أحمد بن محمد العامري

ahmedalameri@live.com

 

 

في كل عام، كان الثامن عشر من نوفمبر يحمل ذكرى عظيمة في قلب كل عُماني، فهو اليوم الذي يختزن في طياته تاريخ الوطن وروحه. منذ أن كان هذا اليوم عيدًا وطنيًا للسلطنة، ولكن أصبح يحمل اليوم بعدًا أعمق؛ فهو ليس مجرد تاريخ في التقويم، بل تحفة من ذكريات رجل بحجم الوطن، رجل طيب الله ثراه، السلطان قابوس بن سعيد، الذي اتّسع قلبه لكل أبناء عُمان دون استثناء، وكتب بيده التاريخ الحديث لهذا الوطن، ذكرى ميلاده لمن عاش عصره ليست مجرد احتفال بعيد ميلاد شخص، بل هي فرصة للتأمل في مسيرة رجل غيّر وجه عُمان، وأرسى فيها أسس السلام والوحدة والتسامح.

لقد استطاع السلطان قابوس، بفضل الله ثم بحكمته وبعد نظره، أن يخرج أهل عُمان من ضيق المذاهب إلى فسحة الإسلام، ومن ضيق الطائفية إلى فسحة الإنسانية، ومن ضيق المناطقية إلى اتساع أفق الوطن بأكمله، حتى غدت عُمان نموذجًا يُحتذى به على المستوى الإقليمي والعالمي. لم يكن الطريق سهلاً، فقد احتاج إلى رؤية ثاقبة وقلب صادق يقود الشعب إلى برّ الأمان، بعيدًا عن كل أشكال الانقسام والخلاف، وبذلك أصبحت عُمان واحةً للتسامح والعيش المشترك.

تحت قيادة السلطان قابوس، غرس شعار شامل يجسد جوهر الرسالة العُمانية: عُمان للجميع، وفوق الجميع، وتتسع للجميع، هذه الكلمات ليست مجرد شعارات على الورق، بل واقع ملموس عاشه كل مواطن ومقيم عربي ووافد على أرض عُمان، حيث أمن الناس، واستقرت القلوب، وازدهرت العقول. لقد كانت هذه الفسحة التي منحها السلطان قابوس للشعب أساسًا لاستقرار الوطن وتقدمه، وركيزة جعلت من عُمان نموذجًا للسلام الداخلي والانسجام المُجتمعي.

إنَّ ما حققه السلطان قابوس لم يقتصر على نطاق السياسة أو الاقتصاد، بل امتد ليشمل الأخلاق والوعي الاجتماعي. فالقيم التي زرعها في الأمة، وأرسى قواعدها، جعلت من الشعب الواحد جسدًا واحدًا متماسكًا، يتقاسم الأفراح والأحزان، ويواجه التحديات بروح واحدة. والعُماني يرفع شعار "ماضون بلا شقاق، ولا فتن" دليلاً على أنَّ الولاء للوطن والحفاظ على وحدته هما الرسالة الأسمى التي يجب أن تظل راسخة في النفوس.

وفي هذا السياق، يستمر الشعب العُماني اليوم، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- على نفس النهج الذي رسمه السلطان قابوس، مؤكدين أن مسيرة البناء والتقدم لن تتوقف، وأن الولاء للوطن وقيمه النبيلة سيظل ركيزة أساسية لمستقبل أفضل. فالاستمرارية في العطاء والحرص على وحدة الصف والالتزام بالمبادئ التي أسسها القائد الراحل هي إرث حيّ في وجدان كل عُماني.

إن الحديث عن السلطان قابوس لا يقتصر على أفعاله أو إنجازاته فقط، بل يشمل عمق شخصيته، ذلك الرجل الذي جمع بين الحكمة والرحمة، وبين الحزم واللين، فكان نموذجًا للزعيم القائد الذي يحترم شعبه ويقدّر قيمه. لقد عرف عنه الأمانة في القيادة، والقدرة على الإصغاء لكل الآراء، والعمل الدؤوب لتحقيق المصلحة العامة، بعيدًا عن أي حسابات شخصية أو ضغوط خارجية.

وهكذا، فإن ذكرى ميلاد السلطان قابوس ليست مجرد مناسبة للتذكر، بل هي دعوة للتأمل في معنى القيادة الصالحة، وأهمية التلاحم الوطني، وضرورة استلهام الدروس من تاريخ هذا القائد العظيم. فهي تذكّرنا بأن الوطن ليس مجرد حدود جغرافية، بل روح يعيشها كل فرد فيه، وأن العطاء الوطني يتطلب قلبًا كبيرًا، وإرادة قوية، وعقلًا متفتحًا يرى المستقبل بعيون الحكمة والبصيرة.

