات الجسدية أو الحسية.

الدماغ الذي يتحدى المستحيل

كان الاعتقاد السائد أن النصف الأيسر من الدماغ مسؤول عن اللغة والمنطق، بينما النصف الأيمن مسؤول عن الإبداع والموسيقى. تُعد قصة السيدة ميشيل ماك من أكثر القصص التي أدهشت العلماء، إذ ولدت بلا النصف الأيسر من دماغها. ورغم ذلك، نجح نصفها الأيمن في تولي مهام اللغة والذاكرة والكلام، وهو إنجاز كان يُعتبر مستحيلاً في السابق. لقد أثبتت حالتها أن الدماغ، حتى في الظروف القاسية، يتمتع بقدرة مذهلة على التكيف والتعويض؛ فقد أعاد النصف الأيمن بناء شبكاته ليضطلع بمهام التفكير المنطقي والتحليل اللغوي، وهما وظيفتان كانتا تُنسبان تقليديًا إلى النصف الأيسر. فعندما يتضرر أحد الفصوص أو النصفين، لا يقتصر الأمر على (تعويض) النصف الآخر، بل تُعاد هيكلة الشبكات العصبية بالكامل لتُنشئ مسارات جديدة. لقد فتحت قصة ميشيل آفاقًا جديدة لأطباء علاج الأطفال الذين يعانون من تلف أو أورام دماغية، مؤكدة أن الأمل لا يحدده ما تظهره الصور الإشعاعية، لكن تظهر قدرة الدماغ على التجديد والإبداع. يعد الدماغ منظومة حية تنبض بالحياة والقدرة على التعلم والتجدد. فكل تجربة نخوضها وكل تحدٍّ نواجهه يترك بصمته ويعيد تشكيل أدمغتنا للأفضل أو للأسوأ. وهنا تكمن أهمية التدريب الذهني والتحفيز العقلي والانخراط في التعلم المستمر؛ فهذه ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي وسيلة ضرورية للحفاظ على صحة الدماغ وجودة الحياة. ومهما كانت الصعوبات التي نواجهها، يظل الأمل قائماً في أن عقولنا قادرة على إعادة بناء ذاتها، تماماً كما يرمم الجسد جراحه بعد الشفاء.

اللدونة العصبية في حياتنا اليومية

تُعدّ اللدونة العصبية (Neuroplasticity) أساس التعلم والنمو المستمر، فهي القدرة المدهشة للدماغ على التكيف، وبناء وصلات عصبية جديدة استجابةً للتجارب والمعرفة. حيث بالإمكان أن تصبح اللدونة العصبية رمزًا لقدرتنا على التجدد والتعلم المستمر، مهما تغيرت الظروف. وهي لا تقتصر على مرحلة الطفولة أو التعليم فحسب، بل تمتد لتعزيز الشيخوخة الصحية عبر التحفيز الذهني والنشاط الاجتماعي، مما يضمن بقاء الدماغ نشطًا ومبدعًا حتى في المراحل العمرية المتقدمة. على الرغم من ندرة الأبحاث العصبية المنشورة في عالمنا العربي، فإن ظهور مبادرات في مجالات علوم الأعصاب السلوكية والتعليم المعرفي يبشر باتجاه واعد لبناء قاعدة بحثية عربية في هذا المجال. فاللدونة العصبية ليست مجرد مفتاح للفهم العلمي للدماغ، لكنها هي رؤية إنسانية تعكس قدرة الإنسان - أينما كان - على النمو والتجدد وإعادة تشكيل ذاته.

د. مازن العبيدي أستاذ مساعد في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الخلایا العصبیة على التعلم الدماغ على على إعادة أن الدماغ

إقرأ أيضاً:

ثورة في عالم التكنولوجيا.. هل يستطيع الذكاء الاصطناعي كشف الكذب؟

تتطور أنظمة الذكاء الاصطناعي يوم بعد يوم، وتكتسب خبرات ومهارات بشرية تمكنها من محاكاة تصرفات البشر في كثير من المجالات، إلى أن وصلت إلى إمكانية تبادل أطراف الحديث مع الإنسان والتواصل معه اجتماعيا، ولكن هل يمكن أن تكشف هذه الأنظمة ما إذا كان شخص ما يقول الحقيقة أم يكذب؟

هل يستطيع للذكاء الاصطناعي كشف الكذب؟

سعى فريق من الباحثين من جامعتي ميشيجان وأوكلاهوما الأمريكيتين إلى قياس مدى فهم الذكاء الاصطناعي للنفس البشرية عن طريق استخدام هذه التقنيات الحديثة كما لو كانت جهازا لكشف الكذب.

