سنيّ الضياع! (1-3)
تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT
حمد بن سالم العلوي
سنيّ الضياع تشمل العالم العربي كله وبأكمله، وإن كان بدرجات متفاوتة في الضرر، وهذه المقالة لن تستطيع أن تغطي سنيّ الضياع العربي، فحالة الضياع هذه تحتاج إلى مُجلّدات لشرحها كحالة عربية خاصة، فإذا بدأنا بأيام نكسة العرب في 1967م، وهو التاريخ المعاش لبعض الأحياء من العرب، وأنا أحدهم وإن كنت في سن الطفولة وقتذاك، وإنما الذي كان يتداول في السَّبْلة العُمانية بين الكبار، كان يتسلل إلى مسامع الأطفال، ويؤثر في نفسياتهم التي شحذت بالشجاعة والنصر.
والسؤال وقتذاك يقول؟ كيف يهزمنا الصهاينة أعداء الله ورسوله؟! لولا وجود خلل في عقيدة الناس الإيمانية، وقد رأينا بعد ذلك بسنوات قليلة، كيف تهللت أسارير الناس، على إثر بشرى النصر في حرب أكتوبر عام 1973م، وقد انتشينا نشوة لكننا صُدمنا بفجيعة زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، والتي ضيَّع فيها نتائج النصر، بعد أن ظننا أن النصر آتٍ لا محالة، وخالفنا ما ذكره القرآن الكريم عن مجادلة اليهود في تنفيذ أمر ربانيّ قائم، وذلك عندما طلب منهم ذبح بقرة، ستعينهم على معرفة قاتل أحدهم، فنحن البشر ظننا أن السلام مع اليهود، يمكن أن يتحقق بالكلام والحوار.
ثم انتقلنا تدريجيا إلى مشاكل العرب التي رافقتهم عبر تلك السنين العجاف، وصولًا إلى حرب العراق وإيران، ومن ثم احتلال الكويت من قبل العراق، وبعد ذلك تأتي الحبكة في بوتقة واحدة كاملة متكاملة لهذه المشاكل، ألا وهي حرب أمريكا وبريطانيا المباشرة على العراق، وتلك الحرب مُخطط لها مُسبقًا، وذلك بمساعدة معظم العرب، الذين شاركوا في تدمير العراق، نكاية في الرئيس صدام حسين، وربما أعلن البعض اليوم عن ندمهم على ما فعلوا في العراق، ولكن هذا الندم لن يُعيد العراق إلى ما كان عليه قبل الغزو، وكذلك العراقيين الذين صفُّوا مع الأمريكان في تدمير العراق، وقد ظنوا أن العراق سيتحول الى جنة الفردوس على الأرض مع ذهاب صدام حسين، لكن الذي حدث بالضبط هو فشل ذريع للعراق وللدول العربية التي وقفت ضده، وتآمرت مع الغرب على تدميره، وإلى اليوم ظلت العراق في تخبّط، وفي تردٍ مستمر، بسبب ذلك التدمير الذي وعد به الأمريكان العراق؛ حيث قالوا إنهم سيعيدون العراق إلى القرون الوسطى، وهذا ما حصل بالفعل. لكن الشيء الثابت اليوم، أن العراق أصبح يفتقر إلى الأمن والأمان، ويفتقد العدالة والاطمئنان، فلا حياة كريمة للناس، وسيظل العراقيون في خوف وقلق، طالما ظل العراق لم يستعد عافيته.
فإذا عدنا بالنظر إلى الحرب التي كانت بين العراق وإيران، لوجدناها أنها كانت لخدمة الغرب، ونقول ذلك دون أية مواربة؛ فالغرب ربما شجع العراق بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة للهجوم على إيران، ونحن نعلم أن العراق هو من بدأ بالهجوم على إيران، مهما قيل من أقاويل من إيران هي التي هجمت على العراق، وأن العراق رد العدوان، فالعاقل يعرف أن دولة توها منتصرة على إمبراطورية من الإمبراطوريات العميلة للغرب، ومهتمة بتوطيد عرى الحكم في الداخل، لأنَّه يمثل أولوية قصوى لها، لن تشطح شطحة خطيرة بالحرب مع إحدى دول الجوار.
