د. صالح بن ناصر القاسمي
يتكون الإنسان من روح وجسد، ولكل منهما احتياجاته التي لا يستقيم بدونها توازن الحياة. ولعلنا نرى الإنسان - في أحواله كلها - شديد الحرص على جسده؛ يهتم بطعامه وصحته، ويسارع إلى الأطباء عند ظهور أبسط العلل، ويمارس الرياضة اتقاء للأمراض. غير أنه، وهو يفعل كل ذلك، قد يغفل عن الجزء الأعمق في تكوينه: قلبه؛ ذلك الموضع الذي إذا انطفأ ضياؤه خمدت معه الحياة، وإذا مرض تعطلت معه إنسانيته مهما بدا الجسد في كامل عافيته.
فأدواء القلوب لا تُرى بالأعين، لكنها تفتك بصاحبها من الداخل، وتغير نظرته لنفسه وللناس، وتحول الحياة إلى ساحة صراع لا تهدأ.
ومن أخطر تلك الأدواء وأشدها تأثيرا داء الحسد؛ فهو مرض يبدأ همسا في القلب، ثم لا يلبث أن يستولي عليه شيئا فشيئا حتى يضيق صدر الإنسان بما يملكه الآخرون، ويضيق كذلك بما يملكه هو. وإذا تمكن الحسد من القلب، فإنِّه ينتشر فيه كما تنتشر النَّار في كومة حطب جاف، يتسلل بخفة ثم يشتعل بقوة، فلا يترك لصاحبه طمأنينة ولا راحة.
وقلب الحاسد لا يعرف السكون؛ إذ يعيش في اضطراب دائم، يتحرك بين الضلوع كما لو أنه يبحث عن مخرج من ضيق صنعه لنفسه. ينظر إلى ما في أيدي الناس نظرة لا تخلو من ألم، وكأن كل نعمة عند غيره تُنقص من نعيمه هو، فيعيش في صراع مرير لا ينتهي.
والعجيب أن الحاسد - مهما امتلك من الأموال والكنوز- لا يزال في ضيق لا يفارقه؛ فإذا رأى في يد فقير شيئا يسيرا تمنى زواله، وكأن نعمة غيره انتقاص لقيمته هو. يحدّث نفسه بأنَّ الآخرين لا يحسنون التعامل مع المال، ويتساءل متعجبا: كيف يسمحون بخروجه من أيديهم بسهولة؟ وكيف تنفق الأموال خارج صناديقها التي اعتادت الظلام؟ فهو لا يرى المال إلا شيئاً يجب أن يُحبس ويُكدّس، لا رزقاً أعطاه الله ليطعم، ويُعين، ويُسعد، وينفع.
وغالبا ما يرتبط الحسد بـ البخل؛ فهما داءان يجتمعان في قلب واحد، يشدّ كل منهما الآخر، ويحيطان بالإنسان إحاطة تامة حتى يوردانه موارد الهلاك. فالبخيل يعيش في شغل دائم: يحصي ماله، ويعد دقائقه، ويخشى نقصانه ولو كان في سبيل حاجاته الضرورية. وقد يضيّق على نفسه وعلى أهله وأولاده، يقتّر في كل شيء، ويجمع ما استطاع، غير مدرك أنه إنما يجمع لغيره، وأنه- حين يبالغ في الحرص- يكتب على نفسه حياة لا يعرف فيها لذة، ولا يسمع فيها إلا شكوى معدته التي تتضوّر جوعا.
أي حياة تلك التي يتحول فيها جمع المال إلى هم يثقل الروح، ويتحول فيها الوداع بعد الموت إلى حسرة لا تنفع؟ لا بأس أن يجتهد الإنسان في طلب الرزق ويكد في سبيله، لكن المشكلة حين يصبح المال هو الغاية، والكنز هو الهدف، والحرمان هو القاعدة، وإهمال حقوق المال - من زكاة وصدقة وإنفاق - هو الطريق. هنا يصبح المال نقمة لا نعمة، وسببا للهلاك لا وسيلة للعطاء.
ولو جرب ذلك الحاسد البخيل طعم الإنفاق على من حوله، لعرف معنى السعادة الحقيقية؛ فالعطاء يشرح الصدر، ويُلين القلب، ويزيد البركة، ويجلب الرضا. فكم من إنسان رأى الخير يتدفق عليه من حيث لا يحتسب بعدما فتح يده للإنفاق! فالله تعالى أرشد عباده إلى ذلك في كثير من الآيات، ونهاهم عن البخل والإمساك، فقال سبحانه:
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ﴾ آل عمران: 180. كما أمر بالاستعاذة من شر الحسد لأنه باب لشرور كثيرة، فقال: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
والحسد لا يأتي وحده؛ بل يجرّ خلفه أمراضا أخرى: الكِبر، والغرور، والعجب، وحب التملك، بل ويجعل صاحبه عبدا لشهواته، أسيرا لحرصه، يعبد المال من حيث لا يشعر، ويخشى ضياع ما في يده حتى يكاد ينقطع أنفاسه.
ولا تقف خطورة هذه الآفات عند صاحبها فحسب، بل تمتدّ إلى المجتمع بأسره؛ فالحاسد والبخيل والمتكبر شخصيات ينفر منها الناس، ويبتعد عنها الأقربون قبل الغرباء. وإذا انتشرت هذه الصفات في مجتمع ما، ضعفت روابطه، وتفرّقت قلوب أفراده، وكثرت الخلافات، وساد النفور، وتبدّدت روح الإخاء. وإنّ المجتمع الذي تتنافر قلوبه مجتمع لا يصمد أمام تحديات الحياة، ولا يعرف الاستقرار ولا الازدهار.
ولا سبيل إلى علاج هذه الأمراض العميقة إلا بعودة الإنسان إلى ربه، ومداومة الذكر الذي يطهّر القلب ويعيده إلى فطرته الأولى. فالذكر يوقظ الروح، ويُصلح ما أفسدته الغفلة، ويجعل الإنسان يعيش حياة مطمئنة، كما قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾ الرعد: 28.
القلب الذي يذكر الله قلب يشفى، ويزكو، ويقطع جذور الحسد والبخل والكِبر من داخله؛ ليعود صاحبه إنسانا حرا، نقيا، قادرا على حب الخير لنفسه ولغيره.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الأمن العام: التسول جريمة بكل صوره وأشكاله
قال الحساب الرسمي للأمن العام، إن التسول جريمة بكل صوره وأشكاله، موضحاً الصور المختلفة للتسول.
وبيّن الأمن العام في انفوجراف توضيحي نشره عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس" الأشكال المختلفة للتسول والتي تأتي على هيئة تسول مباشر وهو طلب المال أو الطعام أو أي منفعة مادية من الأشخاص في الأماكن العامة أو الخاصة بشكب صريح.
وتابع: "وتسول غير مباشر وهو طلب المنفعة بطرق غير مباشرة، استخدام وسائل تقنية أو ممارسة أنشطة ظاهرها مشروع، لكن يُقصد بها استدرار العطف والحصول على المال، بالإضافة إلى استغلال الغير في التسول مثل استخدام الأطفال أو النساء أو الأشخاص ذوي الإعاقة في أعمال التسول.
ودعا الأمن العام بالإبلاغ عن حالات التسول من خلال الاتصال على 911 في مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض والشرقية و999 في بقية مناطق المملكة.
التسول جريمة.. بكل صوره وأشكاله.#لاتعطيهم#معاً_نكافح_التسول pic.twitter.com/OjSFjFCQSo
— الأمن العام (@security_gov) November 16, 2025 أخبار السعوديةآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.