وشملت الدراسة، التي نشرتها الدورية العلمية «Journal of Communication» المتخصصة في علوم التواصل، 12 تجربة شارك فيها أكثر من 19 مشارك في تجارب الذكاء الاصطناعي، وذلك لدراسة مدى قدرة شخصيات الذكاء الاصطناعي على كشف الخداع والحقيقة لدى البشر.

ومن جانبه قال ديفيد ماركويتز، الأستاذ المشارك في قسم الاتصالات بكلية فنون وعلوم الاتصالات بجامعة ولاية ميشيجان والمؤلف الرئيسي للدراسة، إن هذا البحث يسعى إلى فهم مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على المساعدة في كشف الخداع ومحاكاة البيانات البشرية في البحث العلمي الاجتماعي، بالإضافة إلى تحذير المتخصصين عند استخدام نماذج لغوية كبيرة لكشف الكذب.

واستعان الباحثون بنظرية الحقيقة الافتراضية «TDT»، والتي تشير إلى أن الناس صادقون في معظم الأحيان، وأننا نميل إلى تصديق أن الآخرين يخبروننا الحقيقة، وقد ساعدت هذه النظرية الباحثين على مقارنة سلوك الذكاء الاصطناعي بسلوك البشر في المواقف نفسها، إذ أكد ماركويتز: «لدى البشر ميل طبيعي للحقيقة - فنحن نفترض عمومًا أن الآخرين صادقون، بغض النظر عما إذا كانوا صادقين بالفعل».

ولتحليل حكم شخصيات الذكاء الاصطناعي، استخدم الباحثون منصة Viewpoints لأبحاث الذكاء الاصطناعي لتعيين وسائط سمعية بصرية أو سمعية فقط للبشر ليحكم عليها الذكاء الاصطناعي، و طلب من محكمي الذكاء الاصطناعي تحديد ما إذا كان الشخص يكذب أم يقول الحقيقة وتقديم مبرر، وقد تم تقييم متغيرات مختلفة، مثل نوع الوسائط «سمعية بصرية أو صوتية فقط»، والخلفية السياقية، وأيضا المعلومات أو الظروف التي تساعد في تفسير سبب حدوث شيء ما.

يقول ماركوفيتز إن النتائج تشير إلى أن أداء الذكاء الاصطناعي لا يطابق الأداء البشري في كشف الكذب، وربما يمثل “الطابع الإنساني” حدًا لا يمكن تجاوزه في تطبيق نظريات كشف الخداع على النماذج الذكية.

وقد أظهرت المحصلة النهائية للتجارب أن النتائج التي حققها الذكاء الاصطناعي لا ترقى إلى نتائج البشر في اكتشاف الخداع، وأن الحس الإنساني ينطوي على أهمية بالغة في كشف الكذب.

وسلطت الدراسة الضوء على أن استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا الغرض قد يبدو نزيها ومحايدا، ولكن لابد أن تحقق هذه الصناعة تقدما ملموسا قبل إمكانية الاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي لاكتشاف الخداع.

اقرأ أيضاًالذكاء الاصطناعي في صدارة نقاشات أديبك 2025 حول مستقبل الطاقة

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تبتكر 16 وظيفة جديدة في الولايات المتحدة

مقالات مشابهة

  • رئيس جامعة سوهاج يلقي محاضرة لطلاب كلية الطب عن شلل الضفيرة العصبية الولادي
  • ثورة في عالم التكنولوجيا.. هل يستطيع الذكاء الاصطناعي كشف الكذب؟
  • الصين تدخل مرحلة جديدة مع سوريا
  • قيس سعيد .. الملك الرئيس الذي لم ينتخب يومًا غير نفسه
  • رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي يثمن جهود الرئيس السيسي في قيادة ملف إعادة الإعمار والتنمية
  • «التمويل الذكي».. ضرورة لإعادة بناء الشرق الأوسط بعد الحرب
  • بالصور: بلدية غزة تُطلق حملة "حنعمرها تاني"
  • العرب اللندنية: جهود إعادة الإعمار في بنغازي تعزز الأمل بمستقبل موحد لليبيا
  • "حنعمرها تاني".. حملة تطوعية لإعادة الحياة لغزة وإعمار ما دمره الاحتلال