وإذا كنت لها نوايا تجاه الجوار، سوف تؤجلها إلى فترة لاحقة، وإلى أن يستقر الأمر لها في الداخل، وإنما العراق هو من استغل الفترة الانتقالية بين زوال حكم الشاه، وبدء حكم الجمهورية الإسلامية في إيران، ظنًا منه أن حالة الضعف التي ستسببها الفترة الانتقالية في إيران، ستعطي الفرصة لانتصار العراقيين والغرب والعرب معًا على إيران، وأن النصر سيكون سهلًا للعراق، إلا أن الحرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران، وهذا دليل على أن الإيرانيين ما كانوا سيستسلمون بسهولة، ولو علم أولئك المتآمرون أن العقيدة الحربية الإيرانية، والتي تقوم على شيئين اثنين.. وهما؛ النصر أو الاستشهاد، لأحجم العراق على أقل تقدير عن دخول الحرب مع إيران، أما الغرب وأعوانه، فقد كانت النتائج مضمونة لهم بمجرد اشتعال الحرب.
والشيء الذي أريد ان أؤكد عليه، أن العراق أو سوريا أو لبنان أو ليبيا أو اليمن أو السودان، وهي الدول التي ما زالت تعيش مسرح عمليات الغرب على أراضيها، فهذه البلدان ستظل تئن تحت وطأة أضرار التدخل الغربي، وسوف لن تستعيد سيادتها واستقلالها، كما كانت قبل تدخل الغرب، إلا بعد سنوات عجاف طويلة، فكلما التأم جرح جددوا بخطط الغرب الخبيثة جراحاً كثيرة، والغرب كما هو معلوم ينشر ديمقراطيته الخاصة بالعرب- أي الديمقراطية الخاصة بالتصدير- لأن الديمقراطية الحقيقية ستظل خاصة بهم وحدهم، أما المُصدَّرَة فهي مجرّد شمّاعة للتدخل، ولأجل إخضاع الدول والأنظمة العربية للغرب، ولكي تظل هذه الدول الغربية، تمثل طوق النجاة (الكاذب) للعرب، وذلك بحيث تظل هذه الدول متشرذمة ومتفرقة، ولا تستطيع التفاهم مع بعضها البعض- إلا بإذنٍ- ولا يكون لها استقلال حقيقي خلال فترة الهيمنة الغربية عليها.
إذن؛ فإنَّ سنيّ الضياع التي يعيشها العرب اليوم، والتي تقوم على أن الغرب صادق فيما يقول، وينوي الخير للدول العربية، وأن كل التقسيم والتجزئة التي يقوم بها، هي في صالح العرب، لكي يشمل منصب الرئيس وكرسي الرئاسة ثلث السكان، فمن يموت من الملوك والرؤساء العرب، سيحمل معه على أقل تقدير منصب ملك أو رئيس سابق، فلا يهم إن كان مرحومًا أو ملعونًا، المهم أن اللقب سيرافقه إلى أن تقوم الساعة، إذن؛ هذا شيء فيه خير باللقب من الغرب للعرب.
ترى هل يتعمد العرب أن يُغمضوا عين الحقيقة عن التاريخ الغربي تجاههم، ألا يتذكرون فظائع سجن أبوغريب، وطائرات الهليكوبتر التي كانت تقصف المدنيين في العراق دون تمييز، أو فضائع معتقل جوانتانامو أقذر سجن في التاريخ الحديث، والغرب نفسه يقول؛ وعلى لسان الأمريكان، إن الأمريكان مهمتهم إدارة الأزمات.. وليس حلها، وإن الغرب ليسوا مثلنا أبدًا، فهم يمثلون العنصر الأكثر رقيًا وتقدمًا عن كل البشر.
