الحياكة.. غرزات صغيرة تصنع سلاما كبيرا للعقل والجسم
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
تخيل نفسك تجلس في ركن هادئ من منزلك، تمسك إبرتين وكرة من الصوف الملون، وتحرك يديك بإيقاع ثابت لا يصاحبه سوى خشخشة خفيفة للخيط وهو ينزلق بين أصابعك. شيئا فشيئا يبتعد صخب العالم، وتخف الضغوط عن كتفيك، لتكتشف أن السعادة قد تكمن أحيانا في غرزة صغيرة.
ورغم أن الحياكة قد تبدو للبعض هواية قديمة، فإن العلم الحديث أعاد إبراز قيمتها كوسيلة فعّالة لتهدئة العقل واستعادة التوازن.
تخيّل نفسك جالسا في ركن هادئ من منزلك، تمسك إبرتين وكرة من الصوف الملون، وتحرك يديك بإيقاع منتظم لا يُسمع فيه سوى خشخشة خفيفة للخيط وهو ينزلق بين أصابعك. شيئا فشيئا يتلاشى صخب العالم من حولك، وتخف الضغوط عن كتفيك، لتدرك أن السعادة قد تختبئ أحيانا في غرزة بسيطة.
ورغم قدم تاريخ الحياكة، فإن العلم الحديث أعاد تسليط الضوء على قيمتها كوسيلة فعّالة لتهدئة العقل واستعادة التوازن. ففي زحمة الحياة المتسارعة، تبرز هذه الحرفة كملاذ لطيف يمنح ممارسها مساحة للتنفس، وفرصة لنسج الطمأنينة بيديه؛ حيث تتحول من مجرد صناعة قطع صوفية إلى رحلة علاجية هادئة تنسج خيوط السلام داخل النفس.
تمرين شامل للدماغالحياكة ليست مجرد حركة بسيطة باليدين، بل نشاط يحفّز عدة مناطق في الدماغ في الوقت نفسه. فالمراكز المسؤولة عن الحركة تنسّق بين اليدين لإتمام الغرز، بينما تعمل المناطق البصرية على متابعة شكل النمط والألوان. ويتولى الجزء المسؤول عن التفكير والتنظيم إدارة التركيز وحل المشكلات، في حين يقوم مركز الذاكرة بتسجيل المهارات الجديدة وترسيخها.
إعلانهذا التكامل يجعل الحياكة تمرينا ذهنيا فعّالا يحافظ على نشاط الدماغ وقد يساعد على تأخير ضعف الذاكرة مع التقدم في العمر. وقد دعمت هذه الفكرة دراسة أجرتها مايو كلينك في الولايات المتحدة عام 2011 على 1321 من كبار السن، وأظهرت أن الأشخاص الذين يمارسون أنشطة معرفية مثل الحياكة والقراءة والألعاب تقل لديهم احتمالات الإصابة بالخرف بشكل ملحوظ.
على المستوى الجسدي، تمنح الحياكة دعما واضحا لصحة اليدين من خلال حركاتها الدقيقة والمتكررة والتي تحسن مرونة المفاصل وتقوي العضلات الصغيرة، مما يساعد على تقليل التيبس والحفاظ على نطاق الحركة، وهو ما يجعل بعض المعالجين الفيزيائيين يوصون مرضى التهاب المفاصل بممارستها بشكل معتدل. كما يعزز التنسيق المستمر بين العينين واليدين المهارات الحركية الدقيقة ويقوي التواصل بين الجهاز العصبي والعضلي، وهو تطور لا يخدم الحياكة وحدها بل ينعكس أيضا على أداء المهام اليومية التي تتطلب دقة وتحكما أفضل، فيما يسهم تدفق الدم المتزايد في الأنسجة الدقيقة في دعم صحة الأوتار والعضلات الصغيرة.
رفيق في رحلة الشفاء النفسيتُعدّ الحياكة أداة فعّالة للتعامل مع القلق والاكتئاب؛ إذ يتركز ذهن الممارس على تشكيل الغرز، فيكسر حلقة الأفكار السلبية، ويمنحه المنتج النهائي شعورا ملموسا بالإنجاز حتى في أصعب الأيام. كما أن طبيعتها التأملية تهدّئ العقل المضطرب وتوفّر لحظات من الراحة الذهنية، لتصبح وسيلة غير دوائية لإدارة التوتر يمكن اللجوء إليها في أي وقت.