وفي الختام، نرفع قلوبنا بالدعاء للسلطان قابوس، طيب الله ثراه، بأن يرحمه رحمة واسعة، ويُسكنه فسيح جناته، وأن يجعل أثره الخالد منارة تهتدي بها الأجيال القادمة. ونؤكد جميعًا على استمرار المسيرة، وسيرنا على درب الخير والسلام والتسامح، مستلهمين من حكمته ومبادئه العظيمة القوة لبناء وطن أفضل لكل الأجيال القادمة، محافظة على وحدته، وراسخة في قلوبنا قيم الوفاء والولاء والانتماء.

كل عام وأنتم بخير بمناسبة اليوم الوطني، ذكرى مرور 281 سنة على تأسيس الدولة البوسعيدية، وتبقى عُمان نبضًا واحدًا.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

نوفمبر.. عيدٌ يُزهر وطنًا

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

 

يا نوفمبرُ… يا شهرًا يهبط على جبال عُمان كالغيم الماطر، ينعش القلوب بنسيمه، ويوقظ في الذاكرة ألف حكاية، يا شهرًا يفتتح بواباته وكأنه مهرجان ضوءٍ يمتد من ظفار حتى مسندم، ومن بحر العرب حتى رمال الشرقية، ليقول للعالم هنا عُمان… وطن لا يشبه إلا نفسه.

يأتي نوفمبر كلّ عام، لا كرقمٍ في التقويم، بل كنبضٍ في الصدور، وكذكرى تتجدد فيها روائح التاريخ وأصداء النهضة، فمنذ بزوغ فجر عام 1970، حين تولى السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، بدأ هذا الشهر يرتبط في الوجدان العُماني بملامح تحولٍ عظيم، وانطلاقة وطنية غيرت وجه البلاد.

كان الثامن عشر من نوفمبر، يوم ميلاد القائد الراحل، موعدًا لاحتفالٍ يليق بما أنجزه وبما أرسى دعائمه من قيم البناء والسلام والرقي، كان السلطان قابوس- رحمه الله- يقول "بناءُ الوطن أمانةٌ عزيزة في أعناقنا جميعًا، نحمله معًا ويجب أن ننهض به معًا"، وبهذه الكلمات، ومع النهج الحكيم الذي اتسم به، صارت عُمان نموذجًا للتنمية المتدرجة، والنهضة المتوازنة، والتخطيط البعيد النظر، وارتسمت تحت قيادته ملامح دولة عصرية، قادرة على الجمع بين أصالة التاريخ وروح الحداثة، وبين تراث الأجداد وابتكارات المستقبل، ولذلك ليس غريبًا أن يتحول نوفمبر إلى عيدٍ يفيض بالعاطفة والفخر لدى كل عُماني في الداخل والخارج، في هذا الشهر كانت القصائد تتفتح كما تتفتح أزهار الجبل الأخضر، وكانت المدن تتزين بألوان العلم، وتغدو الطرقات كأنها تختال فرحًا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تتردد أهازيج الوطن، ويعيش الناس فرحة الولاء والانتماء.

نوفمبر لم يكن شهرًا عاديًا؛ إنه كان- وما يزال- وسيظل شريانًا من الحب يجري في عروق الوطن، ومع بداية عام 2020م، في فجر يوم 11 يناير 2020م وإعلان تسليم الأمانة إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- دخلت عُمان مرحلة جديدة من مراحل النهضة، تحمل روح الماضي وقوة الحاضر وطموح المستقبل، قيادة واعية، ورؤية متجددة، واستمرار لمسيرة الخير التي أرساها المؤسس الأول للنهضة الحديثة، وفي أول خطاب له بعد توليه الحكم قال جلالة السلطان المفدى- حفظه الله ورعاه: "سنمضي بعُمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها الراحل العظيم، ونواصل بناء البلاد بعزمٍ أقوى وصبرٍ أكبر"، وكانت هذه الكلمات بمثابة وعدٍ صادقٍ لمسيرة تجددت عروقها، ونهضة تجسدت ملامحها في كل مجال.