وهي بالطبع نظرة دونية- ولا شك- ومع ذلك يظل العرب يستلطفون هذه النظرة، ولا يعطونها الاهتمام اللازم، فتظل أوروبا ومن قبلها أمريكا تدير الأزمات في بلاد العرب، وغيرها أيضًا مثل؛ روسيا، والصين، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وكل دول العالم الثالث الذي لا ينطبق عليه مسمى أوروبي أو أمريكي شمالي، وحتى الدول التي خرجت من الاتحاد السوفييتي، هي مجرد دول وظيفية تابعة للغرب، ومرضيّ عنها طالما ظلت تطيع التعليمات، بحيث لا تحاول أن تستكفي بشيء من صنعها، ولا تدير نفسها بنفسها، وإنما تظل مُعلقة بيد الغرب، وذلك ليظل يحركها كما يحرك الآن أوكرانيا ضد روسيا، لكي تحارب نيابةً عنه، على أمل أن تتسبب بانهيار روسيا، أو تقسيمها، أو استنزافها في أبسط الأحوال. وسوف أتحدث في المقالات التالية عن قوة وضعف الأنظمة العربية، ثم عن طبوغرافية دول الخليج.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الاستشراق والمثلث الحضاري
تابعتُ بشغف بعضا من فعاليات المؤتمر الدولي الأول للاستشراق: "الاستشراق الجديد، نحو تواصل حضاري متوازن"، والذي نظمته عدة جهات حكومية قطرية، من بينها وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي"، خلال يومي 26 و27 نيسان/ أبريل الماضي. وأسعدني تنوع الحضور خاصة الأكاديميين من أنحاء العالم؛ وأيضا الانفتاح على طرف من المؤسسات الغربية المعنية بالأمر مثل "جامعة ليدن" الهولندية، وأيضا كان مما يبهج الوعدُ الواضح بعقد الدوحة المؤتمر سنويا مع تناول محاور أخرى؛ فإننا بهذا كمسلمين طالما دار علم الاستشراق حولنا وحان لنا أن نعتني بهذا العلم؛ ونحاول بذل ما نستطيع حوله، مخالفين بهذا النمط المعتاد عن هذا العلم من الاهتمام الغربي له، ومنه المؤتمرات التي اعتاد الغرب عقدها في عواصمه منذ عام 1873م في باريس.
ونرى هذا ضلع المثلث الرئيس الأول الذي نراه مكونا لتقدمنا في هذا المجال، أما الثاني فهو صدق عزيمتنا في سبر أغوار نظرة الغرب نحونا -أيا ما كانت- وهو ما نراه يستلزم نهضة في الجانب الآخر الواجب من النهر ألا وهو "الاستغراب"، أو دراسة الغرب دراسة تتناسب مع رغبتنا في معرفة أسرار تقدمه، ثم قدرتنا على مجاراته حتى في محاولته الإلمام بأحوالنا؛ وذلك حرصا على أن تجري أسفله مياه كثيرة في صالحنا. ويبقى الضلع الثالث الذي نراه لا يقل أهمية عن سابقيه بل لعله يفوقهما.
فغني عن التفصيل أن موقع الشرق الجغرافي يتضافر مع تاريخه وحضارته العربية الإسلامية التي سادت العالم؛ وإن لم تخل من المظالم -بدرجات- إلا أنها كانت خير حافظ وأكثر رحمة بالعالم كله، ومن هذا عدم بخل هذه الحضارة بما وصلت إليه من معارف، بل أتاحته للغرب، فتشرّبه ونبَغَ، وبنى حضارة عظمى على أسسها، وإن كان يحاذر "الدوران الحضاري" وعودة السيادة لموضع شروق الشمس لدينا حتى اليوم.