تشير دراسة أُجريت في مركز "بالانس" الطبي في كولومبيا البريطانية بكندا ونُشرت عام 2024 في مجلة فورتنز إلى أن الأنشطة الإبداعية مثل الحياكة تنشّط شبكة المكافأة الدوبامينية في الدماغ، خصوصا في المناطق المرتبطة بالمتعة والمزاج، لكنها توفّر مكافأة أبطأ وأكثر استقرارا مقارنة بالمحفزات السريعة مثل التمرين أو السكر.
كما وجدت دراسة صادرة عن "معهد العقل والجسم" بكلية الطب في جامعة هارفارد عام 2007 أن الحياكة تخفّض معدل ضربات القلب بنحو 11 نبضة في الدقيقة، وتخلق حالة من الهدوء تشبه تأثير اليوغا. لذلك يستخدمها بعض المختصين كعلاج بسيط يجمع بين الانشغال الذهني والحسي والتواصل الاجتماعي، ويساعد في بناء روتين يومي داعم للصحة النفسية.
لم تعد الحياكة نشاطا فرديا تقليديا تمارسه الجدات وربات البيوت فقط، بل تحولت إلى حركة اجتماعية وثقافية حديثة تجمع بين المتعة الشخصية والفائدة النفسية والاجتماعية. فقد شهدت السنوات الأخيرة انتشار مجموعات ونوادي الحياكة حول العالم، لتصبح منصات حقيقية للتواصل الإنساني بعيدا عن ضغوط الوسائط الرقمية، حيث يتبادل الأعضاء الخبرات والنصائح والقصص، ويجدون دعما متبادلا يكسر شعور الوحدة والعزلة ويعزّز الإحساس بالانتماء ضمن شبكة من الأشخاص الذين يشاركونهم الهواية نفسها.
إعلانكما تسمح بعض المبادرات التطوعية للهواة بحياكة قطع تُهدى إلى المحتاجين، مما يخلق إحساسا عميقا بالقيمة والعطاء. بهذه الطريقة، أصبحت الحياكة نشاطا متعدد الأبعاد يجمع بين الهدوء الذهني، والإبداع الشخصي، والدعم الاجتماعي، ويثبت أنها ليست مجرد هواية تقليدية، بل أسلوب حياة حديثا يدعم الصحة النفسية والاجتماعية معا.
الحياكة تتجاوز مجرد خيوط وصوف؛ فهي طريقة للحياة تعلمنا الصبر والتأني والعيش في الحاضر. كل غرزة صغيرة تقربنا من السلام الداخلي، وكل قطعة منتهية تحتفل بقدرتنا على الإبداع. في عالم سريع وفوضوي، تمنحنا الحياكة فرصة للتوقف، والتنفس، والاستمتاع باللحظات البسيطة التي تصنع السعادة. لذا، في المرة القادمة التي تعرض عليك فيها جدتك تعلم الحياكة، لا تتردد، أو يمكنك الاستفادة من مئات دروس المبتدئين المتاحة على اليوتيوب.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات
إقرأ أيضاً:
مصر تصنع مستقبلها الرقمى
لا شك أن للدولة رجالًا يؤمنون بالعلم قبل أن يؤمنوا بالضجيج الإعلامي ومن هؤلاء القلة الفاعلة يقف الدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، نموذجًا للقيادة التى تحول الرؤية إلى إنجاز، فى احتفالية ختام النسخة الأولى من مسابقة ديجيتوبيا DIGITOPIA، برزت مصر مرة أخرى كحاضنة للمواهب الرقمية، ومقدمة لبرنامج وطنى يضع الشباب فى قلب التحول الرقمى، ويجعل من الإبداع وسيلة لخدمة المجتمع بفاعلية واحتراف.
اختيار اسم «ديجيتوبيا» لم يأتِ بمحض الصدفة؛ فقد جمع بين «ديجيتال» كتعريف لرؤية مصر الرقمية وبين «توبيا» كحلم لمدينة فاضلة تترجم الإبداع إلى واقع، وكان حديث الدكتور عمرو طلعت عن الذكاء الاصطناعى، والأمن السيبرانى، والألعاب والفنون الرقمية تأكيدًا أن الوزارة لا تكتفى بالأحلام بل تضع خارطة طريق عملية لتمكين الشباب من المشاركة الفعلية فى صناعة المستقبل.
هنا، لا يمكن قراءة نجاح «ديجيتوبيا» بمعزل عن المشروع الأكبر الذى يقوده الرئيس عبدالفتاح السيسى، والذى جعل من بناء الإنسان الرقمى ركيزة أساسية للدولة الحديثة، رؤية الرئيس لم تكن مجرد تطوير بنية تحتية تكنولوجية، بل تأسيس بيئة متكاملة تُعلّم وتدرّب وتحتضن الشباب، وتفتح أمامهم أبواب المنافسة العالمية، دعم السيسى لهذا القطاع لم يكن رفاهية، بل توجهًا استراتيجيًا نقل مصر من دائرة الاستهلاك إلى دوائر الابتكار وصناعة التكنولوجيا.
هذه المسابقة الأكبر من نوعها فى مصر حظيت بتغطية لافتة محليًا ودوليًا، لما حملته من أرقام وإحصاءات تعكس حجم الطاقة البشرية والالتزام المؤسسى، أكثر من 25 ألف مبتكر، و6500 فريق، حتى وصلت المنافسات إلى 72 فريقًا نهائيًا يمثلون نحو 300 متسابق، ولا يمكن إغفال أن هذا النجاح هو امتداد واضح لإنجازاتٍ تتحدث عن نفسها فى عهد الرئيس السيسى، الذى جعل من دعم التكنولوجيا وتمكين الشباب أولوية وطنية.
النسخة الأولى من «ديجيتوبيا» أظهرت ثراءً فكريًا وإبداعيًا فى كل مساراتها؛ ففرق مثل أبطال البيئة الرقمية، مايندلينك، قادرون، وتحدى الإرادة فى مسار حلول البرمجيات والذكاء الاصطناعى، وأبطال الوعى، حراسة السيستم، نازويل، وايت ماتر فى مسار الأمن السيبرانى، وتكنو برو، البنات الثلاث، بلا أجنحة، وكان فى مسار الألعاب والفنون الرقمية، ليست مجرد أسماء فائزة بل هى نبض لمستقبل تقوده الأفكار المصرية.
وفى تأكيد على روح الشراكة القوية، شارك وزير الاتصالات شركاء النجاح من الجهات والمؤسسات التى ساندت المسابقة، وأشاد بدور لجان التحكيم التى ضمت 100 خبير من الوزارة والجامعات والشركات المحلية والعالمية.
ما قدمه شباب «ديجيتوبيا» من حلول فى مجالات التعليم الذكى، الصحة عن بُعد، الزراعة الذكية، الأمن السيبرانى، والتراث الثقافى، يؤكد أن لدينا مخزونًا هائلًا من الطاقات القادرة على تحويل أفكار مبتكرة إلى منتجات تكنولوجية مصرية تنافس عالميًا، كما أن الاهتمام بالفتيات وذوى الهمم يثبت التزام المسابقة بمفهوم الشمول.
يمكن القول إن «ديجيتوبيا» ليست مجرد حدث زمنى، بل منصة مستدامة لصناعة أجيال من المبدعين، وتدريبهم، وربطهم بسوق العمل والشركاء الدوليين، ومن هنا يبرز دور الدولة بقيادة الرئيس السيسى، وحرص وزارة الاتصالات بقيادة الدكتور عمرو طلعت، على أن يتحول دعم المواهب إلى سياسة واضحة ومؤثرة.
ما تحقق فى «ديجيتوبيا» ليس فوزًا لاسم أو فريق بقدر ما هو انتصار لمنهج عمل مؤسسى يضع العقل المصرى فى مقدمة أدوات البناء والتقدم. وباسم الأمل وبثقة فى الكفاءات الوطنية، أقول إن المستقبل الرقمى فى مصر يبنى اليوم بصناديق الأفكار وقلوب المبدعين، وبقيادة وطنية لا تعرف التردد.