عادة سودانية قديمة جدا، لعلها اندثرت الآن في المدن، لكنها باقية في بعض الأرياف، ولا أعلم هل ستكون كذلك بعد هذه الحرب التي أتتنا بها قحط وحليفهم الدعم السريع أم لا.
أحداث هذا اليوم ظلت منقوشة في الذاكرة، ولاغرو أن احداث الطفولة كالنقش في الحجر.
الحاره ما مرقت
ست الدوكة ما وقعت
قشاية قشاية
ست الدوكة نساية
كبريتة كبريتة
ست الدوكة عفريتة
ليمونة ليمونة
ست الدوكة مجنونة”
ويقصد بست الدوكة المرأة التي تقوم بال(عواسة) وتحضير الطعام.
انها عادة يحتفل بها السودانيون منذ القدم وموعدها الخميس الأخير من شهر رمضان، يجعلونه موسماً للصدقات على أرواح الموتى من الأقارب، ويعرف هذا اليوم بيوم (الرحمتات)، وهو اسم من مقطعين (الرحمة- تأتي)، ويسمى أيضا ب(عشى الميتين)، وتعقبه الجمعة الأخيرة من الشهر الفضيل ويسمونها بـالجمعة اليتيمة.
في هذا اليوم تخرج الأسر الصدقة ترحما على الأموات من الأسرة، فتقدم للأطفال طعاما أو مالا.
خلال الستينات والسبعينات عندما كنا أطفالا ويفع؛ كنا نخرج في يوم الحارة بتلقائية محببة لنجوب غالب بيوت القرية، فتتلقانا أمهاتنا وخالاتنا وحبوباتنا بكل بشر ورحابة صدر، فنطعم من أيديهن الطاهرات ثريدا وقراريص دون بخل او إستنكاف منهن لإخراج كل شهيّ وطيب من الطعام، وكانت نوعية الطعام التي نحظى بها (الفتة)، وهي مكونة من كسرة الذرة الرفيعة حيث يقطع عليها الخبز (الرغيف)، ثم يكلل الصحن بالأرز وتنثر فوقه قطع اللحم، تنادينا ست البيت بعد مقاطع واحتشاد منا بهتاف الحارة، وكنا نستدل أحيانا مسمى ست الدوكة باسم ست البيت التي تصنع الطعام، مما يجعل ذلك النساء يغدقن علينا أكثر، ثم يقدم لنا الحلومر البارد، وهو شراب محلي اشتهر به السودانيون في رمضان.
البعض يرى هذه العادة شبيهة بعادة (القرقيعان) أو (القرنقشوه) في بلدان الخليج العربي وتركيا وبعض بلاد اسلامية أخرى, لكنني اختلف مع هذا الرأي لسببين:
الأول أنها مرهونة في السودان بيوم بعينه وهو الخميس الأخير من رمضان، بينما القرقيعان يحتفل به في يومين مختلفين، أحدهما منتصف شعبان والثاني في منتصف رمضان.
والسبب الثاني أن الملمح العام للقرقيعان هنا في الخليج وبقية الدول فيه بصمات شيعية واضحة، حيث يوافق قرقيعان نصف شعبان مولد الإمام المهدي، ويوافق قرقيعان نصف رمضان مولد الإمام الحسن.
التقيت البروفيسر العباس سيد أحمد، وهو العالم الذي ترجم وصية الأمير خوليوت ابن بعانخي من اللغة الكوشية الى العربية، فقال لي بأن عادة وطقوس الحارة/الرحمتات أصلها كوشي قديم، ومعلوم أن الكوشيون كانوا على دين آمون رع القائم على التوحيد، وقد تداخلت عبادة آمون باليهودية لاحقا حيث دلت على شواهد عديدة، منها تشابه وصية خوليوت ابن بعانخي بالوصايا العشر التي انزلت على موسى عليه السلام في الألواح، وكذلك وجود ثلمة (الشريمي) من جبل البركل والتي تم نقشها إلى شكل ثعبان يرمز إلى عصا موسى عليه السلام التي حولها الله إلى ثعبان، وهناك ايضا قصة وزير مالية الكنداكة الذي كانت ترسله أماني ريناس بالمحمل إلى أورشليم (القدس)، وقد رسمه الرسام الايطالي رامبرانت في لوحة اسماها (الخصي الأثيوبي).
الذي يهمني في هذا المقال القاء الضوء على بعض المظاهر والفعاليات المجتمعية التي ترفدنا بالكثيف من الإيجاب، وليس الأمر مني نفخ للروح في (عادات) لاوصل لها بالاسلام.