تحت قيادته الحكيمة أصبحت عُمان أكثر حضورًا في الساحة الدولية، وأكثر قدرة على المنافسة إقليميًا وعالميًا؛ سواء في الاقتصاد أو الاستثمارات أو البنية الأساسية أو التحول الرقمي أو الاستدامة، ومن محطات هذه المرحلة المهمة جاء القرار التاريخي باعتماد العشرين من نوفمبر يومًا "لليوم الوطني"، في ارتباط مباشر بجذور الدولة البوسعيدية التي حكمت عُمان بتعاقب السلاطين منذ 281 عامًا، ووضعت لبنات الاستقرار والسيادة منذ قرون، وهذا التغيير لم يكن مجرد تعديلٍ تاريخي، وإنما تأكيد على أن عُمان دولة ضاربة في التاريخ، وأن نهضتها الحديثة امتداد طبيعي لنهج أئمتها وسلاطينها على مرّ العصور، عُمان اليوم ليست عُمان الأمس؛ إنها بلد يضع رؤيته في المستقبل بثقة كبيرة، ويمضي إليها بخطوات محسوبة، إنها وطن يقرأ التحولات العالمية بدقة، ويشتبك مع الاقتصاد العالمي بعقلية متوازنة، ويصنع لنفسه مكانة خاصة في عالمٍ يزداد تعقيدًا.

ومع إطلاق رؤية "عُمان 2040"، أصبحت البلاد تسير وفق خطط واضحة المعالم، تستهدف الإنسان أولًا، وتبني اقتصادًا متنوعًا، وتعزز الابتكار والمعرفة، وتدعم القطاعات الواعدة، إنها رؤية ليست شعارات؛ بل خطط عمل، ومشاريع كبرى، وقوانين متطورة، وإصلاحات مستمرة، لقد تحولت المدن العُمانية إلى مراكز حضارية نابضة بالحياة، وتحولت الأفكار إلى مشاريع، وتحول الشباب إلى شركاء فاعلين في التنمية، ولم تعد النهضة مجرد ذكرى، وإنما واقعًا نعيشه كل يوم، ونلمس أثره في كل زاوية من زوايا الوطن، وفي نوفمبر- الشهر الذي يحبّه العُمانيون حبًا لا حدود له- تتجدد الأفراح وتتجدد الهمم، يتذكر الناس تاريخهم المجيد، وينظرون إلى حاضرهم بثقة، ويستشرفون مستقبلهم بوعي وإرادة، ففي هذا الشهر يبدو الوطن أجمل، وتبدو الروح أكثر امتلاءً بالفخر، ويبدو الطريق إلى المستقبل أكثر وضوحًا.

إنَّ مسؤولية كل عُماني في هذه المرحلة أن يكون شريكًا في نهضة وطنه؛ فالأوطان تبنى بسواعد أبنائها، وتتقدم بوعيهم، وتزدهر بإخلاصهم، وتبقى عُمان كما كانت دائمًا، أرضًا تفتح ذراعيها للسلام، وتقدم للعالم نموذجًا مشرقًا في التعايش والاستقرار، هكذا يطلّ علينا نوفمبر كل عام؛ لا ليذكّرنا فقط بما مضى، ولكنه يطل ليقول لنا إن المستقبل أجمل، ما دمنا نحمل في قلوبنا حبّ هذا الوطن، ونضع في أعيننا رؤيته، وفي أيدينا عمله، إنها عُمان… عُمان نوفمبر… عُمان التي كلما مرّت الأعوام ازدادت شبابًا وتألقًا، وكلما أشرق اليوم الوطني ارتفعت معها دعواتنا:

اللهم احفظ عُمان وأهلها، وأدم عليها نعمة الأمن والرخاء، ووفق قائدها وسدد خطاه.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • عُمان وطنٌ يسكن القلب ومسيرة مجد لا تنطفئ
  • 20 نوفمبر.. مسيرة عُمانية تسكننا حبًّا واعتزازًا
  • الأيام الوطنية.. تجسيدٌ للمسيرة وتجديد للعهد
  • النهضة المُتجددة.. ركائز وطنية ترسم خريطة المستقبل وتُرسِّخ لدولة المؤسسات
  • تخريج 3106 طلاب ضمن الدفعة الـ36 في جامعة السلطان قابوس
  • بحث مجالات التعاون بين جامعة السلطان قابوس والجامعات اللبنانية
  • نوفمبر.. عيدٌ يُزهر وطنًا
  • 30 نوفمبر.. جامعة السلطان قابوس تحتفل بتخريج الدفعة الـ 36 من طلبتها
  • إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب