في ذكرى رحيل عمار الشريعي.. موسيقار أبصرته القلوب قبل العيون
تاريخ النشر: 7th, December 2025 GMT
في ذكرى رحيله، يعود اسم عمار الشريعي ليملأ الفضاء الموسيقي المصري والعربي بهيبة لا تُنكر، ودفء لا يُشبهه دفء، فثمة فنانون يعبرون في الذاكرة كعابري طريق، وثمة موسيقيون لا يغادرونها أبدًا، يبقون بيننا كلّما عبر لحن في مشهد، وصوت في مسلسل، ونغمة في أغنية تربّت على أرواحنا ذات عمر، والشريعي واحد من هؤلاء الذين أهدوا للموسيقى قلبًا نابضًا، وللإبداع روحًا ممتدة لا تنطفئ.
مولود من رحم التحدي
وُلد عمار علي الشريعي في السادس عشر من إبريل عام 1948 بمركز سمالوط محافظة المنيا، كفيف البصر منذ اللحظة الأولى، لكن بصيرته اتسعت لتحتوي ما عجزت عنه عيون المبصرين، في صعيد مصر، حيث البساطة والدفء والبيئة الغنية بالتراث الغنائي، تربّى الفتى على أصوات الطبيعة والذكر الحكائي لأهل القرى، فكانت الموسيقى بالنسبة إليه منذ طفولته «جسرًا» إلى العالم، ووسيلة لامتلاك الحياة.
انتقلت الأسرة إلى القاهرة وهو في الخامسة من عمره، وهناك بدأت ملامح رحلته تتشكل، بين مدارس المكفوفين التي تلقى فيها الأسس الأولى للموسيقى، وبين أذن لا تخطئ جمال اللحن ولا دقة الإيقاع.
وفي الجامعة درس الأدب الإنجليزي، لكن شغفه الحقيقي ظلّ مع الموسيقى، فواصل تعليمه فيها، وتلقى دورات مكثفة في الولايات المتحدة وأوروبا، حتى صقل أدواته وأصبح واحدًا من أكثر أبناء جيله ثقافة ووعيًا وقدرة على المزج بين مدارس موسيقية متعددة.
من عازف شاب إلى موسيقار تتوقف الدراما عند بابه
بدأ الشريعي حياته المهنية كعازف أكورديون ثم أورج، قبل أن يتحوّل إلى التلحين في منتصف السبعينيات، وكان أول ألحانه للفنانة مها صبري، غير أن بوابته الذهبية جاءت مع الاهتمام المتزايد بالموسيقى التصويرية، وهو المجال الذي استطاع فيه أن يقدّم ثورة حقيقية دون مبالغة.
لم تكن موسيقاه مجرد خلفية للمشهد الدرامي، بل جزءًا من روايته وبنيته الشعورية، يكفي أن نذكر أن أجيالاً كاملة ارتبطت بموسيقى مسلسلات مثل رأفت الهجان، الشهد والدموع، عصر الأئمة، ذئاب الجبل، وليالي الحلمية.. أعمال لم تعد مجرد تترات افتتاحية، بل قطعًا موسيقية لها حكاية خاصة في ذاكرة الناس.
وفي السينما، كان وجوده علامة على جودة العمل، فقد قدّم موسيقى أفلام خالدة مثل البريء، كتيبة الإعدام، حب في الزنزانة، جري الوحوش، وغيرها الكثير.
إبداع «الأصدقاء».. حين اجتمع التجديد مع البساطة
عام 1980 أسس عمار الشريعي فرقة «الأصدقاء» التي ضمّت أصواتًا شابة آنذاك مثل منى عبد الغني وحنان وعلاء عبدالخالق، وقدّم معهم لونًا جديدًا جمع بين بساطة اللحن المصري الأصيل وإيقاعات معاصرة، فصارت أغنياتهم - مثل الطير المسافر وماشية السنيورة - أيقونات لمرحلة كاملة في الغناء المصري.
كانت تجربة فرقة الأصدقاء تجسيدًا لروح الشريعي: الانفتاح، الحداثة، والبحث عن الأصوات الطازجة، مع حفاظ عميق على جذور الموسيقى المصرية.
ثقافة موسيقية واسعة.. وروح قارئة
لم يكن الشريعي مجرد ملحن، بل موسيقي مثقف بالمعنى الواسع للكلمة، قرأ التراث العربي عن موسيقييه ونظرياته، ودرس الموسيقى الغربية، وتعمّق في الفولكلور المصري، والألحان الصوفية، والغناء القبطي، والأغنية الشعبية، ما جعله موسيقيًا قادرًا على تشكيل هوية موسيقية متفردة.
وقدّم عبر برنامجه الإذاعي الشهير «غواص في بحر النغم» رحلة ممتعة في عالم الموسيقى، شرح فيها ببساطة وعمق أسرار الألحان والمقامات، وطاف بالجمهور بين المدارس العربية والعالمية، مؤكدًا أن الموسيقى ليست علمًا نخبوياً بل لغة مشتركة يمكن للجميع فهمها.
إصرار يتجاوز الإعاقة.. وموهبة تكشف طريقها بنفسها
لم ينظر الشريعي يومًا إلى فقدان البصر كعائق، بل كحافز لتقوية حواسه الأخرى، كان قادرًا على تمييز الأصوات بدقة مذهلة، يلتقط أصغر خطأ في عزف واحد من عشرين عازفًا في فرقة، ويمسك بالريشة والقلم ليكتب نوتاته بطريقة خاصة، رغم تحديات الكتابة للمكفوفين في ذلك الوقت.
وكان يقول دائمًا: «ربنا أخد مني حاجة، بس إدّاني بدلها حاجات كتير.. أهمها إن الموسيقى بقت هي عيني».
محطة النهاية.. وبداية الخلود الفني
في السابع من ديسمبر عام 2012، غيّب الموت عمار الشريعي بعد رحلة طويلة مع المرض، شيّعه الفنانون والمثقفون ومحبو الموسيقى الذين أدركوا أنهم يودّعون «مدرسة» كاملة وليست مجرد موسيقار.
لكن رحيله لم يكن نهاية، بل بداية لميراث موسيقي لا ينفد، فما زالت موسيقاه تُدرّس، وأعماله تُسمع، وتترات مسلسلاته تُبث على القنوات، وألحانه تفيض على الذاكرة كلما مرّ مشهد قديم في شاشة أو في قلب.
لأن عمار الشريعي لم يكن مجرد ملحن عابر، بل حالة فنية شديدة الثراء: جمع بين التراث والتجريب، صاغ هوية موسيقية درامية متكاملة، شجّع المواهب الشابة وقدّم أصواتًا مهمة، نقل الموسيقى من فضاء الترفيه إلى فضاء الوعي والمعرفة، أثبت أن الإرادة قادرة على مقاومة كل ما يُسمّى «عائقًا».
في ذكرى رحيله، يبدو أن موسيقى عمار الشريعي لم تغادرنا أبدًا، بل صارت جزءًا من وجدان هذا الشعب، كلما مرّت موسيقى نهايات رأفت الهجان، أو انسابت نغمة حزينة من الشهد والدموع، أو عزف العود بداية حكاية ما.. ندرك أن عمار ما زال بيننا، يضع على كل لحن ملامحه، وعلى كل نغمة قلبه.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: عمار الشريعي فنانون كفيف البصر القاهرة كتيبة الإعدام جري الوحوش رأفت الهجان عمار الشریعی
إقرأ أيضاً:
زوجة عمار الشريعي: تأخرت في الانجاب بعد الزواج
في حلقة استثنائية وفنية خاصة بمناسبة ذكرى رحيل الموسيقار الكبير عمار الشريعي ، استضاف الإعلامي عمرو الليثي، في استوديو _واحد من الناس_ رفيقة مشواره الإعلامية القديرة مرفت القفاص، وابنه المهندس مراد، وصديق عمره أو "الصندوق الأسود" لكل أسراره، المنتج الكبير عمرو الصيفي.
وقالت الإعلامية _مرفت القفاص_ إنني كنت صديقتها قبل أن أكون زوجته، وأن الاحترام كان قائمًا بيننا. وأضافت أن _عمار_ كان متربيًا على أصول وكان يحسن معاملتي. وعقّبت وهي تبتسم: “كنت أغار عليه من الستات، وكنت صغيرة، وبعد ذلك تعاملت مع الأمر”. وأوضحت أن الإنجاب تأخر بعد الزواج، وعندما أكرمنا الله كنت حاملًا وكان سعيدًا جدًا وفرحانًا. وعندما سمع صوت ابنه _مراد_ كان في غاية السعادة، واطمأن من الطبيب على صحته، خاصةً أنه يرى.
وأشار ابنه مراد ، إلى أنه عندما توفي والده كان عمره ١٥ عامًا، وكان والده قد جهّزه لحياته بعد وفاته، خاصة بعد أن خضع لعملية قلب مفتوح. وقال إن والده كان صاحبه وأقرب الأشخاص إلى قلبه، وكانت تجربة والده فريدة. وقد سمّاه _مراد_ نسبةً إلى عمه _مراد_ وأيضًا إلى جدّ والده _مراد باشا_.
وعن مرض _عمار_ وهل كان وراثيًا، أجاب المنتج أن عائلة _عمار_ كانت تتزوج داخليًا، مما أدى إلى ظهور مرض القلب في الأسرة نتيجة زواج الأقارب، وكذلك فقدان البصر.
وأحضر المنتج كواليس وأسرار خاصة عن _عمار الشريعي_، حيث ينتمي إلى قبيلة _الهوارة_ التي جاءت إلى الصعيد. وقد نمت عائلة الشريعي ولديها قصر شهير في مدينة _سمالوط_ بالمنيا، وقصر آخر في شارع _محمد علي_، وقصر في _الزيتون_ حيث تربى _عمار_. وأشار إلى أن _عمار_ من مواليد المنيا لكنه استقر في القاهرة، ودُفن في مقابر العائلة بالمنيا، وفقًا لرغبته.
وعقّبت زوجته بأن هذه كانت رغبته بأن يدفن هناك.