وإن كنا نقر بأن هذا ليس الغرض الغربي الوحيد من الاستشراق، إلا أننا لا ننكره في المقابل، ونقر برغبته التي ما تزال متقدة بمعرفة كنهنا، وبماذا نختلف عنه، وهل نظل نراوح أماكننا أم نفارقها. وفي هذا السياق نتقبل عقد نحو35 مؤتمرا عن الاستشراق منذ عام 1873م حتى 1997م؛ وعلى مدار جميع هذه المؤتمرات لم تستقبل عاصمة عربية فعاليات أحدها سوى الجزائر في النسخة الـ14 منه، وكانت هذ أول مرة تعقد خارج أوروبا، وغني عن البيان أنها كانت تحت الاحتلال وقتها؛ فلم يكن الأشقاء هناك يملكون القرار بعقده فضلا عن الاستفادة منه، أما المرة الثانية التي يعقد في بلد مسلم وإن كان غير عربي فهي في النسخة الـ22، حيث عقد في إسطنبول التركية عام 1951م. وفي جميع الأحوال نشطت الجمعيات الاستشراقية بين أمريكية وفرنسية وبريطانية وما تزال.
يُحمد للدوحة الاهتمام بهذا التوجه الذي يجب أن تتبعه معاهد عربية وإسلامية تدرس كيف يرانا الغرب أو "الآخر" بلغة بعض مفكريه التبادلية، فنحن لديه "آخر"، وهم يظنون أننا لديهم "آخر"؛ نعم نحن بحاجة لنفي خطاب المتطرفين الغربيين والداعين للقضاء على معارضي استمرار الحضارة الغربية -وهذه النزعة الشعوبية غير خافتة سياسيا- وما نعانيه كعرب ومسلمين خاصة كأقليات، واستمرار احتلال فلسطين العزيزة رغم انتهاء الاحتلال المباشر من العالم كله، فضلا عن تولي رئاسة أمريكا "دونالد ترامب" للدورة الثانية، ولكننا في جوهرنا وحقيقة ديننا دعاة سلام وعدل للعالم، وهو أمر يعرفه الغرب، وتثبته الدوحة منذ نسخة مؤتمر الاستشراق، ويبقى أن نبادر بدراسة الغرب دراسة علمية على أسس منهجية وافية لنعرف فيم وكيف تفوق علينا، كما فعل معنا في أوج تأخرنا، وقبل أن ندري كنه موقعنا الحضاري قرب نهاية القرن دراسات العشرين.
توقف المذيع الغربي في إحدى فقرات حفل ختام مؤتمر الدوحة للاستشراق سائلا رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة ورئيس إحدى فروع الجامعات الغربية في الدوحة وهما مصريايا متسائلا عن اللغة التي يجب أن يتحدث بها؛ أهي العربية، ثم مضى بلغة التكنولوجيا، أو كما قال في لفظة تبدو عابرة جرت على لسانه ثم مضى بالإنجليزية متسائلا: هل أنتم -حقا- مستعدون لمعرفة وجهة النظر الغربية عنكم أو ما يراه الأشرار عن الأخيار؟ فيما بدأ الأول بالدفاع عن "وجهة النظر الغربية" وأنها ليست كذلك، وتجاوز الثاني لمجهودات الراحل إدوارد سعيد في الاستشراف، وعلق السؤال بالذهن: متى يكتمل المثلث؟!
إننا مطالبون عالميا بملاحقة دراسات الغرب عنا (الاستشراق)، ومطالبون بنفس النهج والقدر -ثانيا- على الأقل بألا نكون مدافعين على طول الخط، أي أن نبرع في علم "الاستغراب"؛ وهذا ضلع المثلث الثاني الذي لا يتأتى أبدا في ظل غياب الضلع الأول، أما الثالث فهو تقدمنا حضاريا لنبرع في الدارسات، ونملك ما يجعل العالم يحترمنا عبره، وهو ما يستحق مواجهات تحديات موقفنا الحالي الحضاري، ويدعو لتماسك العالم العربي الإسلامي أولا، وهو ما يفوق موقف الدوحة الحالي، وإن تمنينا أن تساهم فيه كما نجحت في تنظيم مؤتمر الاستشراق!