والحارة/الرحمتات تكاد تصبح نسيا منسيّا مع اضطراد حراك الحياة وتسارع رتم العولمة فينا، وأحسبها من العادات التي تضيف ايجابا طالما ارتهنت بمظهرية الصدقة على عمومها، والصدقة باسم الأموات عندما يتخير لها الأطفال فإن ذلك يشكل وجدانهم ايجابا ويضيف الى المجتمع قيمة وصل الأجيال، واقترح بأن تسعى ست البيت عند تقديمها لصدقتها للأطفال إلى الدعاء لميتهم فيؤمن الأطفال.
أما نحن فلانملك إلا الترديد مع شاعرنا ود بادي:
كل فضيلة في الأجداد
أبت ما تبقي في الأحفاد
ومسكت في النعوش
الطاهرة وإندفنت مع
الجثمان.
ياترى هل من عودة لتلك الفضائل؟!
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
مجاعة غزة أجبرت الأهالي على مقايضة ما يملكون من أجل الطعام
تحت حصار إسرائيلي خانق مستمر منذ أكثر من شهرين، يعيش قطاع غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث، مع تحذيرات متزايدة من اقتراب المجاعة الشاملة وسط ارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية الأساسية ونفاد المساعدات، ما يهدد حياة أكثر من 2.4 مليون إنسان، غالبيتهم من النساء والأطفال.
في أسواق غزة، التي باتت شبه خالية من الزبائن، تسجل أسعار الخضروات والحبوب والوقود أرقاماً فلكية تفوق القدرة الشرائية لأغلب المواطنين.
يقول المواطن حسن رسمي لوكالة "الأناضول": "سعر كيلو البطاطا بلغ 10.80 دولارات، والبصل كذلك، أما الطماطم فتباع بـ7.30 دولارات، والباذنجان بـ8.10، في حين ارتفع سعر كيلو الدقيق إلى 9.45 دولارات".
كيلو الدقيق بـ10 دولارات ولتر الوقود بـ27
ويضيف أن كيس الطحين الذي يزن 50 كيلوغراماً تجاوز حاجز 400 دولار، أي ما يعادل راتب شهر كامل، بل أكثر، بالنسبة لغالبية سكان القطاع.
يؤكد رسمي أن الارتفاع المهول في الأسعار لم يعد صادماً للفقراء وحدهم، بل إن حتى العائلات التي كانت تُعد ميسورة لم تعد تقوى على شراء الحد الأدنى من احتياجاتها، مضيفاً أن معظم السكان باتوا يعتمدون على ما تبقى لديهم من مؤن، أو يلجأون إلى المقايضة إذا ما توفرت لهم سلع يمكن مبادلتها.
وفي أحد الأسواق القليلة التي لا تزال قائمة وسط الركام والدمار، تنقّل المواطن أحمد إبراهيم بين البسطات القليلة المتبقية بحثاً عن كيلو طحين يناسب ما تبقى في جيبه.
ويروي إبراهيم مشهداً مؤلماً شاهده بأم عينه: "رجل يقايض ربع كيلو من القهوة التي كان يحتفظ بها في بيته مقابل كيلو طحين". مشهد يلخص انهيار المنظومة المعيشية والاقتصادية في القطاع المحاصر.
ويحكي خالد عبد الرحمن أنه اضطر لشراء كيلو طحين مقابل 35 شيكلاً، وهو كل ما تبقى له من مال، ليكتشف لاحقاً أنه مملوء بالسوس. يقول بحزن: "رغم فساده، نأكله لأنه الخيار الوحيد. نخلطه مع الأرز أو المعكرونة حتى نشبع الأطفال، المهم أن يناموا دون بكاء".
أما سعر الوقود فقد بلغ مستويات لا تُصدق، إذ تجاوز سعر اللتر الواحد 27 دولاراً، ما اضطر السكان إلى التخلّي عن استخدام السيارات واللجوء إلى وسائل بدائية كالدراجات الهوائية والعربات التي تجرها الحيوانات.
"جريمة تجويع منهجية"
ومنذ الثاني من آذار/مارس الماضي، أغلق الاحتلال الإسرائيلي معابر القطاع بشكل كامل، مانعة دخول المساعدات الغذائية والطبية والوقود، في ما وصفته تقارير دولية بأنه "جريمة تجويع منهجية"، حيث حذرت منظمات حقوقية وحكومية من كارثة إنسانية متسارعة، مع تعمّق معاناة السكان الذين يعتمدون بشكل كامل على المساعدات الخارجية منذ اندلاع العدوان المستمر منذ 19 شهراً.
وتُقدّر بيانات البنك الدولي أن الغالبية الساحقة من سكان القطاع باتوا تحت خط الفقر، بعدما دمّرت الحرب المتواصلة مصادر الدخل وفرص العمل والبنية التحتية.
وفي ظل نزوح أكثر من 90 بالمئة من السكان من منازلهم، يعيش كثيرون في ملاجئ مكتظة أو يفترشون العراء دون مأوى، ما فاقم من تفشي الأمراض ونقص الرعاية الصحية.
ويقول محمد جميل، وهو أب لخمسة أطفال، إن "المخزون لا يكفي لأيام، والأطفال وكبار السن يواجهون الموت البطيء بصمت"، مضيفاً أن "وجبة اليوم باتت ترفاً نادراً". وتابع بحزن: "نقتات على خليط من الرز والدقيق الفاسد... بعض أكياس الطحين تفوح منها رائحة عفن، لكننا مضطرون لأكله، فقط كي لا ينام الأطفال جياعاً".
"المطبخ المركزي العالمي" خارج الخدمة
وفي ضربة جديدة للجهود الإنسانية، أعلنت منظمة "المطبخ المركزي العالمي" الأربعاء الماضي أنها لم تعد قادرة على تقديم وجبات الطعام في غزة، بعد نفاد الإمدادات الغذائية وشحنات الوقود الضرورية للطهي وإعداد الخبز.
وقالت المنظمة إنها وزّعت خلال الأشهر الثمانية عشرة الماضية أكثر من 130 مليون وجبة و26 مليون رغيف خبز في القطاع، لكنها أصبحت عاجزة الآن عن الاستمرار في ظل الحصار الإسرائيلي.
"الصليب الأحمر": العمل الإنساني انهار
وحذّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الخميس الماضي، من "انهيار وشيك للعمل الإنساني"، واصفة الأوضاع في غزة بـ"الجحيم على الأرض".
وقال المتحدث باسم اللجنة هشام مهنا إن "الحياة اليومية تحوّلت إلى معركة من أجل البقاء في ظل نزوح جماعي وفقدان الأحبّة وحرمان تام من الغذاء والماء والرعاية الصحية والمأوى".
65 ألف طفل مهددون بالموت جوعا
من جهتها، أعلنت حكومة غزة أمس الجمعة أن أكثر من 65 ألف طفل في القطاع باتوا مهددين بالموت جوعاً نتيجة سوء التغذية، محذرة من أن "الاحتلال الإسرائيلي يُهندس مجاعة تفتك بالمدنيين"، وفق بيان صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي.
وأوضح البيان أن الاحتلال الإسرائيلي منع دخول أكثر من 39 ألف شاحنة تحمل مساعدات غذائية وطبية ووقود منذ أكثر من 70 يوماً، ما أدى إلى توقف جميع المخابز في القطاع عن العمل منذ 40 يوماً، وحرمان السكان من الخبز، الغذاء الأساسي، مما فاقم المجاعة، خاصة بين الفئات الأضعف كالأطفال وكبار السن.
وفي خطوة اعتبرها مراقبون مثيرة للريبة، أعلن السفير الأمريكي في الاحتلال الإسرائيلي عن عملية "ستبدأ قريباً" لتوزيع مساعدات غذائية في قطاع غزة دون تدخل من الحكومة الإسرائيلية، بحسب ما نقلته صحيفة "جيروزاليم بوست".
لكن البيان لم يتطرق إلى أماكن مراكز التوزيع، ما أثار الشكوك حول أهداف المبادرة، خاصة في ظل ترويج الاحتلال الإسرائيلي لمخطط يهدف إلى "إفراغ شمال غزة من سكانه".
وتحت غطاء الدعم الأمريكي، يواصل الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 تنفيذ واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية، بحسب وصف منظمات حقوقية، حيث أسفرت الحرب عن سقوط أكثر من 172 ألف بين شهيد وجريح، أغلبهم من النساء والأطفال، فضلاً عن أكثر من 11 ألف مفقود، وسط دمار غير مسبوق للبنى التحتية والمرافق الحيوية.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، تبدو المجاعة في غزة ليست مجرد خطر مستقبلي، بل واقع يطرق أبواب عشرات آلاف الأسر، بينما تواصل إسرائيل منع الغذاء عن المحاصرين، والعالم يكتفي بالتنديد دون تحرك فعلي لوقف الجريمة المستمرة.